بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته


هو أبو القاسم محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.



وقد روي عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «اذا بلغ نسبي الى عدنان فامسكوا»، و لذا لم نذكر ما بعده.
وقبل الخوض في المقام نذكر كلام العلامة المجلسي فانّه قال: «اعلم انّ اجماع علماء الامامية على ان نور النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لم يقع في صلب مشرك و لا في رحم مشركة و ان آباء النبي و اجداده و جداته الى آدم (عليه السّلام) كانوا كلّهم مسلمين.


ولا شبهة في نسبه (صلّى اللّه عليه و آله) والاحاديث المتواترة من طرق الخاصة و العامة تدل عليه، و يستفاد من هذه الاحاديث ان اجداده كانوا كلّهم من الصديقين إما انبياء مرسلين أو اوصياء معصومين ... و كانوا حجّاب بيت اللّه الحرام و سدنته و مرجعا لعامة الخلق في الشدائد و هم المحافظون على ملّة ابراهيم و شرعيته الى أن وصل الامر الى عبد المطلب فجعل أبا طالب وصيّه و سلّم الودائع و آثار الأنبياء إليه و هو سلّمها الى النبي (صلّى اللّه عليه و آله)».

اما عدنان فهو ابن أدر وأمه بلهاء، و كانت علائم الشهامة و الشجاعة ساطعة من جبهته منذ الطفولة، و قالت الكهنة: سيخرج من صلبه رجل ينقاد له الجن و الانس، فعاداه الحسّاد حتى هجم عليه ثمانون فارسا شجاعا في صحراء الشام ليقتلوه، فقاتلهم حتى قتل جواده، فحارب راجلا الى أن آوى الى جبل فلحقه الاعداء، و فجأة خرجت يد من الجبل فاصعدته‏ الى القمة و خرج صوت مهيب من الجبل فمات الاعداء جميعا عند سماعه.

وهذا أيضا من معجزات خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله).

ولمّا بلغ عدنان أشدّه صار سيد قومه و رئيس عشيرته حتى انقادت له القبائل و سكان البطحاء ويثرب فلمّا انتصر بخت ‏نصّر و فتح بيت المقدس صمّم على تسخير بلاد العرب والهجوم عليهم، فحاربه عدنان حتى قتل الكثير من أعوانه و أنصاره و غلبه بخت‏ نصّر و قتل كثيرا من العرب حتى ضاقت عليهم الارض فتوجّه كل واحد منهم الى جهة و توجّه عدنان و بعض أصحابه الى اليمن و استوطنوا هناك الى أن توفي عدنان.

وكان لعدنان، عشرة أولاد منهم معد و عك و عدن و أد و غنى و انتقل النور الذي كان في جبهة عدنان الى ابنه معد و هذا النور المبارك لخاتم الأنبياء دليل واضح على انّه كان ينتقل من صلب الى صلب.

فلمّا مات بخت‏ نصّر و تخلّص الناس من شرّه و رأوا علائم الفتوة و الشهامة في معد، دعته قبائل العرب و جعلوه سيدا عليهم ... و ولد له أربعة أولاد فانتقل النور الى ابنه نزار (بكسر النون) و كانت أمه معانته بنت حوشم من قبيلة جرهم ... و حينما ولد نزار ورؤي فيه نور النبوة، عقّ عنه أبوه ألفا من الابل و اطعم خلقا كثيرا من الناس و قال: «انّ هذا كله نزر في حق هذا المولود»، ولذلك سمي نزار من النزر بمعنى القليل، ثم انّه لما بلغ سن الرشد، صار سيد قومه بعد أبيه ... فلمّا حضرته الوفاة جمع عياله وأولاده و ذهب الى مكة المعظمة و توفي هناك ... و ولد له اربعة أولاد:

الاول: ربيعة، الثاني: أنمار، الثالث: مضر، الرابع: أياد، و لهم قصة لطيفة في قسمة ارث ابيهم ورجوعهم الى الكاهن أفعى الجرهمي مرجع الاعاظم في نجران.

وظهرت من أنمار قبيلتان، خشعم و بجيلة، فذهبتا الى اليمن، و ينسب قس بن ساعد الأيادي- الذي كان من حكماء العرب و فصحائهم- الى أياد.

