اشراقة الصباح ورومانسية الليل .. ذكري رحيل السندريلا ليلي مراد











يأتى صوتها من بعيد ليلقى فى قلوبنا حبات العشق، إنها إشراقة الصبح الدافئ المتدثر بنسيم البهجة والانطلاق، والعسل الصافى دون إضافات، تفتح عروقنا لتصب الفرحة وشغف الحياة، ننسلخ من عالمنا ونطفو معها على سطح القمر، حيث انعدام الجاذبية.. تلقى علينا دروس الحب وتزرع الأمل والتفاؤل فيتبدل الحزن ويغدو أملا، ترشدنا بسحرها على أقصر طرق السعادة "ازاى الناس بيقولوا عنها دنيا أحزان.. والسحر ده كله عايش منها أشكال وألوان " تنتظرها الزهور كى تلقى فى صدرها الشذى، وتلون أجنحة الفراشات، تأذن للنورس ان يطوف السماء فتغرد الطبيعة معها أحلى الألحان "الدنيا غنوة نغمتها حلوة .. إحنا اللى نطير ونغنيها.. الدنيا دى كلمة من غير ولا كلمة إحنا اللى نكمل معانيها". فى الحفلة الأسطورية يترقب كل العشاق طلتها الجميلة وسحرها الآسر كى تمنحهم شرف اللقاء، وعندما تهبط بوجهها الملائكى المضيء وفستانها الأبيض المزدان باللؤلؤ يتسابق عليها الجميع.. إنها سفيرة الحب ليلى مراد.



ليلى مراد
رغم النجاحات الكثيرة والبريق الذى أحاط حياتها الفنية، فإن مساحة الحزن شغلت حيزا كبيرا من حياتها، فمن البدايات كان حرمانها من تكملة تعليمها وإلحاقها بمدرسة تطريز، ثم دفعها للاشتغال بالفن فى سن مبكرة بتوجيه من الأب، يأتى بعد ذلك رحيل والدتها وتحملها مسئولية الإنفاق على أسرتها وتوفير احتياجاتها، ورغم ما تمتعت به من شهرة ونجومية جاءت زيجاتها الفاشلة والتى انتهت جميعها بالطلاق لتكمل عليها دائرة الحزن، أما الطامة الكبرى تمثلت فى محاولات البعض التشكيك بعقيدتها وعروبتها، كل هذه الاشياء تباعا خلقت داخلها شعور بالحزن ظل مصاحبا لها، وعندما احتجبت فترة عن الظهور حاولت أن تعود مرة أخرى، كانت هناك محاولات لإجبارها على الاعتزال وترك الحياة الفنية، لدرجة أنها صرحت فى إحدى حواراتها بقولها "كان ناقص يقوللى فوتى علينا بكرة".
نشأت ليلى مراد (16- فبراير- 1918/ 21-نوفمبر- 1995) فى أسرة فنية، الأب زكى مراد موردخاى المغنى اليهودى المعروف والذى اشترك فى أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش، والأم جميلة سالمون يهودية من أصل بولندى، كان لديها 9 أخوات، مات أربعة منهم فى سن صغيرة، وبقى (إبراهيم – ومنير مراد الملحن المشهور وملك ثم أصغر الأبناء سميحة) تلقت تعليمها فى مدرسة فيكتوريا حتى سن 13 ثم انتقلت بعد ذلك لمدرسة تطريز.
اكتسبت صوتها الجميل من والدها الذى اعتاد أن يقيم سهرات فنية فى بيته يدعو إليها اصدقاءه من أهل الفن، وفى إحدى الليالى دعاها للغناء واستحوذ صوتها على انتباه الحاضرين وكان من بينهم الملحن داود حسنى الذى اثنى عليها وقام بتدريبها، وعندما اكتمل صوتها صحبها والدها فى رحلة فنية طافت كل محافظات الوجه القبلى، ليذيع صوتها، وتوقع اتفاقا مع الإذاعة تغنى بموجبه كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع.



