بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
ونبقى مع الإمام جعفر الصَّادق(ع) في ذكراه، وننطلق من خلال الرّبط بين العترة والقرآن، فكيف نفهم العترة من خلال القرآن؟ وكيف نفهم القرآن من خلال العترة؟ والحديث النبويّ الشريف الّذي يرويه الفريقان من المسلمين يقول: "إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا... كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"[1].
ادّعاء تحريف القرآن
إذاً، هناك الكتاب والعترة اللذان انطلقا من قلب رسول الله(ص) فيما أنزله الله عليه من وحي، وفيما هيّأه له من عترة تربّت على يديه وانفتحت على الرسالة حتى كانت تجسيداً لها. وعندما نقرأ القرآن الكريم، فإننا نجد بعض الآيات التي تتحدّث عن بعض فضائل العترة، كما نجد الكثير من الآيات التي تتحدَّث عن الخطوط الإسلاميّة العامّة في الأخلاق وفي الفضائل، مما كانت العترة فيه النّموذج الأكمل، ومن هنا جاء التَّفسير بالمصداق مما يسمّى "باب الجري"، كما اصطلح عليه صاحب تفسير الميزان.
ونريد هنا أن نتحدَّث عن نظرة العترة إلى القرآن، حيث نسب الكثير من الحديث إلى التّابعين للعترة يشوّه فيه صورة المسلمين، فمنهم من يقول إنَّ الشّيعة يقولون بأنَّ القرآن محرّف، وأنَّه أنقص منه الكثير، وما زال الكثيرون يتحدَّثون عن هذا الموضوع كما لو كان حقيقةً من الحقائق، بالرّغم من أنَّ علماء المسلمين الشّيعة تحدَّثوا بما لا مزيد عليه من الحديث حول هذا الموضوع، فالشّيعة لا يملكون ولا يعتقدون بكتابٍ غير الكتاب الّذي بين أيدي المسلمين، فلو أنّك فتَّشت في كلّ مواقع المسلمين الشّيعة، لما رأيت هناك حرفاً زائداً في أيّ نسخةٍ من الكتاب الكريم المتداول بين أيديهم، ولعلّه ليست هناك أية ضمّة أو فتحة أو كسرة زائدة، لأنَّ كتاب الله هو الكتاب الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأنَّ الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[2].
والرّوايات التي تتحدَّث عن هذا، تذكر بعضاً مما كانت تتحدَّث الزّهراء(ع) به، وبعضهم يقول إن فيها وصية الزهراء(ع)، والبعض يقول إنَّ فيها أحكاماً شرعية مما بحثه الباحثون في طبيعة ما فيه. ولكن ليس هناك شيء اسمه مصحف الزّهراء يمثّل قرآناً ثانياً في قبال القرآن المنزل على النبيّ(ص)، فلا قرآن للمسلمين إلا هذا الّذي بين أيديهم، وكلّ من اعتقد ذلك أو نسب إلى بعض المسلمين ذلك، فهو منحرف عن الخطِّ المستقيم.
فلقد أجمع العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين على أن لا تحريف في القرآن، وأنَّ ما ورد من أحاديث، سواء عن طريق الشّيعة أو طريق السنّة، مما قد يوحي بالتَّحريف أو بالنقصان، ما هو إلا أحاديث إمّا غير صحيحة، أو مؤوّلة بمعنى آخر يخرجها عن أن تكون تحريفاً، كأن تكون زيادة في المعنى أو ما أشبه ذلك مما بحثه الباحثون. ولعلّ أفضل بحث علمي في هذا المجال، هو بحث آية الله العظمى السيد الخوئي(رحمه الله) في كتابه (البيان في تفسير القرآن)، وهو من أفضل الكتب التي عالجت موضوع نسبة تحريف القرآن إلى المسلمين الشيعة.
