بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته



يعتبر الإسلام، بل حتّى الديانات الأُخرى، أنّ الرفق واللّين والرويّة والتعقّل والحلم والحوار، هو الأصل في قوانين الإسلام على المستوى الاجتماعي والفردي، ففي الآية الكريمة التي يعبّر عنها المفسّرون، أنّها من التوصيات القانونية التي أوصى بها الله تعالى نبيّه في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾[1]، خذ العفو، أي: أنّ العفو ركيزة أساسية، رئيسية في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)، القانونية والسياسية والقضائية والإجرائية والتشريعية، و ﴿خُذْ الْعَفْوَ﴾ إذا كان للعفو سبيل، وهذا الأمر إلزامي من الله لنبي الرحمة محمّد(صلى الله عليه وآله).

﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ البعض قال: أنّ العرف هو ما تعارف عليه الناس[2]، وهذا قول مردود; لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) يعمل طبقاً لخطة الوحي الإلهي، وأنّ عرف الناس قد يحمل الكثير من رواسب الجاهلية، وهذا يتناقض مع دور النبي الذي عبّر عنه القرآن الكريم: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾[3]، والبعض الآخر قال: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾، أي: ما تعرفه الفطرة البشرية، أي: ما يعرفه العقل من الحسن والقبح[4]، وهذا المعنى صحيح في نفسه; لأنّ الدين الإسلامي دين الفطرة ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[5]، والروايات تشير إلى أنّ النبي هو الرسول الظاهر، والعقل هو الرسول الباطن[6]، وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّ ظاهر اللفظ لا يساعد عليه، وينبغي تهيئة الجو الاجتماعي لتقبّل القانون، وأن لا يتمّ إقحام القانون في أجواء لا تتفاعل معه، وأنّ أيّ قانون جديد إذا أردنا أن نطبّقه في مجتمع مّا، لابدّ أن يسبقه وعيّ قانوني، وثقافة قانونية ناضجة، لأنّه لا يكفي أن يكون القانون متكاملا، بل يجب مراعاة استيعاب الناس لهذا القانون، ولهذا السبب نزول القرآن بشكل مفصّل وتدريجي، حتى تتهيأ النفوس للتفاعل معه، ولأنّ الناس لا تستوعب التربية القرآنية على شكل دفعة واحدة بدون تهيئة.

قال السيد الطباطبائي، في ذيل تفسير هذه الآية الكريمة:
﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾[7] قال: "الأخذ بالشيء هو لزومه أو عدم تركه فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه، والإغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض. هذا بالنسبة إلى إساءة الغير بالنسبة إلى نفسه والتضييع لحق شخصه، وأمّا ما أُضيع فيه حق الغير بالإساءة اليه فليس مما يسوغ العفو فيه، لأنّه إغراء بالإثم، وتضييع لحق الغير بنحو أشد، وإبطال للنواميس الحافظة للاجتماع، ويمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم والإفساد وإعانة الظالمين والركون إليهم، بل جميع الآيات المعطية لأُصول الشرائع والقوانين، وهو ظاهر.

فالمراد بقوله
: ﴿خُذْ الْعَفْوَ﴾، هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصه(صلى الله عليه وآله) وعلى ذلك كان يسير فقد تقدم في بعض الروايات المتقدمة في أدبه(صلى الله عليه وآله): أنّه لم ينتقم من أحد لنفسه قط"[8].

وفي تفسير الأمثل، في ذيل هذه الآية الكريمة، قال: "العفو قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحياناً، كما قد يأتي بمعنى الحد الوسط، كما يأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين، ويأتي أحياناً بمعنى استسهال الأُمور...، ومن البديهي أنّه لوكان القائد أو المبلغ شخصاً فظّاً صعباً، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس، ويتفرقون عنه، كما قال القرآن الكريم:
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[9]، ثمّ تعقب الآية بذكر الوظيفة الثانية للنبي(صلى الله عليه وآله)...، وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئاً"[10].
----------------------

[1] - الأعراف (7): 199.
[2] - الميزان 8: 380، عند قوله تعالى (وأمر بالعرف)، الأعراف (7): 199.
[3] - الأعراف (7): 157.
[4] - مجمع البيان 4: 787، عند قوله تعالى (خذ العفو وأمر بالمعروف)، الأعراف (7): 199.
[5] - الروم (30): 30.
[6] - الكافي 1: 16، الحديث 12، كتاب العقل والجهل.
[7] - الأعراف (7): 199.
[8] - الميزان 8: 379، عند قوله تعالى ﴿خذ العفو وأمر بالعرف﴾، الأعراف (7): 199.
[9] - آل عمران (3): 159.
[10]- الأمثل 5: 339، عند قوله تعالى ﴿خُذْ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ﴾ الأعراف (7): 199.