وتشعبت من ربيعة و مضر، قبائل كثيرة و كان ينسب نصف العرب إليهما و يضرب المثل‏

بهما في الكثرة و يكفينا في فضلهما قول النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تسبّوا مضر و ربيعة فإنّهما مسلمان».

ومضر من ماضر بمعنى الحليب قبل أن يصير لبنا ... و كان اسم مضر عمرو، و امّه سودة بنت عك، و انتقل نور النبوة من نزار إليه، فصار سيد القوم بعد أبيه و انقادت له القبائل.

وما برح يروّج شريعة ابراهيم الخليل (عليه السّلام)بين الناس و يهديهم الى الصراط المستقيم حتى قبض، قيل انّه كان أجمل الناس صوتا و هو الذي اخترع الحدي للإبل، و ولد له ابنان، احدهم عيلان- و قد ظهرت منه قبائل كثيرة- و الآخر الياس الذي انتقل نور النبوة إليه و صار سيد القوم و كبيرهم بعد ابيه.

حتى انّه لقّب، سيد العشيرة، و كان مرجع الدعاوي و الشكاوى للقبائل، فكان مثله مثل لقمان في قومه ... و كان الياس يسمع في بعض الاحيان صوت التسبيح من صلبه.

واسم أمه رباب، و زوجته ليلى بنت حلوان القضاعيّة اليمنيّة و كانت تسمى خندف، وكان لألياس ثلاثة أولاد: 1- عمرو 2- عامر 3- عميرا.

قيل انّه لمّا بلغ أولاده سن الرشد خرج عمرو و عامر في أحد الايام مع أمهم ليلى الى الصحراء، و فجأة قفز في طريقهم أرنب و هرب و سبّب خوفا للإبل فلحقه عمرو و عامر فعثر عليه عمرو اولا، ثم أدركه عامر و اصطاده فذبحه و شواه، ففرحت ليلى كثيرا و جاءت الى الياس متبخترة من الفرح فقال لها: «أين تخندفين» أي تتبخترين، فقالت ليلى: اني أتبعك دائما بالكبر و الدلال و لهذا سمّاها الياس خندفا، و القبائل التي تنسب الى الياس سميّت بخندف، و سمى الياس عمرو- الذي ادرك الارنب- بالمدركة، و عامر- الذي صاده و شواه- بالطابخة، و سمى عميرا- الذي لم يشارك هذه الجولة- بالقمعة.

قيل ان خندفا كانت تحب الياس حبّا جمّا، و لما توفي الياس حزنت خندف عليه حزنا شديدا و لم تقم عن قبره و لم تستظل بسقف حتى ماتت.

ثم انتقل نور النبوة الى مدركة (عمرو) الذي ادرك الارنب، و قيل انّه سمي بالمدركة لأنه‏ أدرك جميع خصال آبائه الحميدة، و لقب بأبي هذيل.

وتزوج مدركة سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار و ولدت له ولدين، هما خزيمة و هذيل الذي كان أبا لقبائل كثيرة، و انتقل نور النبوة الى خزيمة فصار سيد القوم و له ثلاثة أولاد: 1- كنانة 2- هون 3- اسد.

و لمّا بلغ كنانة (و كنيته أبو النضر و امّه عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر) ساد قومه و قبائل العرب و رأى في المنام قائلا يقول له: تزوج ببرة بنت مر بن أد بن طابخة بن الياس، تلد لك ولدا فريدا في عصره ...

فلمّا تزوجها ولدت له ثلاثة أولاد: 1- نضر 2- ملك 3- ملكان.

و تزوج أيضا من هالة من قبيلة أزد، فولدت له ابن سمي عبد مناة.

اما النور الذي كان ساطعا من جبهته انتقل الى ابنه نضر، و سمي نضر، نضرا لنضارة وجهه، ويسمى بقريش أيضا و كل قبيلة تنسب إليه تسمى قريشا و اختلفت الاقوال في وجه تسميته بقريش، و أجودها عندي هي انّه لما كان رجلا عظيما في قومه و ذا فصاحة و بلاغة، و ساد قومه و جمعهم من التفرقة و التشتت، و كانوا يجتمعون اكثر الاحيان حول مائدته، ...

لقّب بقريش، لأنّ التقرش بمعنى التجمع.