القرآن مرجع المسلمين
فمن خلال هذا الجوّ ـ ونحن نعيش ذكرى الإمام الصّادق(ع) ـ نحاول أن ننقل النّصوص المرويّة عن الإمام جعفر الصّادق(ع) في القرآن، ولا سيّما النصوص التي تدلّ على أنَّ القرآن هو مرجع للمسلمين في تمييز الأحاديث الصحيحة من غير الصَّحيحة، بحيث إنَّ كلَّ هذا الركام من الأحاديث الذي يأتينا من هنا وهناك، لا نستطيع أن نقبله إلا بعد أن نعرضه على القرآن، فإذا كان القرآن هو الأساس في الأخذ بالأحاديث المرويّة عن رسول الله(ص) أو عن أئمَّة أهل البيت(ع)، فكيف يكون القرآن زائداً أو ناقصاً أو محرَّفاً؟ وهل يمكن أن يكون الكتاب المحرَّف مرجعاً يزيل عنّا كلَّ شبهة؟!
سنحاول في هذا اللّقاء أن ننقل لكم كيف أنَّ الإمام جعفر الصّادق(ع) يتحدّث إلى الناس في مجالسه مما كان يرويه عن رسول الله(ص) في القرآن، فتعالوا إليه وهو يحدِّثنا عن القرآن.
فعن أبي عبد الله الصّادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): أيّها النَّاس، إنَّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر، والسَّير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والناس والشَّمس والقمر يبليان كلّ جديد، ويقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز ـ أي ليهيِّئ كلّ واحد منكم نفسه على طريقة: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[3] ـ فقام المقداد بن الأسود، فقال: يا رسول الله، وما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ وانقطاع ـ عندما تنتهي مدّته ـ وإذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم ـ سواء كانت فتناً فكريَّة أو ثقافيَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو أمنيَّة مما عاشه المسلمون بعد رسول الله(ص) ـ فعليكم بالقرآن ـ أي ارجعوا إليه وتدبَّروه.. حاولوا أن تعرضوا واقعكم كلّه على الخطوط العامَّة الّتي بيّن فيها للناس كيف يفكّرون، وكيف يتحرّكون، وكيف ينطلقون ـ فإنّه شافع ـ يشفع للَّذين يقرأونه والّذين يعملون به ويسيرون في نهجه ـ مشفّع ـ لأنَّ الله يشفّع القرآن بالعاملين به من خلال طبيعة ما يعرفه فيهم.
ـ وماحل مصدِّق ـ وماحل يعني مجادل، أي يدخل في عمليَّة الحوار والجدال بالحقّ، لذلك يصدِّقه الخصم عندما تتبدّى له آياته واضحة جليّة.
ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ـ أي من اعتبر القرآن الهدى الّذي يهتدي به، والنّور الذي يستضيء به، فإنَّ القرآن يقوده إلى الجنّة، لأنه يبيّن له الطَّريق إلى الجنّة: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[4].
ومن جعله خلفه ـ جعله خلفه، واستقبل كلَّ التّيارات والاتجاهات التي جاء بها الإنسان على خلاف كلام الله ـ ساقه إلى النّار ـ فإنَّ القرآن يسوقه إلى النّار، باعتبار أنّ من ترك القرآن، فإنّ تركه يعني تركاً لله ولرسوله، وذلك يسوق إلى نار جهنّم.
وهو الدّليل يدلّ على خير سبيلـ الصّراط المستقيم ـ وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ـ من خلال النّتائج الَّتي تؤخذ منه، باعتباره القاعدة التي تنطلق منها الفكرة ـ وهو الفصل ليس بالهزل ـ فهو الجدّ كلّه الَّذي يفصل بين الحقّ والباطل ـ وله ظهر وبطن، ظاهره حكم وباطنه علم ـ وليس المراد بالبطن والظّهر أنَّ له معاني أخرى تختلف عن المعاني المفهومة، بل باعتبار أنَّ ظاهره يعطي المعنى في خطوطه الأولى، وباطنه يعطي المعنى في عمقه ودقّته وامتداده وانفتاحه، بحيث يمكن أن تعيش القرآن لتنفتح به على كلِّ ما يمكن أن تشير به هذه الآية أو تلك.
