و هذا ما جرى هنا ...بكل جروحه ..بكل صرخاته المكتومة ...بكل تهديداته الفظيعة لأبنائنا ..لا أدري لماذا تذكرت قول نزار و أنا أنهي قراءة هذه القصة للمرة الخامسة :( مسافرون نحن في سفينة الأحزان ... قائدنا مرتزق و شيخنا قرصان ) .
جملة ( الزمان مريض بالاستعجال) تصلح بؤرة للدلالة هنا .. يعزز حضورها البؤري هذا توسطها أمكنة النص : شنطة الملابس ٫ المدن المسعورة ٫ حجرها ٫ خلف مبنى مهجور ..... حجرها ٫ حجرها ٫ شنطتها ٫ خلف المبنى المهجور .
توسط ليس بالوحيد إنما هو الآخر لتوسط ( مؤسس ) آخر .. توسط لأزمنة النص إذ جاءت الجملة رابطة بين الزمن الرابع ( إحدى الليالي ) و قبل الزمن الخامس ( ها كبرنا ) الذي يشكل انطلاقة زمن رواية ثانٍ .. فالقصة احتوت على ثلاثة أزمنة زمن بدأ بداية القصة بقول الراوي ( تطلقت أمي قبل ..) و كل جزئيات هذا الزمن من أماكن و أحداث وقعت داخله .. حتى شرع بقوله ( ها كبرنا ) الذي أسس لزمن آخر هو الحاضر .. إذن لدينا زمن يمثل الماضي و زمن آخر يمثل الحاضر .. لكن أين هو الزمن الثالث؟ إنه الزمن غير المصرح بحوادثه و عناصره المدمجة الأخرى الذي يقع قبل ( تطلقت أمي ... ) و الذي يجسد سبب الأزمة و نقطة انطلاق الأحداث .
لذلك كله يشكل الزمن في النص بؤرته .. و قد وصفه بأنه ( مريض بالاستعجال) .. لكن ما السر وراء هذا الوصف ؟؟؟ .
إذا فهمنا أن الأب هنا يمثل السلطة فإن الأم تمثل القيادة البديلة التي تؤسس شرعيتها من الارتباط العاطفي الصادق و الحرص العميق على الأبناء .. و هو ما لا يستطيع أحد التشكيك فيه و النيل من صورته الصادقة .. مع أن النص لم يصرح بأن الرجل أب للأطفال بل هو زوج أمهم و في ذلك دلالة يجب الوقوف عندها .. و إذا كان الأب أو زوج الأم هو السلطة و الأم هي القيادة البديلة غير المشكوك في صلاحيتها يمكن تصور الأبناء كل ما بين السلطة و قيادة صالحة خارج التسلط .. إنهم المعادل للشعب أو الأمة .. و الأزمة أزمة عائلة كبيرة لا صغيرة .. و ها هنا هل آن الوقت للتساؤل بجرأة أكبر عن : الزمان مريض بالاستعجال؟ عبر : هل استعجلت الأم بالفرار من الزوج السكير؟ لا سيما و أنها تطلقت فلماذا الفرار ؟ هي لم تهرب منه بل تطلقت .. فمالذي دفعها لهذا الفرار إلى المدن المسعورة ؟!
هل استعجلت حين حكت لهم مائة حكاية في ليلة واحدة؟ لماذا تعرضهم لمائة تجربة في ليلة واحدة من التاريخ؟!!
أ لذلك و رغم انتصارها على الشاب تلك الليلة لم تفلح في وضعهم على مسار صحيح كنتيجة حتمية لمثل هذا المخاض المرير؟!
هل استعجلت مرة أخرى و هي تعود بأحفادها إلى ذلك المكان المهجور رغم علمها بما حدث فيه ؟!
إن هذه الاستفهامات ليست بصدد البحث عن مسؤولية النتيجة و التنقيب في احتمالات اجتماعية كمغذيات للتجربة التي مر بها الثلاثة و أمهم .. بل هي استفهامات عن دلالة الزمن المريض بالاستعجال .. عن نضج قيادة تثق طفولتنا بها و كان يجب أن نفهم أنها غير صالحة للقرار بل للاحتواء زمن الطفولة .. و أن العاطفة شيء و قيادة الحضارة شيء آخر .. و لذلك كان خيار الأم الوحيد هو ذلك المبنى المهجور بكل ما يحمله من دلالات .. و العودة للتجربة ذاتها رغم معرفة النتائج مسبقاً .
النص في مضمراته الدلالية يحمل نقداً واعياً و سابقاً لأوانه - بهذه الطريقة- لجهة مؤتمنة و صادقة كبديل لمفهوم السلطة .. نقد يحاول إثبات أن هذه القيادة لا تصلح للقيادة رغم قسوة السلطة و فقدانها الشرعية .. لا لأنها سيئة بل لأنها غير ناضجة و غير مؤهلة رغم صدقها و ارتباطها العاطفي الحقيقي .
هامش : قد تكون القيادة ضابطاً متحمساً .. رجل دين ثائر ...... الخ .
كدت ُُ أبكي حين وصلتُ سطورك الاخيرة .
شكرا استاذنا الكبير