وكان له ولدان: 1- مالك 2- يخلد، فانتقل النور الى مالك و أمه عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان و كان له ابن اسمه فهر (بالكسر) و أمه جندلة بنت حارث الجرهميّة.

كان فهر- المسمى بمجمع قريش- سيد العرب في مكة، و له أربعة أولاد من ليلى بنت سعد بن هذيل: 1- غالب 2- محارب 3- حارث 4- أسد.

فانتقل النور الى غالب، و كان له ابنان من سلمى بنت عمرو بن ربيعة الخزاعية هما: 1- لؤيّ، 2- تيم، فانتقل النور الى لؤيّ (بضم اللام و فتح الواو و تشديد الياء، مصغّر «لاى» بمعنى النور) و كان له أربعة أولاد: 1- كعب 2- عامر 3- سامة 4- عوف.

وانتقل النور من لؤيّ الى كعب، و أمه مارية بنت كعب القضاعيّة و كان من صناديد العرب، و أفضل الرجال في قريش و كان بيته ملجأ و مأوى للفقراء و المساكين، و كان العرب- حسب عادتهم- يغيرون تاريخ السنة طبقا للحوادث و الوقائع المهمّة التي تحصل لهم، فجعلوا يوم وفاته الذي يصادف (5644) سنة بعد هبوط آدم (عليه السّلام) من الجنة، بداية تاريخهم الى عام الفيل.

و كان له ثلاثة أولاد من محشيّة بنت شيبان:

1- مرّة (بضم الميم و تشديد الراء) 2- عدي و 3- هصيص (كزبير) و كان أكبر أخوته و له ابن يسمى بعمرو و لعمرو ابنان هما: سهم و جمح، و ينسب عمرو بن العاص الى سهم و ينسب عثمان بن مظعون و صفوان بن اميّة و أبو محذورة- مؤذن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) - الى جمح، و ينسب عمر بن الخطاب الى عدي بن كعب.

وانتقل نور النبوة الى مرّة بن كعب و له ثلاثة أولاد: 1- كلاب و امّه هند بنت سرى بن ثعلبة 2- تيم 3- يقظة، و امّهما البارقيّة.

و ينسب أبو بكر و طلحة الى تيم و تنسب قبيلة بني مخزوم الى مخزوم ابن يقظة، و من هذه القبيلة تكون أم سلمة و خالد بن الوليد و أبو جهل، و كان لكلاب بن مرّة ابنان: 1- زهرة، و تنسب إليه آمنة أم النبي (صلّى اللّه عليه و آله) وسعد بن ابي وقاص و عبد الرحمن بن عوف 2- قصيّ (بضم القاف و تشديد الياء) اسمه في الأصل زيد، و لمّا مات أبوه تزوجت امّه فاطمة بنت سعد من ربيعة بن حرم القضاعي، فأخذت قصيّ الصغير و تركت زهرة ابنها الكبير و خرجت مع زوجها من مكة و ذهبا الى قبيلة قضاعة، و سمّي قصيّ قصيا بمعنى المبعّد، و لمّا بلغ أشده ودّع أمه فاطمة و اخاه من الام زرّاج بن ربيعة و خرج الى الحج مع جماعة من قضاعة، ثم جعل سكنه هناك الى جنب اخيه زهرة، حتى نال الملك و القدرة.

وفي تلك الفترة كان حليل بن حبشيّة (بحاء و سين مهملتين على وزن وحشيّة) سيد أهل مكة و كبيرهم، و استولى على مكة بعد الجرهميّين، و كان رئيسا على قبيلة خزاعة، و له أولاد و بنات و من جملة بناته (حبّى) التي تزوجها قصيّ.

ولمّا اصيبت مكة بالبلايا والامراض خرج حليل مع قبيلة خزاعة منها، و لمّا حضرته‏ الوفاة أوصى بمفاتيح الكعبة الى بنته حبّى على ان يشاركها أبو غبشان الملكاني في منصب الحجابة و سدانة البيت.

وولدت حبّى من قصيّ أربعة أولاد: 1- عبد مناف 2- عبد العزى 3- عبد القصّي 4- عبد الدار، فقال قصيّ لزوجته: جدير ان تسلّمي مفاتيح البيت الى ابنك عبد الدار كي لا تخرج هذه الفضيلة من ولد اسماعيل (عليه السّلام).

