شهدت أسعار الذهب ارتفاعا صاروخيا أثناء جائحة كورونا، لكن التنقيب عنه يزداد صعوبة عاما بعد عام. كريس بارانويك يسلط الضوء على التحديات ونقاط الخلاف في واحد من أكبر المناجم المخطط لإقامتها في المملكة المتحدة.
منذ 1,000 يوم، تقف مقطورة سكنية تحمل لافتات على جانبيها تقول: "لسنا خائفين. هذه أرضنا. وهذا وطننا، وسنفديه بحياتنا". وترفرف حولها الأعلام الأيرلندية. فقد اتخذ بعض سكان مقاطعة تيرون في أيرلندا الشمالية من هذا الموقع مقرا للاعتصام، احتجاجا على خطط إقامة منجم للذهب.
وعلى مدى 450 مليون عام انتشرت عروق الذهب في الصخور في باطن الأرض بمنطقة كوراينالت في ركن قصي من جبال سبرين في أيرلندا الشمالية. لكن خطط إقامة منجم في المنطقة، التي ظلت موضع بحث وخلاف لعقود، لم تدخل حيز التنفيذ بعد.
وقد تجدد النقاش مؤخرا حول إقامة منجم للذهب في المنطقة بعد أن تقدمت شركة تعدين مؤخرا بطلب لاستخراج طبقات من المعدن الثمين. وتقول شركة "دالراديان غولد" إن هذا المنجم قد يسهم في خلق فرص عمل وسيجلب أموالا إضافية للمنطقة. لكن الكثير من سكان المنطقة لا يريدون إلا بقاء الأوضاع على ما هي عليه.
وتقول فيديلما أوكان، أخصائية اجتماعية متقاعدة ومحاضرة مهتمة بالآثار البيئية المحتملة للمنجم: "أكرس كل وقتي لهذه الحملة، وأشعر أنها مستقبلنا. فإن أشد ما أخشاه أن يسمم هذا المنجم المياه والهواء ويلوث الأرض، وفي النهاية سيؤثر سلبا على صحة السكان". مؤكدة أنها لن تقبل بوجود منجم من أي نوع في هذه المنطقة.وتقول شركة "دالراديان غولد"، إنها وضعت تدابير وإجراءات عديدة لحماية البيئة، ووعدت بأن يعود المشروع بفوائد اقتصادية عظيمة على السكان. وعندما نشرت الشركة المخطط المقترح للمنجم عبر الإنترنت، اجتذب عشرات الآلاف من التعليقات أغلبها كان سلبيا، وتعتزم الحكومة فتح تحقيق عام لاتخاذ قرار بشأن مشروع المنجم.
عارض بعض سكان منطقة غورتين خطط إقامة منجم ذهب
ويقول خبراء إن منجم ذهب كوراينالت، الذي يرى البعض أنه يبشر بانتعاش اقتصادي لأيرلندا الشمالية التي تضاءلت فيها فرص العمل والاستثمار طيلة فترة الصراع الذي استمر 30 عاما، قد يصبح أكبر منجم ذهب في المملكة المتحدة، إذا مضت الأمور كما هو مخطط لها.
لكن هذه الخطط أثارت تساؤلا في منطقة جبال سبرين، حول جدوى استخراج الذهب من باطن الأرض.
ولعل الوقت الآن مواتيا تماما لطرح هذا التساؤل، إذ شهدت أسعار الذهب ارتفاعا غير مسبوق أثناء جائحة كورونا، ما أشعل الرغبة في تنفيذ مشروعات الحفر وعمليات التنقيب غير القانونية في بعض الأجزاء من غابات الأمازون. غير أن استخراج الذهب من باطن الأرض أصبح أصعب من أي وقت مضى. فبخلاف التحديات التقنية، تعرقل عمليات التنقيب احتجاجات بيئية وعوامل سياسية لا يمكن التنبؤ بها.
وفي العام الماضي تراجع إنتاج الذهب عالميا بنسبة واحد في المئة، وهو أول تراجع منذ عقد، بحسب مجلس الذهب العالمي. ويرى بعض المحللين أن إنتاج الذهب قد بلغ ذروته، أي أن إنتاج الذهب سيأخذ في الانخفاض حتى يتوقف التنقيب عن الذهب كليا.