ليلى مراد



تبدأ السينما تزحف إليها من خلال صوتها فقط، عندما رشحتها بهيجة حافظ لتقدم أغنية فى فيلم «الضحايا» عام 1935 نظير اجر 5 جنيهات، ثم تواصل بعهدها الغناء فى الحفلات العامة وتتعاقد مع شركة اسطوانات، بعد ثلاثة أعوام يقع اختيار محمد عبد الوهاب عليها لتمثل أمامه فى فيلم «يحيا الحب» للمخرج محمد كريم الذى لم يقتنع بها فى بادئ الأمر بحجة نحافتها، وبعد إلحاح عبد الوهاب رضخ "كريم" ليكون أول أفلامها عام 1938، ويمثل الفيلم نقطة الانطلاق لبزوغ نجمها، فالعمل مع عبد الوهاب يمثل فرصة كبيرة تنجح فى استغلالها ويبدأ اسمها يتردد بعد نجاح الفيلم.
يدرك على الفور توجو مزراحى بحسه الفنى العالى بأن الأيام القادمة ستشهد نجوميتها، فيرشحها ليوسف وهبى لتعمل معه فيلم «ليلة ممطرة» عام 1939، وعند عرض الفيلم يشيد بادائها وصوتها ويبدأ اسمها يتردد بقوة، وهنا يسرع "توجو" باقتناص الفرصة ويوقع معها عقد احتكار لمدة عامين لا تعمل من خلالها إلا فى أفلامه، وهو الأمر الذى قوبل فى تلك الفترة باستغراب شديد، وتشهد الأعوام التالية أربعة أفلام كانت مثار حديث الناس، «ليلى بنت الريف» أمام يوسف وهبى، وشهد هذا العمل أول لقاء يجمع بينها وبين أنور وجدى الذى قام بدور صغير، ثم (ليلى بنت المدارس، وليلى) المستوحى من غادة الكاميليا و«ليلى فى الظلام» ويرتفع أجرها ليصل إلى 8 آلاف جنيه.
مثلت فترة عمل "ليلى" مع توجو مزراحى محطة مهمة فى مشوارها الفنى، والذى قدمت معه 5 أعمال، ساعدت على انتشارها بشكل كبير جدا، كما أن هذه الفترة أصقلت قدراتها التمثيلية، واستطاع أن يقدمها فى أدوار تناسب طبيعتها، واختار لها اسم "ليلى" ليظل مصاحبا لها فى مشوارها الفنى، كما ينجح فى أن يجعل لها شخصية فنية وتصبح ليلى مراد فى اقل من 5 سنوات أشهر مطربة وممثلة فى القطر المصرى، وعندما تتحدث ليلى مراد عنه تقول "لم أكن أعتقد وأنا أوقع عقدى مع الأستاذ توجو مزراحى انه سيأتى يوم أصل فيه إلى ما وصلت إليه الآن فى التمثيل، فقد افهمته آنذاك إننى مطربة فقط، أقوم بالأدوار الغنائية، وليس لى فى التمثيل، لكنه اجتهد معى وأخذ يخطو بى خطوة خطوة ويقفز بى وعندما رأيت نفسى لم أصدق عينى، فلن أنسى فضله على تعليمى وارشادي".