فقالت: إني لا أبخل بحقّي على ابني، لكن ما ذا أصنع بأبي غبشان و هو شريكي بحكم وصية أبي، فقال: اتركي الامر إليّ، فذهب الى أبي غبشان و هو في الطائف، فدخل عليه ليلة و هو سكران فاشترى المفاتيح منه بزق خمر، فأكّد هذا البيع و أخذ الشهود عليه، ثم ذهب الى مكة و أعطى المفاتيح الى ابنه في ملأ من الناس.

ولمّا أفاق أبو غبشان من سكره ندم كثيرا على فعله و صار يضرب به المثل، و يقال: احمق من أبي غبشان، أندم من أبي غبشان، أخسر صفقة من أبي غبشان.

فلمّا أخذ قصيّ المفاتيح من أبي غبشان و أصبح سيدا على قريش تولّى سدانة البيت و أمر مكة، وأعطي الحجابة و اللواء و الندوة و السقاية و الرفادة (و السقاية هي سقي الحاج، و الحجابة هي تولّي مفاتيح البيت، و الرفادة هي اطعام الحاج كلهم في المزدلفة، و اللواء هو عقد اللواء و الراية لأمراء الجيش حين الحرب و كان هذا الرسم جاريا في أولاد قصيّ الى زمن الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، و الندوة و هي أرض الى جنب الكعبة، بني فيها دار جعل له باب الى المسجد، و كانت قريش لا تقضي امرا الّا فيها)، جمع قصيّ قريشا، و قال لهم: يا معشر قريش، انّكم جيران اللّه و أهل بيته الحرام، و انّ الحجاج ضيوف اللّه و زوّاره، و هم أحق الضيوف بالكرامة فاجعلوا لهم شرابا و طعاما ايام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا ذلك الى زمن الاسلام، و قسّم أرض مكة الى أربعة أقسام و أسكن قريشا فيها.

فلمّا رأت ذلك خزاعة و بنو بكر الذين كانوا مستولين على مكة سابقا و شاهدوا أن مفاتيح البيت صارت بيد غيرهم جهزّوا جيشا و قاتلوا قصيّا فخسر في اوّل وهلة ثم استنصر اخاه‏ زراج بن ربيعة مع اخوته، فأقبل إليه من ربيعة و معه جماعة من قضاعة و حاربوا خزاعة الى ان كتب النصر لقصيّ فتولى قصيّ امر البيت و أمر مكة و كان أول ملك حكم قريشا و العرب و جمع قبائل قريش فأنزلهم أبطح مكة، فسمي مجمّعا، و قال الشاعر في حقه:

أبوكم قصيّ كان يدعى مجمعا به جمع اللّه القبائل من فهر

فبلغ من العلوّ و المنزلة مرتبة عظمى، فما كانت تنكح امرأة الّا بأذنه، و لا يتشاورون في امر ينزل بهم الّا في داره، فكان أمره في قريش كالدين المتبع لا يخالفه أحد، ثم انه أعطى لعبد الدار الندوة و الحجابة و اللواء و السقاية و الرفادة.

ولمّا توفي قصيّ دفن في الحجون، و انتقل نور النبوة منه الى (عبد مناف) و اسمه المغيرة، و كان يقال له قمر البطحاء لجماله و حسنه، و كنيته أبو عبد شمس و تزوج من عاتكة بنت مرّة بن هلال السلمية، فولدت له ولدين توأمين، و كانت جبهتاهما متلاصقتين ففصلتا بالسيف، و سمّي أحدهما عمرو و لقبه هاشم، و الآخر عبد شمس، و قال أحد عقلاء العرب: ستقع العداوة بينهما و لا يحكم فيهما الّا السيف و هكذا كان، لأن عبد شمس هو جد بني اميّة الذين كانوا أعداء بني هاشم دائما.

و كان لعبد مناف ابنان آخران احدهما: المطّلب و ينسب إليه عبيدة بن الحارث و الشافعي، و الآخر: نوفل و ينسب جبير بن مطعم إليه.

و لقّب هاشم بن عبد مناف الذي كان اسمه عمرو، بعمرو العلى لعلوّ مرتبته و كان هاشم و المطّلب يسمّيان بالبدرين لجمالهما، و كانا في غاية الألفة و المودّة كما كانت بين عبد شمس و نوفل هذه المودة.

