في ذكرى المولد النبوي الشريف.. نستعرض بعض الدروس المستفادة من هجرة النبي
يحتفل المسلمون في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام في مشارق الأرض ومغاربها، بذكرى عطرة عزيزة على القلوب، هي ذكرى مولد فخر الكائنات، نبي الأمة والرحمة المهداة للبشرية جمعاء (سيدنا محمد) صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بمولده وطلعته استنار الكون وأشرقت الأرض بنور ولادته، كيف لا وهو الرحمة المهداة، والنعمة العظيمة، والأمل المنتظر الذي أرسله الله عز وجل للناس أجمعين ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) سورة الأنبياء107·
فكان رحمة للبشرية كلها وببعثته ورسالته ودعوته انقشعت الظلمات وتبدلت الأرض غير الأرض والناس كذلك، فانتشرَ العدل بعد طول سيطرة للظلم، وعمَّ الإحسان بعد طول كراهية وجفاء، وانمحت ظلمات غشيت العقول وأعمت البصائر والأبصار·
ذكرى المولد النبوي ليست مجرد مناسبة لمولد (إنسان عظيم) فحسب، بل إنها ذكرى (مولد أمة) فبولادته عليه الصلاة والسلام ولدت أمة العرب من جديد·· لتقود العالم وتنشر الفضيلة والعدل والسلام·· وتحارب الظلم والطغيان·· وترفع شعار الفاروق الخالد (مَتىَ أسْتَعْبَدْتُمْ النْاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أمّهْاتُهُمْ أحْرَاراً؟)···
وبهذه المناسبة نستعرض بعض الدروس والعبر التي تضيء بعض جوانب حياتنا.
الأمانة
النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد الخروج من مكة إلى المدينة ترك ابن عمه الإمام علي بن أبي طالب، وعهد إليه برد الأمانات التي كان المشركون يودعونها عنده إلى أصحابها.
وعلى الرغم من أن المشركين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا لا يجدون أحدًا أكثر منه أمانة يودعون عنده ما يخافون عليه، وتجلى ذلك واضحا جليا عندما قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي»، قالوا: «ما جربنا عليك كذبا»، وكانوا يلقبونه صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، ولما اختلفوا فيما بينهم في وضع الحجر الأسود، رضوا جميعا به حكما ونزلوا على حكمه في ذلك.
ولم يخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ببال أحد من أصحابه أن يسترد بعض حقه من خلال هذه الأمانات التي كانوا يودعونها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عند بعض أصحابه الكرام، على الرغم من أن المشركين قد آذوه وآذوا أصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم.
وفي هذا ما يدحض فكر جماعات الاستحلال المتطرفة التي تتخذ من تكفير الناس وسيلة لاستحلال أموالهم بدون حق في انحراف شرعي وفكري وإنساني يفتح أبواب الفوضى ويعيد المجتمعات إلى شريعة الغاب، مؤكدين أن كل الأموال حرام، لا يجوز المساس بها أو أخذ شيء منها بدون حق، سواء أكانت أموالا لمؤمنين أم لغير المؤمنين، فلم يبح الإسلام مال أحد من الناس على الإطلاق.
أهمية المسجد في حياة المسلم
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة أسس بها مسجده الشريف، تأكيدًا على أهمية المسجد في حياة المسلمين، فكان جامعا وجامعة ومنارة علمية، نشرت النور للعالم كله، على أنه ظل مسجدا جامعا، ولم يتوسع المسلمون في بناء زوايا أو مصليات، بحيث تقوم كل جماعة بإنشاء زاوية لهم ينزوون بها إلا في عصرنا الحاضر إما لمصالح مادية، أو أيدلوجية، وإما لعدم فهمهم لأهمية المسجد الجامع في حياتنا، وأنه سمي جامعا لأنه يجمع الناس لا يفرقهم .
ولا يمكن التضييق على بناء المساجد لكن يجب تنظيمه، وكلما وقع الشيء موقعه كان أعظم أجرا وثوابا، لذا يحدد أمام الراغبين في بناء المساجد المناطق الأكثر احتياجا حتى لا نصير إلى عشوائية البناء بلا تخطيط، فتكون هناك مناطق في حاجة ماسة إلى المساجد ولا نجد من يتبرع للبناء بها، ومناطق أخرى بها مساجد عديدة فوق حاجة المنطقة بكثير، وهناك من يريد مزيدا من بناء المساجد بها، وتكون الأولوية للمناطق الأكثر احتياجا، وأحيانا تكون للمسجد، وقد تكون في مكان اخر للمدرسة أو المستشفى أو أي مرفق من مرافق الحياة العامة التي لا تقوم حياة الناس إلا بها.
عمق الفهم وسعة الأفق في فهم المقاصد والغايات
ويأتي ذلك مع ضرورة مراعاة فقه الواقع والمستجدات والتكيف معه وبناء الحكم على الفهم الدقيق له، فعندما أسلم صفوان بن أمية قيل له وهو بأعلى مكة: إنه لا دين لمن لم يهاجر، فقال: لا أصل إلى بيتي حتى أقدم المدينة، فقدم المدينة، فنزل على العباس بن عبد المطلب، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما جاء بك يا أبا وهب؟»، قال: قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة فقروا على ملتكم، فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ».
وفي هذا ما يؤكد ما يقرره أهل العلم من أن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الحال، فبعد ما كانت الهجرة مطلبا، حيث يقول الحق سبحانه: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا», تغير حكم الهجرة بعد فتح مكة، بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».
تأصيل وترسيخ لفقه التعايش السلمي
وهي من ضمن الدروس أيضا، ووردت بوثيقة المدينة التاريخية.