لكن على النقيض لا توجد أية مؤشرات لتباطؤ الطلب على الذهب.
ويقول مات ميلر، نائب رئيس أبحاث رأس المال بشركة البحوث والتحليلات المالية "سي إف آر أيه": "إن مقومات الاستثمار في الذهب الآن لم تكن أقوى قط مما هي عليه الآن".
وتشير تحليلات الشركة إلى أن نحو نصف الذهب في العالم، باستثناء المدفون تحت الأرض، يستخدم في تصنيع الجواهر. أما عن النصف الآخر، فتستحوذ البنوك المركزية على الربع، ويمتلك الربع الأخير المستثمرون في القطاع الخاص أو يستخدم في الصناعة.
وتجاوز سعر أوقية (أونصة) الذهب 2000 دولار هذا الصيف، ولا يزال يفوق 1900 دولار، في حين أن أوقية الذهب منذ عشرين عاما كانت تباع بأقل من ربع هذا الثمن.
ويعزو المحللون هذا الارتفاع الأخير بعد ظهور جائحة كورونا المستجد إلى تراجع أسعار العملات، بما فيها الدولار الأمريكي. ويقول المحللون إن الحكومات تقترض مبالغ ضخمة لتمويل خطط الاستجابة للجائحة وتطبع أموالا لسد العجز المالي، وهذا يعني أن قيمة العملات أصبحت أكثر تقلبا.
في حين أن الذهب يعد أحد الأصول المستقرة التي لا يوجد منها إلا كميات محدودة، ولهذا يرى المستثمرون أن الذهب جدير بالثقة.
التساؤلات والاحتجاجات من بعض سكان منطقة غورتين أدت إلى فتح تحقيق عام
لكن الجائحة من جهة أخرى عرقلت عمليات التنقيب عن الذهب، ومن غير المتوقع أن يقفز المعروض من الذهب لتلبية الطلب المتزايد عليه في الوقت الحاضر. ويرى ميلر أن ثمة مؤشرات أزمة كبرى سيواجهها قطاع تعدين الذهب.
ويقول: "أرى أن الطلب على الذهب سيواصل الارتفاع، وأن الذهب المعاد تدويره سيسخدم في سد الفجوة بين العرض والطلب".
ويتوقع أن تصبح إعادة تدوير الجواهر القديمة والعملات المعدنية وحتى الكميات الضئيلة من الذهب في الأجهزة الإلكترونية، هي أهم مصادر الذهب مستقبلا. وتشير بيانات الشركة إلى أن نحو 30 في المئة من إمدادات الذهب في العالم على مدى العشرين سنة الماضية كان معاد تدويرها ولم تستخرج من باطن الأرض.
وتستخدم معامل تكرير الذهب الخردة، من الجواهر والعملات والسبائك القديمة، كيماويات سامة وطاقة في عمليات تكرير الذهب، لكن تداعياتها على البيئة قد تكون أقل بمراحل مقارنة بالتنقيب عن الذهب. وخلصت دراسة عن معامل تكرير الذهب في ألمانيا إلى أن إنتاج 99.9 في المئة من الذهب النقي عبر إعادة التدوير تستهلك كميات أقل من الكربون بنحو 300 مرة مقارنة بالتنقيب عنه في المناجم.
فإعادة تدوير كيلوغرام واحد من الذهب تنتج 53 كيلوغراما من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، لكن التنقيب عن كيلوغرام واحد من الذهب قد ينتج 16 طنا من مكافئ ثاني أكسيد الكربون. أما إعادة تدوير الذهب من الأجهزة الإلكترونية فتنتج طنا من مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكل كيلوغرام.
وكشأن أي عمليات صناعية واسعة النطاق، فإن التنقيب عن الذهب قد يكون له تداعيات سلبية على البيئة في المنطقة. ولهذا أصبحت الاحتجاجات الشعبية إحدى العوائق التي تحول دون إنتاج الذهب في بعض المناطق من العالم، وليس في تيرون فحسب. وبعد سنوات من الاحتجاجات على إقامة منجم باسكوا لاما في تشيلي بسبب آثاره على البيئة، أوقفت الجهات التنظيمية المشروع.