ذكر ان قريشا- بعد سيادة هاشم فيهم- أصابتها مخمصة و قحط فكان هاشم يرحل الى الشام و يشتري الدقيق و الطعام من هناك و يقدم به الى مكة، فيطبخه اداما و يثرد فيه الخبز و ينحر كل يوم جزورا و يدعو أهل مكة الى مضيفه للطعام فسمي هاشما لأنه اوّل من هشم الثريد لقومه بمكة و أطعمهم.

يقول أحد الشعراء في مدحه:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه‏ قوم بمكة مسنتون عجاف‏

نسبت إليه الرحلتان كلاهما سير الشتاء و رحلة الاصياف‏



ولمّا زادت شهرة هاشم و أولاد عبد مناف، و سبقوا أولاد عبد الدار في الشرف والشهامة صمّموا على أخذ منصب السقاية و الرفادة و الحجابة و اللواء و الندوة من أولاد عبد الدار و نقلها إليهم، فاتفق هاشم مع عبد شمس و نوفل و المطّلب على هذا الامر، فلمّا علم أولاد عبد الدار بهذا الامر، استنصروا قبائل بني مخزوم و بني سهم بن عمرو بن هصيص و بني عدي بن كعب، فذهبوا جميعا الى بيت اللّه و اقسموا هناك على دفع أولاد عبد مناف وسمّوا بالأحلاف.

و أستنصر أولاد عبد مناف، ببني اسد بن العزى بن قصيّ، و بني زهرة بن كلاب، و بني تميم بن مرة، و بني الحرث بن فهر ثم جاءوا بظرف مملوء طيبا و مسكا فوضعوا ايديهم فيه، ثم ذهبوا الى بيت اللّه الحرام و اقسموا أن يخرجوا كل المناصب الخمسة من أولاد عبد الدار، و سمّوا هؤلاء بالمطيبين.

فلمّا استعدّ الفريقان للقتال، ابتدر كبار القوم و حكماؤهم، بالوساطة و النهي عن المقاتلة، قائلين: انّ هذه الحرب لا تمنحنا الّا الضرر، و لا تنتج شيئا غير ضعف قريش و استيلاء قبائل العرب عليها، فتصالحوا على أن تكون السقاية و الرفادة في أولاد عبد مناف و تكون الحجابة و اللواء ودار الندوة في أولاد عبد الدار.

ثم أقرع أولاد عبد مناف هذين المنصبين بينهم، فخرجت القرعة باسم هاشم، فظلّت هذه المناصب الخمسة، تتوارث بين أولاد قصيّ الى أن بعث النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

وكان مفتاح البيت حينذاك بيد عثمان بن ابي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، و لمّا فتحت مكة، سلّم النبي (صلّى اللّه عليه و آله)المفاتيح مرّة اخرى إليه، و عثمان هذا لما هاجر الى المدينة أعطى المفاتيح لابن عمّه شيبة فبقيت في اولاده.

وكان اللواء طوال هذه المدة عند أولاد عبد الدار الى أن فتحت مكة فجاؤوا الى النبي‏ (صلّى اللّه عليه و آله)، و قالوا: اجعل اللواء فينا، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): الاسلام أوسع من ذلك (بحيث تكون رايات الفتح الاسلامي في بيت واحد) فانعدم هذا القانون و اندثر بعد قول النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

امّا دار الندوة، فكانت باقية في أولاد عبد الدار الى زمن معاوية فاشتراها منهم و جعلها دارا للإمارة.

امّا السقاية و الرفادة فانتقلت من هاشم الى المطّلب و منه الى عبد المطّلب بن هاشم و منه الى ابنه ابي طالب، و كان أبو طالب معسرا، فاستقرض من أخيه العباس مالا لإطعام الحاج و سقايتهم، و لما عجز عن أدائه أعطى السقاية و الرفادة الى العباس بدلا عن دينه.

ثم انتقل هذا المنصب من العباس الى ابنه عبد اللّه و منه الى ابنه علي، و هكذا صاروا يتداولونه الى ان وصل الى آخر الخلفاء العباسيين.

ولمّا بلغ هاشم ما بلغ من الجلالة و القدر و الشهامة، انتشر صيته في جميع الاقطار و كان السلاطين و الكبراء يرسلون إليه الهدايا و التحف تقربا إليه و رغبة في مصاهرته كي ينتقل إليهم نور النبوة الذي كان ساطعا من جبهته الشريفة.