ظاهره أنيقـ من خلال الجانب الفنّي ـ وباطنه عميق ـ فيما ينطوي عليه من معانٍ ومفاهيم وتعاليم ـله نجوم... ـ لأنه نزل منجّماً، وربما يقصد بالنَّجم ما يعطيه من إشارة الضَّوء ـ لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصّفة. فليجل جالٍ بصره، وليبلغ الصّفة نظره، ينج من عطبٍ، ويتخلَّص من نشب ـ أي من هلاك ـفإنَّ التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنّور، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص"[5]، أي التريّث والانتظار.
هذا هو حديث الإمام الصّادق(ع) الَّذي يشير فيه إلى القرآن الَّذي كان بين يدي المسلمين يتداولونه في عصره.
التدبّر في القرآن
وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله(ع) قال: "إنَّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدّجى، فليجل جال بصره، ويفتح للضّياء نظره، فإنَّ التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنّور"[6].
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "إنَّ القرآن زاجر وآمر ـ زاجر في نواهيه، آمر في فرائضه وعزائمه ـ يأمر بالجنّة ويزجر عن النار"[7]، فالقرآن يقرّبكم إلى الجنة، لأنّه يأمركم بما يجعلكم تستحقّون الجنة، وينهاكم عما يجعلكم تستحقّون النار.
وعن الكيفيَّة التي يعيش بها القارئ للقرآن آياته، يقول سماعة: قال أبو عبد الله(ع): "ينبغي لمن قرأ القرآن، إذا مرّ بآيةٍ من القرآن فيها مسألة أو تخويف، أن يسأل الله عند ذلك خير ما يرجو، ويسأله العافية من النّار ومن العذاب"[8]، فعندما تتحرَّك الآيات فيما فيه سؤال الله، فعليك عندما تقرأ الآية، أن تسأله سبحانه وتعالى، وتستحضر مسائلك الّتي تريد أن يحقِّقها الله لك، وإذا رأيت في آية تخويفاً من النّار، فعليك أن تطلب من الله أن يجيرك منه ومن عذابه، حتى يعيش الإنسان حيويّة القرآن، بحيث يندمج مع آياته، فلا يقرأه كما يقرأ كتاباً عاديّاً لا علاقة لحياته ومصيره به، بل يحاول أن يقرأ القرآن كما لو كان يخاطبه شخصيّاً ويعالج قضاياه ومشاكله، حتى يدخل القرآن في وعيه ويحرّك مشاعره، فيشعر بأنه يقرأ كتاباً يخطّط لحياته ويفتح له الآفاق على الله سبحانه وتعالى.
الاغتناء بالقرآن
وعن أبي عبد الله الصّادق(ع) قال: "الحافظ للقرآن العامل به، مع السّفرة الكرام البررة"[9]، المقرّبين إلى الله سبحانه وتعالى، فهو حافظ وعامل أيضاً، فإنَّ حفظ القرآن دليل على احترام الحافظ له وتعظيمه له، حتى يدخله في عقله كلِّه. والعمل به يعني السّير على خطّ النور الذي يدلّه على الله، فيكون الإنسان المؤمن بالله، العامل بالصّالحات، السّائر إلى الله على الطّريق المستقيم.
