لقد اتفقت الروايات على أن وفاته [الحسن العسكريّ (ع)] كانت سنة 260 من الهجرةـ بعد أربع سنوات مرت من ملك أحمد بن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد، ولم يترك من الأولاد سوى ولده محمد بن الحسن المهدي المنتظر، بعد أن نص على إمامته وطول حياته وظهوره بعد تلك الغيبة الطويلة، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، كما ورد عن جده الرسول الأعظم. وتوالت النصوص عليه من أجداده ائمة الهدى واحداً بعد واحد، إلى أن كانت أيام أبيه، فنص على إمامته وغيبته وظهوره، كما اعتاد كل إمام أن ينص على خليفته.
وكانت وفاة الإمام العسكري على ما يبدو من بعض المرويات، خلال النصف الأول من شهر ربيع الأول سنة 260، كما ذكرنا بعد مرض رافقه ثمانية أيام، وقيل إن مرضه كان نتيجة عمل عدواني قام به المعتمد العباسي، فدس إليه من وضع له السم في الطعام، وإلى ذلك ذهب جماعة من محدثي الشيعة وعلمائهم، واعتمد هؤلاء على رواية وردت على لسان بعض المحدثين عن الإمام الصادق (ع)، جاء فيها أنه قال: "ما منا إلا مقتول أو مسموم"، وعلى أساسها، ذهبوا إلى أن الأئمة (ع) كانوا ضحايا الغدر والعدوان، وأن من لم يمت منهم بالسيف مات مسموماً.
وأنا لا أستبعد ذلك على الحكام مع من يتخوفون منه على عروشهم، والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك، وقد قال الرشيد لولده المأمون في حوار جرى بينهما بخصوص الإمام موسى بن جعفر (ع): "لو نازعتني في الملك لأخذت الذي فيه عيناك". وبلا شك، فإن حكام بني العباس كانوا يحاذرون من الأئمة، ويتخوّفون منهم على عروشهم، ويتأثرون بالوشايات التي كانت تردهم من أعداء أهل البيت وأجهزتهم. ولهذه الأسباب، فقد تعرضوا لكل أنواع التحدّبات والضغوط، وحتى للسجون بين الحين والآخر، وللإقامة الجبرية إلى جوارهم في بغداد وسامراء، ولغير ذلك مما يدمغهم بالاتهام. ولكن ذلك وحده لا يشكل دليلاً على أن الإمام العسكري أو غيره مات مسموماً، والروايات التي تعرضت لوفاته واعتمدها المؤلفون في سيرته لم تتعرض لذلك، وأشهر ما رواه الرواة عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان وزير المعتمد يومذاك، وقد نقلنا القسم الأوّل منها خلال حديثنا عن موقف الحكام منه، وبقي القسم الثاني المتعلّق بوفاته، وقد اعتمده الكليني والمفيد والصّدوق في معرض حديثهم عن وفاته.
وقد جاء فيه: ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليّ ما تعجبت منه، وما ظننت أنه يكون، وذلك أنه لما اعتلّ الحسن، بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتلّ، فركب من ساعته إلى دار الخلافة، ثم رجع ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين، كلهم من ثقاته وخاصّته، وأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف حاله، وبعث إلى نفر من المتطببين، وأمرهم بالاختلاف إليه وتعهّده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، أخبر أنه قد ضعف، فركب حتى بكر إليه، وأمر المتطبّبين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة، وأمره أن يختار عشرة ممن يوثق بهم في دينهم وورعهم، ويأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليّ ليلاً ونهاراً، فأرسلهم قاضي القضاة، ولازموا داره حتى توفي، ومضى أحمد بن عبيد الله بن خاقان يقول: فلما ذاع خبر وفاته، صارت سرّ من رأى ضجة واحدة، ثم أخذوا في تجهيزه، وعطّلت الأسواق، وركب بنو هاشم والقواد والكتّاب والقضاة وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته، بعث السلطان العيسى بن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة، دنا أبو عيسى منه، فكشف عن وجهه، وعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتّاب والقضاة، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد الرضا، قد مات حتف أنفه على فراشه، وحضره من خدم أمير المؤمنين فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وصلّى عليه وكبّر خمساً، وأمر بحمله، فحمل من وسط داره، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه.