ليلى مراد
تنتهى مرحلة توجو مزراحى بكل نجاحاتها بعد أن وضعت ليلى مراد على طريق النجومية وبدأ تهافت المخرجين عليها، ويختارها كمال سليم لتمثل فيلم «شهداء الغرام» أمام إبراهيم حمودة وهو مستوحى عن قصة روميو وجولييت، وللأسف لم يحقق الفيلم النجاح المنتظر منه، مما يجعله يعاود التجربة مرة أخرى من خلال فيلم «ليلى بنت الفقراء» ولكن القدر لم يمهله لتحقيقه، ويظهر فى الصورة أنور وجدى الذى يكمل معها ما بدأه "توجو مزراحى" ويقترح عليها ان يقوم هو بإخراج الفيلم وإنتاجه وتمثيله، وبعد محاولات مضنية تجازف ليلى مراد وتقبل العمل تحت إشرافه، حيث انها التجربة الأولى فى الإخراج، كما انه لم يقم بأى بطولة فيلم من قبل، ويبذل "انور" قصارى جهده للعبور بالفيلم لبر الأمان واجتيار هذا الامتحان الصعب ملبيا كل طلبات ليلى مراد أثناء التصوير، وقبل أن ينتهى من المشاهد الأخيرة للفيلم، ولأن أنور وجدى لا يؤجل عمل اليوم للغد، ولأنه أدرك أن ليلى مراد ستكون مغارة على بابا التى ستغدق عليه الأموال، يفاتحها فى الارتباط، ويبدو أن هناك مشاعر حب متبادلة قد تولدت أثناء تصوير الفيلم، وينجح فى اقناعها بالزواج، ويضرب كل العصافير بحجر واحد، وتسير الأمور على ما يرام، حتى يرشحها أحمد سالم لبطولة فيلم «الماضى المجهول» من إخراجه وإنتاجه وتمثيله أيضا وهنا تنشب الغيرة فى قلب الزوج والمنتج وتحدث المشاكل ويحاول اثنائها عن المضى فى قبول الفيلم وعندما يفشل يكون الطلاق الأول بينهما.
يتدخل أهل الخير من اصدقائهما وتعود المياه إلى مجاريها وتقدم ليلى مع أنور «ليلى بنت الأغنياء» يعقبه ثلاثة أفلام على التوالى لم يشارك فى بطولاتها وهى (ضربة القدر، وشادية الوادى) أمام يوسف وهبى ممثلا ومنتجا ومخرجا، ثم «خاتم سليمان» أمام يحيى شاهين للمخرج حسن رمزى، ثم ما تلبث حتى تنشب المشاكل مرة أخرى ويتم الطلاق الثانى، وبعد مداولات ومناقشات كثيرة وتعهدات لم تنفذ، يعودان مرة أخرى، ويأتى عام 1947 ويقدما معا من جديد تحفتهما الجميلة «قلبى دليلي»، ثم يقدمهما نيازى مصطفى فى فيلم «الهوى والشباب»، لكنه لم يحقق النجاح المنتظر، وفى عام 1949 يأتى فيلمهما الخالد «عنبر» والتى تستغنى فيه عن اسم "ليلى" الذى ظل ملتصقا بها ويحقق الفيلم نجاحا باهرا، استطاع أنور وجدى ان يوفر له كل سبل النجاح، ونجح فى ان يطور من أداء ليلى مراد فى تقديم استعراضات لم يسبق ان قدمت من قبل فى السينما ووفر لها كل سبل النجاح من امكانيات وأموال، ثم تقدم فيلم «المجنونة» أمام محمد فوزى، ثم يأتى لقاءها الأشهر مع نجيب الريحانى «غزل البنات» والذى كان حديث الساعة محققا إيرادات خيالية، ثم بدأت ليلى فى العمل مع شركات إنتاجية أخرى (شاطئ الغرام،" وآدم وحواء) أمام حسين صدقى، وسببت هذه الأفلام غيرة أنور وجدى وبدأت المشاكل تتفاقم بينهما، وفى عام 1951 يقدمان معا فيلم «حبيب الروح» ولم يحقق النجاح الذى كانا ينتظرانه، وتقدم مع هنرى بركات «ورد الغرام» أمام محمد فوزى و«من القلب للقلب» أمام كمال الشناوى، وعندما تقدم «سيدة القطار» عام1952 نرى لمسات يوسف شاهين واضحة جدا على أدائها التمثيلى، بعد ذلك تقدم آخر أفلامها مع أنور وجدى «بنت الأكابر» والذى حاول فيه استثمار نجاحاتهما السابقة ولم يحقق ما طمحا إليه ويكتب فى الدعاية "هذا آخر فيلم يجمع بين ليلى مراد وأنور وجدي".
ورغم الحكايات المتناثرة حول توتر العلاقة بين هذا الثنائى الاستثنائى فى تاريخ السينما، والتى أضرت الاثنان معا، تبقى أعمالهما الخالدة تكذب كثيرا منها، وتؤكد مشاهدهما ان هناك حبا كبيرا جمع بين قلبيهما، نتج عنه هذه التحف السينمائية والتى فشل الاثنان فى تكرارها مع الآخرين.