لكن هاشم رفض كل هذه الدعاوي، و تزوج بامرأة من نجباء قومه، فولدت له اولادا كثيرين من جملتهم أسد أبو فاطمة أم أمير المؤمنين (عليه السّلام).

وما زال النور باقيا في جبينه فذهب ليلة الى بيت اللّه الحرام و دعا اللّه و تضرع إليه كي يرزقه ولدا يحمل هذا النور، فرأى في المنام أنّه يؤمر بالتزوج من سلمى بنت عمرو بن زيد ابن لبيد من بني النجّار الذي كان مقيما في المدينة.

فشخص هاشم الى الشام و سلك طريق المدينة إليها فلمّا قدم المدينة نزل في بيت عمرو و خطب ابنته، فانكحه ايّاها و شرط عليه ان لا تلد ولدا الّا عند اهلها و ان يبقى الولد في المدينة فقبل هاشم هذا الشرط و لمّا رجع من الشام اخذها معه الى مكة فحملت هناك بعبد المطّلب فأخذها الى اهلها وفاء للشرط و ذهب هو الى الشام فتوفى في مدينة غزّة التي تقع في أقصى الشام، بينها و بين عسقلان فرسخان.

امّا سلمى فولدت عبد المطّلب و سمّته عامرا و كان في رأسه شيبة فاشتهر بشيبة، و ربّته امّه حتى عرف اليمين من الشمال، و لقّب بشيبة الحمد لجميل خصاله و بديع فعاله، فجاء عمّه المطّلب- الذي كان سيد القوم في مكة و الذي عنده مفاتيح البيت و قوس اسماعيل (عليه السّلام)و علم نزار و له منصب السقاية و الرفادة- و أخذه الى مكة مردفا ايّاه على ناقته فأدخله على قريش فسمّوه عبد المطلب لزعمهم انّ المطّلب اشترى عبدا من المدينة ثم اخذه الى البيت و البسه ملابسا نظيفة جميلة.

و عظم أمر عبد المطّلب و شاع ذكره و علا اسمه و شاعت محامده بين الناس الى ان توفي المطلب فانتقل إليه منصب الرفادة و السقاية و بلغ من العظمة مبلغا حتى كانت تأتيه الهدايا و التحف من أقصى البلاد و الامصار، و كلّما أصيب العرب بداهية أخذوه الى جبل بثير و دعوا اللّه تعالى بجاهه و شرفه كي يكشف عنهم البلاء.

و كانوا يذبحون القرابين لأجله و يمسحون دمها على وجوه الاصنام، امّا عبد المطّلب فلم يكن يعبد غير اللّه عزّ و جل.

و كان الحارث أول أولاد عبد المطّلب و لذا كنّي بأبي الحارث، فلمّا بلغ الحلم رأى عبد المطّلب في المنام انّه يؤمر بحفر بئر زمزم.

لا يخفى انّ عمرو بن الحارث الجرهمي سيد الجرهميين كان في مكة منذ عهد قصيّ، فحاربه حليل بن حبشيّة و غلبه و أمره بالخروج من مكة، فغضب عمرو لذلك و صمّم على الخروج من مكة و قبل خروجه نزع الحجر الاسود من الركن و أخذ غزالين من ذهب كان قد وهبهما اسفنديار بن جشتاسب الى البيت و أسيافا قليعة و أدرعا، فقذفها في بئر زمزم و ملأه بالتراب، ثم هرب مع قبيلته الى اليمن، فلمّا حفر عبد المطّلب و ابنه الحارث بئر زمزم و أخرج هذه الاشياء منها، نازعه قومه فيها و أرادوا نصفها، قائلين انها كانت لأجدادنا، فقال عبد المطّلب: الأفضل أن نقرعها بيننا، فقسّم الاشياء قسمين و ضرب عليها السهام بينه و بين البيت و بين قريش فكانت الغزالتان الذهبيتان للبيت، و السيوف و الدروع لعبد المطّلب، و خسرت قريش، ثم باع عبد المطّلب السيوف و الأدرع و اشترى بثمنها بابا للبيت، فعلّق الغزالتين عليها، و اشتهرتا بغزالتي الكعبة.