وأضاف إلى ذلك أحمد بن عبيد الله كما يدعي الراوي: أنه لما دفن، جاء أخوه جعفر إلى أبي وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار. فزبره أبي وأسمعه ما كره، وقال له: يا أحمق، إنّ السلطان، أعزّه الله، جرَّد سيفه وسوطه في الّذين زعموا أنَّ أباك وأخاك إمامان ليردّهم عن ذلك، فلم يقدر علي، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيّأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً، فلا حاجة بك إلى سلطان يعطيك مراتبهما ولا غير سلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها. وقد استقله أبي عند ذلك واستضعفه، وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له بالدخول عليه حتى مات أبي.
وكل من تحدث عن وفاة الإمام أبي محمد الحسن بن عليّ، قد ذكر هذه الرواية التي وصفت مرض الإمام وموته وموقف الخليفة من ذلك، وحتى القائلين بأنّه مات مسموماً، قد ذكروها في طليعة ما ذكروه حول وفاته، واعتمدوا على رواية ضعيفة يدعي راويها أن الإمام الصادق قال: "ما منّا الا مقتول أو مسموم"، وغفلوا أو تغافلوا عما تشير إليه رواية أحمد بن عبيد الله، من أن المعتمد العباسي لم يكن بريئاً من دم الإمام (ع)، وأنه كان متهماً بذلك يوم ذاك، وقد أراد بموقفه الذي وقفه خلال الأيام التي كان الإمام يعاني فيها من علته، أن يدفع التهمة عن نفسه، وإلا فلماذا استدعى وزيره عندما بلغه أن الإمام قد اعتلّ، وأمر خاصّته والأطباء بلزوم داره، كما أمر قاضي قضاته باختيار عشرة من ذوي الدين والورع ليلازموه ليلاً ونهاراً، ولماذا وضع الجنازة أبو عيسى بن المتوكل وأشهد العلويين والعباسيين والقواد والقضاة بأنّه مات حتف أنفه، كل ذلك، حسبما أظنّ، لم يكن لولا أنه كان ضالعاً في الجريمة، وأن الأصابع كانت تشير إليه يوم ذاك، والله أعلم بواقع الحال.
وجاء في رواية الصدوق في الإكمال بسنده إلى أبي الأديان أنه قال:
كنت أخدم الحسن بن عليّ (ع)، وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علته التي توفي فيها، فكتب كتباً وقال: تمضي بها إلى المدائن. فخرجت بالكتب وأخذت جواباتها، ورجعت إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر، فإذا أنا بالواعية في داره، وجعفر بن عليّ بباب الدار، والشيعة حوله يعزّونه ويهنّئونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة. ثم خرج عقيد الخادم، فقال: يا سيدي، قد كفن أخوك، فقم للصلاة عليه. فدخل جعفر والشيعة من حوله، فلما صرنا بالدار، وإذا نحن بالحسن بن علي على نعشه، فتقدّم جعفر ليصلّي عليه، فلما همّ بالتكبير، خرج صبي بوجهه سمرة، وبشعرة قطط، وبأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عم، أنا أحقّ منك بالصلاة على أبي. فتأخر جعفر، وقد اربدّ وجهه، فتقدّم الصبيّ، فصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه، حيث مشهدهما كعبة للوافدين، وملاذ لشيعة أهل البيت، يتبركون به، ويتوسّلون الى الله سبحانه بحرمة من دفن في ثراه، أن يدخلهم في رحمته، ويجمعهم على الحقّ والهدى، ويوفّقهم للسّير على خطى أهل البيت الّذين اذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً.
*من كتاب "سيرة الأئمَّة الإثني عشر".