ليلى مراد
تخوض ليلى مراد مجال الإنتاج وتقدم أمام يحيى شاهين «الحياة الحب» للمخرج سيف الدين شوكت ويشهد الفيلم عزوفا جماهيريا كبيرا ثم يأتى آخر أفلامها «الحبيب المجهول» أمام حسين صدقى للمخرج حسن الصيفى ليلقى نفس المصير وتعتزل ليلى مراد السينما، ولم يكن غريبا انه عند ذكر السينما الغنائية يقفز على الفور اسم السندريللا وكأنها الوحيدة التى غنت بالأفلام رغم وجود أسماء كبيرة، لكنها استطاعت أن تحتل مكانة بارزة وان تصنف الأولى على الأخريات، وإذا كان عام 1953 هو الذى شهد السطور الأخيرة فى حياة نجمة ألهبت القلوب وتربعت على عرش التمثيل والغناء أكثر من خمسة عشر عاما قدمت من خلالها 27 فيلما وأكثر من 1000 أغنية كتبها ولحنها أعظم مؤلفى وملحنى ذاك الزمن، ورغم مرور كل هذه السنوات ورغم تعاقب الأجيال ظلت ليلى مراد الحلم الجميل فى خيال السينما والجماهير.
خلال حقبة الأربعينيات كانت ليلى مراد النموذج الأمثل للفتيات، وأصبحت فاترينة لكل من تبحث عن الموضة والشياكة، فيأتى تقليد تسريحة شعرها واقتناء الموديلات التى تظهر بها فى أفلامها، واستحوذت أيضا على قلوب الرجال، فقد كانت الحلم الجميل لفتاة أحلامهم، اقتربت من قلوب الجماهير وسكنتها، فرغم البراءة الواضحة فى ملامحها تبدو الشقاوة النقية المقبلة على الحياة، وهى الوحيدة من كل نجمات السينما التى عنونت أفلامها باسمها، وتبقى أغنية "الميا والهوا" والتى شدت بها فى فيلم «شاطئ الغرام» أشهر أغنية فى تاريخ السينما، وسمى الشاطئ الذى غنت به باسم الفيلم حتى يومنا هذا، وأصبح مزارا لكل العاشقين من مختلف الأجيال. عندما نعرج على الحياة الشخصية لسندريلا السينما، يقفز الورق بكلمات تلخص ما عانته طوال مشوارها الفنى ونرى الحروف تقول "ياللى تقول الآه.. الآه تقول آه منك، قلبى فى ايده دواه والدوى موجود هنا عندك" ثلاث زيجات انتهت جميعها بالطلاق ولأسباب مختلف، فالزيجة الأولى رغم ما شهدته من نجاحات لم تستمر بعد طلقتين كانت الثالثة رصاصة الرحمة، ربما بسبب الغيرة أو النجاح أو الخيانة وكلها أشياء وردت فى أحاديث كثيرة، اما الزيجة الثانية فبدأت عندما تعرضت لإشاعة مغرضة بأنها تبرعت لإسرائيل بمبلغ 50 ألف جنيه وبعد متابعات ومداولات استطاع وجيه أباظة كشف المؤامرة فتم الزواج والذى أثمر عن طفلها الأول شريف ويتم الطلاق، ثم يتوسط أهل الفن فى الزيجة الثالثة من فطين عبد الوهاب والد ابنها الثانى زكى ويتم الطلاق لتعتزل بعدها حياة الأضواء وتنكب على طفليها متفرغة لهما.
ربما أسدل الستار برحيلها، لكن الحكايات لم تنقطع عن سفيرة الأحلام التى لم يجُد الزمان بمثلها، وتصبح أى محاولة للاستنساخ أو التقليد أشبه بالجنون، ويبقى الحلم يأتى إلينا عبر صوتها وكأنه يستدعى داخلنا كل المعانى الجميلة والنبيلة التى نفتقدها مع مرور الوقت.



ليلى مراد