ينقل انّ أبا لهب سرق هاتين الغزالتين و باعهما و صرف ثمنهما في الخمر و القمار.

قال ابن ابي الحديد و بعض من المؤرخين: «لمّا جرى ماء زمزم بيد عبد المطّلب حسده سائر قريش، و قالوا: انها بئر أبينا اسماعيل، و انّ لنا فيها حقّا فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، انّ هذا الامر قد خصصت به دونكم و أعطيته من بينكم فقالوا له: فأنصفنا فانّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.

قال: فاجعلوا بيني و بينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد، قال: نعم.

قال الراوي: و كانت بأشراف الشام، فركب عبد المطّلب و معه نفر من بني ابيه من بني عبد مناف و ركب من كل قبيلة من قريش عدّة اشخاص و الأرض اذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتّى اذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز و الشام، فنفذ ماء عبد المطّلب و أصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم.

فلمّا رأى عبد المطّلب ما صنع القوم فتخوف على نفسه و اصحابه، فقال: ما ذا ترون؟

قالوا: ما رأينا الا تبع لرأيك فمرنا بما شئت، قال: فانّي أرى ان يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم من قوة فاذا مات رجل دفعه اصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به.

فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم انّ عبد المطّلب قال لأصحابه: و اللّه ان القاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الارض و لا نبتغي لأنفسنا لعجز فعسى اللّه أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا حتى اذا فرغوا و من معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبد المطّلب الى راحلته فركبها فلمّا انبعثت به انفجرت من تحت خفّها عين من ماء عذب فكبّر عبد المطّلب و كبّر اصحابه ثم نزل فشرب و شرب اصحابه و استقوا حتى ملئوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلمّ الى الماء فقد سقانا اللّه فاشربوا و استقوا، فجاؤوا فشربوا و استقوا ثم قالوا: قد و اللّه قضى لك علينا يا عبد المطّلب و اللّه لا نخاصمك في زمزم ابدا، انّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع الى سقايتك راشدا» .

ونال عبد المطّلب العظمة بعد حفر زمزم و لقّب بسيد البطحاء و ساقي الحجيج و حافر زمزم و كان ملجأ و مأمنا للناس في الشدائد و الهزائز و القحط و المخمصة، و كان له عشرة أولاد و ست بنات- و يجي‏ء ذكرهم في نسب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)- و كان عبد اللّه أبرز اولاده و كانت امّه و أم أبي طالب و الزبير فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم.

لمّا ولد عبد اللّه علمت الكهنة و السحرة و الاحبار و القسيسين و النصارى بولادة أبي نبي آخر الزمان و كانت علامة ولادته فوران الدم من قميص يحيى (عليه السّلام) كما أخبر به العلماء و كبار الدين، فلمّا فار الدم من القميص و كان من صوف أبيض علموا بولادة أبي خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله).

فلمّا ولد عبد اللّه سطع نور النبوة الذي كان يحمله اجداده من جبينه و كان يرى آثارا غريبة و علامات عجيبة، كما أخبر عبد اللّه نفسه أباه بذلك، فقال: انني أذهب الى جبل بطحاء و بثير فيخرج نور من صلبي فيمتد الى المشرق و المغرب ثم يتصل و يكون كالدائرة ثم يصير سحابا يظلّني عن الشمس ثم تنفتح أبواب السماء الى ان يعود النور الى مقرّه، و كلّما أجلس تحت شجرة يابسة أينعت و أثمرت، و اذا ابتعدت عنها تعود الى هيئتها الاولى، و عند ما أجلس على الارض أسمع مناديا يناديني و يقول:

«السلام عليك يا حامل نور محمد (صلّى اللّه عليه و آله)»، فقال له عبد المطّلب: أي بني أبشر بنبيّ آخر الزمان فانّه يخرج من صلبك.

وكان عبد المطّلب قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة أولاد ثم بلغوا معه حتى يمنعوه يذبح احدهم للّه عند الكعبة، فلمّا توافى بنوه عشرا أخبرهم بنذره و دعاهم الى الوفاء بذلك، فأطاعوه.

