هو ابن الشقاء، الثائر الذي لم يلق في طول الطريق سوى اللصوص، الذي أبدا لم يدّع البطولة لكنه وفي نهاية مشواره مات كالفرسان بحثا عن بطولة.
سيكون من الصعب ربط اسم الشاعر المصري نجيب سرور بخط إبداعي محدد للتعريف به، فهو الشاعر والمؤلف والمخرج المسرحي والممثل والمترجم والناقد، وفوق كل ذلك هو الثائر الذي ضرب بثورته الجارفة ينبوع الإبداع.
ومع كل ذلك التنوع الإبداعي كان سرور مختلفا لا يشبه أحدا سوى نفسه، فلم يكن امتدادا لأحد المبدعين، لكنه كان ظهيرا واضحا للمقهورين، فرفع راية قضيتهم فوق صدره طوال حياته حتى وافته المنية.
وبعد مضي أكثر من 40 عاما على رحيله، ومع استمرار القهر في العالم يظل إبداع سرور باقيا معبرا عن مآسي من لا يجيدون التعبير.

بداية الشقاء
في ثلاثينيات القرن الماضي وداخل بيت مطلي بالشقاء بدأت مشاهدات الصبي نجيب سرور على العالم الواسع، والذي سيكتشف بعد ذلك أنه رغم رحابته يضيق بالمقهورين والمهمشين، أولئك الذين سيسّخر لهم حياته كلها من أجل نجاتهم التي تمثل في نفس الوقت نجاته.

عاش سرور طفولته وصباه في قرية "أخطاب" بمحافظة الدقهلية، ووسط الحقول الحبلى بالحياة أدرك أن ثمة شيئا غير منضبط ينغرس في نفوس البشر، ذلك الشيء اسمه الظلم.
ولعل قصيدة "الحذاء" -التي كتبها عام 1956- تلخص بشكل دقيق ما صنعته "أخطاب" في تكوينه الثائر على الأوضاع غير العادلة، فيقدم نفسه في مستهل أبياتها باعتباره ابن الشقاء كباقي أشقياء قريته، لكنه يزداد عنهم بأنه رأى أباه يُضرب بحذاء عمدة القرية الذي يتصرف في أمورهم وكأنه الإله.
بذلك الحذاء تنهار صورة الأب العظيمة في ذهن الابن، ويبغض سرور كل سلطة ممثلة في العمدة، ويقرر الثورة على كل ما يجعله يتذكر مشهد إهانة أبيه، وفي ذلك لا يمكن الوصول إلى مدى حقيقة تلك الواقعة، لكن الحقيقة المؤكدة هي ثورية الإبداع في أعمال نجيب سرور.


سافر ابن "أخطاب" إلى القاهرة ليدرس الحقوق، لكنه اكتشف في السنة النهائية له بالكلية أنه لا يصلح للمضي في طريق القانون، فترك الجامعة ليلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية.
وفي أواخر الخمسينيات حصل على منحة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي في روسيا، وبالفعل سافر ممتلئا بحماسة المبدع الراغب في إثراء موهبته بمزيد من التعلم، غير أن الأمور جرت معه على طريقة شقاء "أخطاب".

في موسكو، التقى بطلاب مصريين وعرب يحملون نفس أفكاره اليسارية، لكنه عانى كثيرا من نظرتهم المتشككة به، فهو سافر عبر منحة رسمية، مما يعني -وفق رؤيتهم- أنه مؤيد للنظام السياسي المصري، وتطورت النظرة المتشككة ليضعوه في خانة الجاسوس الأمني.

ولأنه أصلا كان مناهضا لسياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فقد ظل متوجسا من كونه مراقبا من قبل عملاء الأمن الناصري في موسكو، وعليه عاش سرور في الغربة بين اتهامه بالعمالة وخوفه من الملاحقة الأمنية.

ويقول سرور في إحدى رسائله للناقد اللبناني محمد دكروب "دمغني التقدميون جميعا بالمباحثيين منذ الأسابيع الأولى لوصولي إلى موسكو.. ولم تشفع لي قصائدي ولا مقالاتي التي قرأها بعضهم، ولم يستطع أحد أن يصدق أن إنسانا شريفا يستطيع أن يخرج من مصر، من قبضة عبد الناصر.. أثناء أحداث 1959، في عز الاعتقالات السياسية الواسعة".
وأمام سيل الاتهامات، اضطر في حفل الاحتجاج على العدوان على كوبا إلى أن يهاجم علنا سياسات عبد الناصر الداخلية والخارجية، وهو ما كان من تبعاته فصله من البعثة الطلابية وتجريده من الجنسية، حتى أنه لم يستطع أن يسجل زواجه من سيدة روسية في السفارة المصرية بموسكو، ولا أن يسجل ابنه "شهدي" بعد ذلك.



استمرار المعاناة
انتقل صاحب "التراجيديا الإنسانية" بعد ذلك إلى المجر، ليعمل في مكتب إحدى الإذاعات العربية ببودابست، ولما اشتدت معاناته راسل الكاتب الصحفي رجاء النقاش ليحاول أن يجد سبيلا لعودته إلى مصر.