وعن معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد الله(ع): "من قرأ القرآن فهو غنيّ ولا فقر". وبهذا يشير الإمام(ع) إلى أنَّ على الإنسان أن لا يستغرق دائماً في الفقر والغنى المادّيين، بل عليه أن يعيش الفقر والغنى في داخل شخصيَّته، لأنَّ قصَّة الفقر والغنى المادّيين هي قصّة شيء خارج ذاتك يتَّصل بحاجاتك، أمّا القرآن فيما يعطيك من فكر، وفيما يوحي إليك من خطّ، وفيما يدلّك عليه من منهج وطريق، وما يقودك إليه من هدف، هو أنت، لأنَّ كلّ شيء يدخل في عقلك أو علمك أو إحساسك هو أنت، فإذا كنت غنيّ العقل، غنيّ القلب، وغنيّ الإحساس، فإنَّ معنى ذلك أنَّك تملك ذاتاً غنيّة. أمّا إذا كانت ذاتك فارغة ليس فيها شيء للفكر ولا للهدى ولا للنّهج، فمن أنت؟ ما أنت إلا مجرّد خواء فارغ، حتى لو كان ملك الدّنيا بين يديك، فالمال لا يمثّل شيئاً بالنّسبة إلى ذاتك، ولذا يقول الإمام(ع): "فهو غنيّ ولا فقر بعده، وإلا ـ إن لم يكن قرأ القرآن ـ ما به غنى"[10]، وذلك لأنَّ في القرآن من المواعظ ما إذا اتّعظ به استغنى عن غير الله في كلّ ما يحتاج إليه. وكذلك يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[11].
وهكذا نلاحظ أيضاً الآيات الَّتي تقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[12]، وغيرها من الآيات الّتي توحي إلى الإنسان بأنّه فقير إلى الله وحده، وأنَّ كلّ ما عنده هو من الله، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}[13]، فهو يشعر بأنَّ الله هو كلّ شيء بالنِّسبة إلى وجوده، فكما كان وجوده من الله، فإنَّ استمرار وجوده هو من الله، وبذلك ينظر إلى النّاس على أنَّهم مجرّد أدوات يسخِّرها الله له بما يسخِّره من قلوب النّاس ومن الفرص التي تتحرّك في حياتهم، لكنه يبقى الغنيّ عن الناس في نفسه، والفقير إلى الله وحده، وتلك هي الحقيقة الّتي لو وعاها الإنسان وعاشها بطريقة واقعيَّة عمليَّة، فإنه يستطيع أن يحتفظ لنفسه بكلِّ هذا الإحساس بالفقر إلى الله والغنى عن الناس والعيش معهم من خلال الأدوات التي تتحرَّك بما يحركه الله له.
فنحن نقرأ في القرآن: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[14]. ونقرأ في بعض الأحاديث في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}[15]،قال الإمام الصَّادق(ع): "هو قول الرَّجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنّه قد جعل الله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه. قلت: فيقول: ماذا يقول: لولا أن منَّ الله عليَّ بفلان لهلكت؟! قال: نعم، لا بأس بهذا أو نحوه"[16]، بحيث تتصوَّر أنَّ الله سخَّر النّاس لخدمتك، لأنَّ كلَّ شيء منه سبحانه وتعالى، وهذا هو خطّ التَّوحيد الخالص، وهو أن لا تشعر بأنّ لأيِّ شخص دخلاً في حياتك، وبأنّ الله هو الذي يسخّر لك هذا وذاك، ويأذن لهذا بأن يشفع لك، وذاك بأن يدعو لك وما إلى ذلك.
وفي الحديث عن الفضيل بن يسار، قال: سمعته يقول: "إنّ الّذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقّة منه وقلّة حفظ، له أجران"[17]، فالذي لا يملك قوّة حافظة، ولكنه يحاول أن يكرّر قراءة القرآن، سواء كله أو بعض آياته، فله أجران، أجر حفظ القرآن، وأجر المشقَّة التي واجهها في ذلك.
القـرآن عهد الله
وعن أبي عبد الله(ع)، قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه ـ وهذا من أبلغ التّعابير، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[18]، فالقرآن بكلِّ ما فيه من آياتٍ وأحكامٍ ومفاهيم وشرائع، هو عهد الله الذي لا بدَّ للنّاس من أن يلتزموا به ويعملوا به، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى لبني إسرائيل: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، لأنّ فيه كلّ الشّروط والالتزامات التي يتعيَّن على الناس الالتزام بها أمام الله سبحانه وتعالى.
فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهدهـ حتى يعرف ماذا يريد الله منه وما هو التزامه إزاء الله تبارك وتعالى، فنحن نقرأ في شهادة الموت: "الإسلام ديني، والقرآن كتابي"، فعندما تقول (كتابي)، يعني الكتاب الّذي تلتزم به وتعمل به وتخضع فكرك وعملك وقولك له، وهذا اعتراف منك بالالتزام بالكتاب، فعليك أن تنظر يوميّاً في القرآن، حتى تعرف مراد الله منك في تجارتك وعملك وعلاقاتك وما إلى ذلك ـ وأن يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية"[19].
وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله(ع)، وهو قول موجَّه إلى التجّار والعاملين في الأسواق: "ما يمنع التّاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورةً من القرآن، فتكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيّئات"[20]، ذلك لأنَّ التجارة والمعاملات الماديَّة تغلق قلب الإنسان وتشغله بكلّ هذه المفردات والمجادلات والمماحكات، فيذهب النور من قلبه، ولذلك، عليه أن يقرأ القرآن قبل أن ينام، حتى يستضيء بنور القرآن ويتجدَّد إيمانه، وحتى يعرف ماذا يريد الله تعالى منه ليفعله، وما لا يريد ليتركه، وحتى يتذكَّر ما فعله في يومه، وهل هو مطابق لما يريده الله منه أو ليس مطابقاً؟!
ولعلّ في هذا الأجر مطابقة لمقتضى حال التجّار والعاملين في الأسواق، أي أنَّه إشارة ولفت نظر إلى أنَّ هناك أجراً كبيراً سينالونه جرّاء قراءة القرآن، أضعاف ما يحصلون عليه من الأجر المادّيّ ببيع بضاعةٍ ما، فهذه تجارة وتلك تجارة، ولكنَّ التجارة مع الله لن تبور. ولذلك، فإنّ على الناس أن يأخذوا بأسباب الانفتاح، والاستفادة من كلّ المواقع والأشخاص والكتب التي أريد لها أن تكون مصدراً للانتفاع به في شؤون العمل والعلم والوعي الإسلامي، فلا يهمل أمرها، بل يتعامل معها بمسؤوليّة.
أحكام قراءة القرآن
وعن أبي عبد الله(ع) قال: "ثلاثة يشكون إلى الله عزَّ وجلّ، مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلَّق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه"[21].. وقد يكون هناك شخص حافظ للقرآن ولديه مصحف، فأيما أفضل؛ أن يقرأ بما في حافظته، أم في المصحف؟
فعن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله(ع) قال، قلت له: جعلت فداك، إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر إلى المصحف؟ قال، فقال لي: "بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أنَّ النظر في المصحف عبادة"[22].. والمقصود بالنظر هو النظر أثناء القراءة، وربما كان المراد هو التركيز والتأمّل أثناء القراءة، لأنَّ الحافظ ربما لا يمتلك التركيز نفسه.
وعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنّوح والرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم"[23]. وليس معنى ذلك أن لا يجوّد القرآن أو لا يرتّل أو لا يقرأ بالصّوت الحسن، ولكن التّحذير من أن يكون التركيز على الصوت فقط، فقد يسمع أحدهم قرّاء القرآن وهم يلحّنونه بالطرق الغنائية الموجودة، فهذا يسيء إلى روحية القرآن، فللقرآن قراءة تختلف عن الطريقة الغنائيّة بألحان أهل الفسوق التي يراد فيها إلهاب المشاعر، في حين يراد من القرآن إثارة العقل والقلب والروح، ولا إشكال في أنَّ الصوت الحسن ولحون العرب تجسّد معنى الآية، لكن علينا أن لا نخرج القرآن عن طبيعة اللّحن الذي يبقينا في أجواء الوحي القرآني، ولا يخرجنا إلى أجواء اللّحن التي تربطنا بالصّوت دون المعنى، وفي ذلك يقول النبيّ(ص) مما يرويه الصّادق(ع) عنه: "لكلّ شيء حلية، وحلية القرآن الصّوت الحسن"[24].