فاختار عبد المطّلب الضرب بالقداح كي يخرج الولد الذي يريد ذبحه فلمّا ضرب القداح خرج باسم عبد اللّه، فاخذه عبد المطّلب بيده و أخذ الشفرة ثم اقبل به الى إساف ونائلة حيث مكان الذبح ليذبحه، فمنعته قريش و اخوة عبد اللّه و المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم، و قالوا له: لا تذبحه ابدا حتى تعذر فيه.

فأجمعوا ان يذهبوا الى كاهنة تقيم في المدينة، و يحكّموها فلمّا ذهبوا إليها، قالت: كم دية الرجل فيكم؟ قالوا عشر من الابل، قالت: فارجعوا الى بلادكم ثم قربوا صاحبكم و قربوا عشرا من الابل ثم اضربوا عليها و عليه بالقداح، فان خرجت على صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم و ان خرجت على الابل فانحروها عنه فقد رضي ربكم و نجا صاحبكم.

فخرجوا حتى قدموا مكة فقربوا عبد اللّه و عشرا من الابل، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه فزادوا عشرا ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه فأضافوا عليها عشرا عشرا الى ان بلغت المائة، فضربوا فخرج القدح على الابل ففرحت قريش و قالت: قد رضى ربك يا عبد المطّلب، فقال: لا و ربّ الكعبة فضرب مرّتين أخرتين، فخرج القدح على الابل، فنحرت فدية عن عبد اللّه و صارت دية الرجل في الاسلام مائة من الابل و لذا قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «انا ابن الذبيحين»، يعني جدّه اسماعيل و أباه عبد اللّه.

يقول العلّامة المجلسي: «فلمّا لحق عبد اللّه ملاحق الرجال تطاولت إليه الخطّاب و بذلوا في طلبه الجزيل من المال، كل ذلك رغبة في نور رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ولم يكن في زمانه أجمل و لا أبهى و لا أكمل منه، و كان اذا مرّ بالناس في النهار يشمّون منه رائحة المسك الاذفر و الكافور و العنبر، و كان اذا مرّ بهم ليلا تضي‏ء من نوره الحنادس و الظلم، فسمّوه أهل مكة مصباح الحرم و أقام عبد المطّلب و ابنه عبد اللّه بمكة حتى تزوج عبد اللّه بآمنة بنت وهب».

فذكر العلامة كلاما طويلا في سبب تزويجه لم نذكره اختصارا، و في رواية انّه ماتت مائتا امرأة بعد زواج عبد اللّه حسرة» .

لمّا حملت آمنة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)علمت الكهنة به.

وكانت العرب قد اصابها قحط و مخمصة فبعد حملها به (صلّى اللّه عليه و آله) نزل المطر و كثرت النعم عليهم حتّى سميّت تلك السنة بسنة الأنقع‏ .

بعث عبد المطّلب ابنه للتجارة الى الشام، فمرض عند رجوعه من هناك و مكث في المدينة حتى توفّي و دفن جثمانه الطاهر في دار النابغة.

ولمّا علم عبد المطّلب بمرضه بعث إليه الحارث، فلمّا وصل الحارث رآه قد توفي، و كان عمره الشريف خمسا و عشرين سنة.

و في رواية انّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)خرج ليلة مع علي بن ابي طالب و ذهب الى قبر ابيه في البقيع، فصلى عنده ركعتين فاذا بالقبر انشق و اذا بعبد اللّه جالس و هو يقول: أشهد أن لا إله الّا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله، فقال له: من وليّك يا أبة؟ فقال: و ما الولي يا بني؟ قال: هو هذا عليّ، قال: و انّ عليّا وليّي، قال: فارجع الى روضتك ثم عدل الى قبر امّه فصنع كما صنع عند قبر ابيه، فاذا بالقبر قد انشق فاذا هي تقول: أشهد ان لا إله الا اللّه و انك نبيّ اللّه ورسوله، فقال لها من وليّك يا أماه؟، فقالت: و من الوليّ يا بني؟، فقال: هو هذا علي بن ابي طالب، فقالت: انّ عليا وليّي، فقال: ارجعي الى حفرتك و روضتك.

يقول العلامة المجلسي: «هذا الخبر يدل على ايمان والديه (عليهما السّلام)، فهو (صلّى اللّه عليه و آله) انما أحياهما ليدركا ايام نبوّته و يشهدا برسالته و بإمامة وصيّه فيكمل بذلك ايمانهما» .