وبالفعل، عاد إلى بلده في عام 1964 لكن وحده بلا زوجته وابنه، وتم اعتقاله ليقضي بضعة أشهر في السجن ثم يخرج ليقدم عددا من الأعمال الإبداعية، ما بين الأشعار والمسرحيات التي لا تتخلى دوما عن قضايا المقهورين.
وما لبث أن حلت هزيمة 1967 ليعاود سرور الانتكاس العنيف الذي يرجح بعض المثقفين أن ذلك الانتكاس هو السبب الرئيسي في تعرضه لأزمات نفسية متكررة أودت به إلى مستشفى الأمراض العقلية.
وفي مسألة مرضه النفسي، اختلفت روايات مثقفين وأقرباء له، فمنهم من جنحوا إلى أن سرور قد ذهب عقله لدرجة أنه كان يمشي وينام في الشوارع حافي القدمين أشعث الشعر مرتديا ملابس ممزقة، في حين يقول آخرون إنه عانى من الاضطراب النفسي فدخل على إثره المستشفى أكثر من مرة إلى أن استرد عافيته الذهنية، وبين هذا وذاك هناك رأي يقول إن سرور ادعى الجنون احتجاجا على الجنون الذي أحاط به.

إرث إبداعي
ظل ما يجري في ريف مصر من ظلم يلقاه الفلاحون على يد أصحاب السلطة والمال هو رمز للمعاناة الإنسانية في إبداع سرور الذي نجح في تجسيد التراث الشعبي على خشبة المسرح ليساهم بشكل كبير خلال ستينيات القرن الماضي في حركة تعريب المسرح الذي سيطرت عليه لعقود الهوية الغربية، فقدم مجموعة من الأعمال المسرحية ترقى لأن تكون ملاحم شعرية، مثل "ياسين وبهية"، و"منين أجيب ناس"، و"يا بهية وخبريني"، و"قولوا لعين الشمس".
واستمر في كتابته للمسرح، فألف عدة مسرحيات شارك في تمثيل وإخراج بعضها، مثل "شجرة الزيتون"، و"الكلمات المتقاطعة"، و"الحكم قبل المداولة"، و"ملك الشحاتين"، و"آلو يا مصر"، ثم "ميرامار"، و"البيرق الأبيض"، و"القروش الثلاثة"، و"الشحاذ"، و"النجمة أم ديل"، و"أفكار جنونية في دفتر هاملت".

وفي عام 1971، هاجم سرور الطريقة التي عاملت بها السلطات الأردنية الفلسطينيين خلال ما عرفت بـ"أحداث أيلول الأسود" عبر مسرحيته "الذباب الأزرق"، وهي المسرحية التي منع الأمن المصري عرضها وصادر النسخ المطبوعة منها.



واستخدم نجيب سرور أيضا الشعر، ليبرز من خلاله القضايا التي تبناها مشروعه الأدبي من خلال دواوين هي "التراجيديا الإنسانية"، و"لزوم ما يلزم"، و"بروتوكولات حكماء ريش"، و"رباعيات نجيب سرور"، و"الطوفان الكبير"، و"فارس آخر الزمان" هو ديوانه الأخير الذي لم يكتمل.
وعلى أهمية دواوينه الشعرية إلا أن قصيدته "أميات" التي كتبها عام 1961 ظلت هي الأكثر شهرة له رغم منعها من قبل السلطات المصرية، سواء مكتوبة أو بتسجيل صوتي لمؤلفها.
وفي تلك القصيدة يبرز سرور غضبه الكبير ممن صنعوا معاناته الشخصية ومآسي الإنسانية كلها مستخدما ألفاظا اعتبرت خادشة للحياء.
وإلى جانب ذلك، ترك عدة شروحات نقدية جادة، منها "رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ"، و"تحت عباءة أبي العلاء"، و"هموم في الأدب والفن"، و"حوار في المسرح".
ولسرور تجربة سينمائية واحدة هي فيلم "الحلوة عزيزة"، حيث قام بالتمثيل مع الفنانة هند رستم والفنان شكري سرحان.
كيف كتب؟
وفي مقال حمل عنوان "كيف كتب نجيب سرور أعماله حقا؟" يتساءل الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد الذي كان صديقا للمبدع الراحل عن الكيفية التي كان يكتب بها أعماله.
ويذكر "كيف لهذا الكاتب أن يمضي نصف يومه بين زجاجات البيرة (الجعة) ولا يعود إلى بيته واعيا أبدا، ثم يكتب كل هذه المسرحيات الرائعة، ناهيك عن الشعر والمقالات؟ هذه أعجوبة نجيب سرور ومعجزته".
وعن الأزمة النفسية التي ألمت بسرور، يرى عبد المجيد أن أزمة صديقه حدثت مبكرا في روسيا حين كان موفدا في بعثة لدراسة المسرح، حيث أصابته تلك الرحلة بهواجس تسلطت عليه، أبرزها رعبه من كتبة التقارير من بعض طلاب البعثة نفسها "هذا الهاجس جعله يتوجس من كل شيء حوله ومن كل المثقفين، واستمر معه طول العمر".


ويستطرد "أصبح لديه هاجس بوجود الأعداء في كل مكان، وهذا أمر لن نعرف تفاصيله أبدا، ماذا كان يحدث هناك وجعل نجيب كذلك؟ سؤال إجابته ضائعة وستظل".
ورغم رحلة الشقاء التي انتهت برحيله في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1978 فإن سرور ترك الأمل ساطعا للأجيال القادمة، فقال في ديوانه الأخير

"فارس آخر الزمان"..
في يوم ما
من شهر ما
من عام ما
من قرن ما
سيجيء الفارس فوق براق


من أين يجيء؟ من الأعماق
أعماق الشعب الفارس، من أبناء الشعب
فلاح في عينيه صفاء النيل وإباء الأرض
الفارس جيل عملاق يتحدى أخطار الدرب
الفارس شعب سيهب
في يوم ما
من شهر ما
اعلان

من عام ما
من قرن ما