وعن محمد بن عبد الجبّار قال، قلت لأبي عبد الله(ع): "أقرأ القرآن في ليلة، قال: لا يعجبني أن تقرأ في أقلّ من شهر"[25]، ذلك أنَّ قراءة القرآن في ليلةٍ تحصل من خلال المرور السريع على الألفاظ والكلمات، فكما يفعل البعض من الّذين يختمون القرآن في الشّهر الفضيل ثلاثين ختمةً وهو لم يفهم أيّ شيء منه، فالقرآن يقرأ ويُتدبّر: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[26]، فهو الكتاب الّذي يتَّصل بآخرتنا ودنيانا، فلا بدَّ للإنسان من أن يثقِّف عقله بالقرآن، حتى يكون تفكيره في الخطّ القرآني، وأن يثقِّف قلبه بالقرآن، حتى تكون عاطفته من خلال الخطّ العاطفي للقرآن، وأن يثقِّف طاقاته بالقرآن، حتى تتحرّك طاقاته في المنهج القرآني.
عن أبي عبد الله(ع) قال: "كان أصحاب محمد(ص) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقلّ، إنّ القرآن لا يُقرأ هذرمة ـ والهذرمة هي السّرعة في الكلام ـ ولكن يرتَّل ترتيلاً، فإذا مررت بآيةٍ فيها ذكر الجنة، فقف عندها وسل الله الجنّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النّار، فقف عندها وتعوَّذ بالله من النار"[27]، بأن تعيش من خلال القراءة كيانك كله وتاريخك كله وما تفكر فيه بحاضرك ومستقبلك كلّه.
معيار الخطأ والصّواب
وعن أبي عبد الله(ع) قال: "نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة"[28]، أي أنَّ القرآن كان يخاطب النبيّ(ص) وهو يقصد الآخرين، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}[29]. فهل يمكن أن يتقوَّل النبيّ(ص) على الله عزَّ وجلّ؟ ولكنّه تحذير، وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[30]، فهل يمكن للنبيّ(ص) الذي جاء بالتّوحيد أن يشرك؟ فكأنَّ الله يريد أن يقول للنّاس، إذا كان هذا الخطاب موجَّهاً إلى شخص في مستوى النبيّ(ص) في قربه من الله وأشرك بالله، لحبط عمله، فكيف بالنّاس العاديّين، وهذا أبلغ في التّعبير. وفي رواية أخرى: "قال: معناه ما عاتب الله عزّ وجلّ به على نبيه(ص)، فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}[31]، عنى بذلك غيره"[32].
وعن الإمام الصّادق(ع) قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلِّ شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد ـ ليس المقصود الكيمياء والفيزياء وما شاكل، بل الأمور المتَّصلة بهداية الإنسان ـ حتّى لا يستطيع عبدٌ أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزله الله فيه"[33]، لكنّ المشكلة هي أنّ النّاس لا يتدبّرون القرآن جيّداً.
وعن حمّاد عن أبي عبد الله(ع)، قال سمعته يقول: "ما من شيءٍ إلا وفيه كتاب أو سنّة"[34]، فالله تكفَّل في كتابه، والنبيّ تكفَّل بإلهام الله في سنّته بما يحتاج إليه النّاس.
وعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إنَّ على كلِّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"[35]، أي ادرسوا القرآن، وادرسوا مفاهيمه وخطوطه العامَّة، وانظروا إلى ما يأتيكم من الأحاديث، فإن رأيتم الحديث موافقاً للمفاهيم والأحكام والقواعد القرآنيّة فخذوا به، وإلا إذا رأيتم أيَّ حديث ـ حتى لو نسب إلى النبي(ص) ـ يعارض القرآن فاتركوه، لأنَّه لا يمكن أن يتحدَّث النبي(ص) ولا الأئمّة من أهل بيته(ع) بما يخالف القرآن.