الطلب على الذهب يواصل النمو، لكن المعروض من المناجم يتناقص
وتنتج مناجم الذهب الكبرى في العالم أطنانا عديدة من الذهب سنويا، لكن أكبرها في العالم هو منجم ذهب نيفادا في الولايات المتحدة الذي ينتج أكثر من 100 طن سنويا. وتوفر المناجم، حتى الصغيرة منها، فرص عمل ومصادر دخل للكثيرين في المجتمعات التي تقام حولها.
عوائق سياسية
أما عن كوراينالت، فإن الذهب في باطن الأرض لم يستغل لسنوات عديدة بسبب الصراعات الدموية في أيرلندا الشمالية. ففي فترة الاضطرابات، انتهجت جماعات سياسية وطائفية العنف، ونفذت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات.
وعندما حاولت إحدى الشركات في الثمانينيات من القرن الماضي إقامة منجم في كوراينالت، خاضت معارك للحصول على تصريح لاستخدام متفجرات، بسبب المخاوف الأمنية للحفاظ عليها في الموقع آنذاك.
وقد شارك أدريان بويس، أستاذ الجيولوجيا التطبيقية بمركز أبحاث البيئة لدعم الجامعات الأسكتلندية، في مبادرة تزامنت مع اتفاقية الجمعة العظيمة التي وضعت حدا للاضطرابات في عام 1998، لدراسة تضاريس كوراينالت وتقييم فرصها التجارية.
ويقول بويس: "كانت تمثل أملا لشعب أيرلندا الشمالية، وهذا هو التأثير الذي لمسته آنذاك في وقت لم تكن فيه أيرلندا الشمالية جاذبة للمستثمرين".
ويشير بويس إلى حادثة تفجير سيارة مفخخة، نفذتها جماعة تطلق على نفسها اسم الجيش الجمهوري الأيرلندي في أوماه، في أغسطس/آب 1998، وراح ضحيتها 29 شخصا. وتبعد أوماه 20 دقيقة بالسيارة عن كوراينالت. ورأى البعض أن الآفاق الاقتصادية لمنجم ذهب جديد ستساعد أيرلندا الشمالية في طي صفحة الماضي، وستعطي سكان المنطقة أملا في المستقبل.
وفي التسعينيات من القرن الماضي، أحبطت أسعار الذهب خطط إقامة منجم للذهب. لكن بويس يقول إنها لم تعد تمثل عائقا الآن. وبحسب تقديرات دالراديان، فإن المنجم قد ينتج 130 ألف أوقية (أربعة أطنان) سنويا لمدة 20 سنة أو أكثر. وهذا يجعله فريدا من نوعه في المملكة المتحدة.
ويقول بويس: "سيكون منجم كوراينالت أكبر منجم ذهب على الإطلاق في تاريخ المملكة المتحدة".
لكن منجم كوراينالت يواجه التحديات التي تواجهها مشروعات التنقيب عن الذهب في 2020، ولا سيما إذا كانت في منطقة ذات مناظر طبيعية آخاذة، إذ يقع المنجم في جزء قصي من أيرلندا الشمالية محاط بالمزارع والغابات البرية.
ومنذ عام 2009، تجري دالراديان عمليات حفر لاستخراج عينات من باطن الأرض في موقعها في كوراينالت، وتروج لخطط المنجم بين سكان المنطقة. وتتضمن خططها بناء منجم تحت الأرض واستخراج الخام ومعالجة كميات منه في تيرون وكميات في الخارج.
وبعد معارضة شرسة، أعلنت دالراديان تراجعها عن خطط استخدام السيانيد في الموقع. إذ تستخدم في بعض عمليات التنقيب عن الذهب محاليل تحتوي على سيانيد لإذابة الذهب من الخام المستخرج من الأرض، لتسهيل استخلاص المعدن وتجميعه.
وذكرت دالراديان أنها خفضت استهلاك الماء بنسبة 30 في المئة وانبعاثات الغاز بنسبة 25 في المئة، ليصبح أول منجم محايد الكربون في أوروبا.
وأعرب المحتجون عن مخاوفهم من أن تصرّف المواد الكيماوية في الأنهار المجاورة وتؤذي الحياة البرية. ويزعمون أن تلوث الهواء من المنجم قد يؤثر على صحة السكان. ويخشون أيضا من أن تترك النفايات المستخرجة من المنجم على الأرض وتشوه المناظر الطبيعية في المنطقة.
تعود الأنشطة البشرية في جبال سبرين إلى آلاف السنوات
وقد اتفقت "بي بي سي" مع الشركة على زيارة موقعها في تيرون، لكن دالراديان ألغت الزيارة دون إبداء سبب.
وذكر المتحدث باسم دالراديان في بيان سابق: "إن هذا المشروع آمن ومسؤول بيئيا وسيجسد نجاح المناجم الحديثة الأخرى في أوروبا". وأضاف: "هناك عملية تخطيط صارمة ومستقلة تفحص بدقة كل خطوة من المشروع ليلبي المعايير المحددة. وعقدنا نحو 100 اجتماع مع الجهات التنظيمية، ولم تبد وكالة الصحة العامة أي اعتراض على المشروع".
وذكر أن النفايات التي ستستخرج من المنجم لن يتعدى سمكها 17 مترا وستوضع في تجويف طبيعي وستنتسجم مع المناظر الطبيعية في المنطقة.
وقد تقدمت دالراديان بطلب للحصول على تصريح بالتخلص من بعض المواد، ومنها المعادن الثقيلة، في النهر المجاور، وتضمنت قائمة المواد بعض المواد الأكالة، مثل حمض الكبريتيك وهيدروكسيد الصوديوم. وقال المتحدث باسم الشركة إن هذه المواد لن تستخدم بانتظام، لكن ينبغي أن تُدرج ضمن القائمة لأنها ستُخزن في الموقع.
وأضاف أن الشركة تعتزم إقامة محطة معالجة للمياه، مشيرا إلى أن المنجم سيوفر فرصا هائلة في وقت يواجه فيه اقتصاد أيرلندا الشمالية مستقبلا غامضا بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبينما يقول معارضون للمنجم، مثل أوكين، إنهم لن يوافقوا على إقامة منجم تحت أي ظروف، فإن البعض بالتأكيد لا يمانعون إقامة منجم في المنطقة.
ومن الصعب معرفة عدد المؤيدين والمعارضين للمنجم تحديدا في تيرون، لكن بوابة تخطيط البنية التحتية بأيرلندا الشمالية تضمنت أكثر من 41 ألف تعليق على خطط دالراديان، كان 90 في المئة منها معارضا.
ويقترح بويس، أن يُترك القرار للسطات، التي ستجري تحقيقات وتتحرى مصالح السكان قبل إصدار قرار بصدد مشروع المنجم. ويقول: "سيؤدي السياسيون المهام التي يتقاضون أجورهم من أجلها".
وقد أثيرت في السنوات الأخيرة احتجاجات على خطط لإقامة منجم آخر في اسكتلندا في متنزه لوتش لوموند الوطني. ويقول بويس إن السكان أعربوا عن مخاوف بيئية، لكن المشروع حظى بتأييد وحصل على رخصة بناء في النهاية. وسينتج المنجم الذهب في نوفمبر/تشرين الثاني.
ويقول كريس مانسيني، محلل أبحاث بصندوق غابيلي للذهب، إن منجما للذهب في كوراينالت سيجتذب حتما اهتمام المستثمرين، ويرى أنه لن يؤذي البيئة.
لكن أوكين وغيرها من المعارضين يقولون إن المنجم يهدد هوية المكان الذي يعيشون فيه. وتقول أوكين: "هذه المنطقة بديعة وصنفت بين المناطق ذات الجمال الطبيعي الخلاب، ولا نريد أن تتحول إلى منطقة صناعية. سنفقد صورة بلدنا الخضراء النظيفة للأبد".
لا شك أن جهود دالراديان أثارت جدلا واسعا في المنطقة، ولعل هذا النوع من الجدل سيزداد انتشارا في بلدان أخرى طالما واصلت أسعار الذهب الارتفاع وبذلت الشركات جهودا حثيثة للبحث عن كميات ضئيلة ولكن مربحة من رواسب الذهب في مناطق حديثة العهد بالتنقيب عن الذهب.
المصدر