وعن أبي عبد الله بن أبي يعفور، قال: وحدّثني حسين بن أبي العلاء أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس، قال سألت أبا عبد الله(ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به؟ قال(ع): "إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله ـ حتى ولو كان الشاهد من ناحية القاعدة ـ أو من قول رسول الله(ص)، وإلا فالّذي جاءكم به أولى به"[36]، أي ردّوه إليه.
وعن أيوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"[37]، أي أنَّ شكله جيّد، لكنّه لا ينطوي على عمق في المعنى.
وعن أبي عبد الله(ع) قال: "خطب النبي(ص) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني ـ حتى يغلق الباب على الكذّابة عليه ـ يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله"[38].
الكتاب المعصوم
وفي ضوء هذا، وكما ذكرنا في بداية الحديث، فإنَّ حديث الإمام الصّادق(ع) بما رواه عن الرسول(ص) في هذا الاتجاه، وفيما تحدَّث به، يوحي أنَّ الإمام الصّادق(ع) والأئمة من أهل البيت(ع)، سواء من تقدّمه ومن تأخّر عنه، وكلامهم واحد وخطّهم واحد ومنهجهم واحد، يجدون أنَّ القرآن أساس الإسلام، فلا يمكن أن ننسب شيئاً إلى الإسلام يخالف القرآن، بل علينا أن نعرض كلّ الأحاديث على كتاب الله، حتى ندخل في مقارنة بين المفهوم الَّذي يعطيه هذا الحديث، والمفهوم الَّذي يعطيه كتاب الله بحسب ظاهره وما يفهم منه، لنطرح ما يخالفه ونأخذ ما يوافقه.
وكتاب الله الذي تحدَّث الإمام الصّادق(ع) عنه كمقياس، هو الكتاب الّذي بين أيدي المسلمين، وليس كتاباً زائداً أو ناقصاً عن ذلك، لأنه الكتاب المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكلّ من قال بتحريف القرآن فهو منحرف عن الخطّ المستقيم.
------------------------
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 29، ص 341.
[2] [الحجر: 9].
[3] [البقرة: 197].
[4] [آل عمران: 133].
[5] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 599.
[6] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 6، ص 171.
[7] الكافي، ج 2، ص 601.
[8] وسائل الشّيعة، ج 6، ص 171.
[9] الكافي، ج 2، ص 603.
[10] بحار الأنوار، ج 89، ص 188.
[11] [فاطر: 15].
[12] [غافر: 60].
[13] [النحل: 53].
[14] [الأنفال: 24].
[15] [يوسف: 106].
[16] وسائل الشّيعة، ج11، ص169.
[17] وسائل الشّيعة، ج 6، ص 177.
[18] [البقرة: 40].
[19] الكافي، ج 2، ص 609.
[20] المصدر نفسه، ج 2، ص 611.
[21] ميزان الحكمة، محمد الرّيشهري، ج 2، ص 1260.
[22] الكافي، ج 2، ص 614.
[23] المصدر نفسه، ج 2، ص 615.
[24] المصدر نفسه، ج 2، ص 616.
[25] وسائل الشّيعة، ج 6، ص 215.
[26] [محمد: 24].
[27] الكافي، ج 2، ص 618.
[28] المصدر نفسه، ج 2، ص 631.
[29] [الحاقّة: 44 ـ 46].
[30] [الزمر: 65].
[31] [الإسراء: 74].
[32] الكافي، ج 2، ص 631.
[33] المصدر نفسه، ج 1، ص 59.
[34] شرح أصول الكافي، مولى محمد صالح المازندراني، ج 2، ص 280.
[35] الكافي، ج 1، ص 69.
[36] المصدر نفسه، ج 1، ص 69.
[37] المصدر نفسه، ج 1، ص 69.
[38] وسائل الشيعة، ج 27، ص 111.