بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال الله -تعالى-: ﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾[1].
البعد الاجتماعيّ في أحكام الدّين الإسلاميّ
أيّها الأحبّة،
آياتٌ عديدةٌ وكثيرة، تُظهر لنا البعد الاجتماعيّ في كلّ ما يطرحه الدّين الإسلاميّ الحنيف.
فإنّ حركة الإنسان في هذه الحياة الدنيا -طبقاً لإرشادات هذا الدّين القويم- لا تقتصر على الجانب الفرديّ، إنّما يُنظر فيها إلى الجانب الاجتماعيّ الذي يمكن من خلاله بناء مجتمع إنسانيّ سليم.
وإذا كان يدعو إلى أن يكون كلُّ ما يقوم به الإنسان مبنيّاً على البعد الاجتماعيّ، فلا بدّ حينها من أن تكون أحكامه الشرعيّة وإرشاداته الأخلاقيّة منسجمة مع هذه النظرة؛ ولذلك نجد هذا الأمر واضحاً وجليّاً في كلّ ما أرشدنا إليه وحكم به من أحكام، ولنا في ذلك أن نضرب بعض الأمثلة، منها:
- الصلاة
قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[2].
فالصلاة -طبقاً لهذه الآية المباركة- لها آثار عظيمة، منها النهي عن الفحشاء والمنكر، حيث تنهى فاعلها عن ارتكابها. وكما هو واضح، فإنّ الفحشاء والمنكر يشملان ما له أثر على شخص الإنسان، وما له أثر على باقي أفراد الناس، كالقتل والأذيّة والاعتداء وما شاكل ذلك من فواحش ومنكرات...
وبالتالي، فإنّ الصلاة وإن كانت للوهلة الأولى عملاً فرديّاً، إلّا أنّ لها آثاراً اجتماعيّة غير مباشرة. هذا وإنّ لصلاة الجماعة بعداً اجتماعيّاً جليّاً، والتي تعتبر في شرعنا القويم من المستحبّات المؤكّدة والعظيمة.
- الحجّ
مثالٌ آخر، وهو فريضة الحجّ، وهو من أعظم العبادات التي أوجبها الباري -سبحانه وتعالى-. وإنّ من أبرز معالم الحجّ، أنّ فيه مناسك وشعائر تؤدِّب الإنسان على مبادئ إنسانيّة واجتماعيّة عظيمة، من تكاتفٍ وتواضعٍ وتساوٍ بين الخَلْق، وغير ذلك.
فإذا كان أيّ إنسان مخاطباً بذلك، فكيف سيكون حال النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وهو خاتم النبييّن وأشرف خلق الله أجمعين، والذي وصفه الله في كتابه الكريم بأنّه على خلق عظيم؟! فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[3].
أيّها الأحبّة،
قال الله -تعالى- في النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): ﴿قَدْ جَاءکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَّحِیمٌ﴾[4].
فالنبيّ أشدّ النّاس حرصاً وتطبيقاً لإرشادات الله -تعالى-، يهتمّ بأمور النّاس ويحرص على دينهم ودنياهم، وهو الذي جسّد في حياته وسيرته كلّ معالم الإخاء والمحبّة والتكافل والتكاتف وخدمة النّاس والحرص على مصالحهم الدنيويّة والأخرويّة.
وإنّ قراءة عاجلة في سيرته (صلّى الله عليه وآله) وأقواله، تؤكّد لنا ذلك مذ كان شابّاً يافعاّ، إلى أن بُعث نبيّاً مُرسَلاً، إلى أن انتقل من هذه الحياة الدّنيا، تاركاً لنا أعظم الدروس والعبر من حياته المباركة والشريفة.
التأسّي بالنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)
وإذا ما أردنا سلوك طريق الحقّ، فلا بدّ أن نتأسّى بالنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، قال -سبحانه-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[5].
وقد كان الأسوة الحسنة لعظماء أمّتنا الإسلاميّة، كما هو الحال بالإمام عليّ (عليه السلام) الذي كان يدعو دائماً للتأسّي به واتّباعه، فقد ورد عنه (عليه السلام): "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ والْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ"[6].
"وَلَقَدْ كَانَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ ويُرْدِفُ خَلْفَهُ"[7].
"... فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، واقْتَصَّ أَثَرَهُ، ووَلَجَ مَوْلِجَهُ، وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَماً لِلسَّاعَةِ ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ"[8].
من مظاهر السلوك الاجتماعيّ في سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
هذا وقد ورد عن الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الكثير من المواقف والعديد من الأقوال التي تُظهر لنا سلوكه الاجتماعيّ، ومن ذلك:
1- الرحمة بالآخرين
ورد عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان يُؤتى بالصبيّ ليدعو له بالبركة، أو يسمّيه، فيأخذه ويضعه في حجره، وربّما بال الصبيّ عليه، فيصيح بأهله بعضُ من رآه، فيقول (صلّى الله عليه وآله): "لا تزرموا الصبيّ"، ثمّ يفرغ لدعائه للصبيّ، ويأخذ الفرح أهلَ الصبيّ، ويقوم النبيّ بعد ذلك لغسل ثوبه وبدنه"[9].
وكان خادمه أنس بن مالك، يقول: "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله"[10].
وكان يقول (صلّى الله عليه وآله): "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء"[11].
2- التواضع
عُرف الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بسمة التواضع، فلم يتكبّر على أحد قطّ، ولم يفخر على أحد قطّ، لِلونٍ أو نسبٍ أو علمٍ، وقد أُثِر عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّ عديّ بن حاتم وفد عليه، فقال له النبيّ:
"مَنِ الرجل؟"
فقال: "عديّ بن حاتم".
فانطلق به النبيّ إلى بيته، وقابله بحفاوة وتكريم، فألقى له وسادة، وقال له: "اجلس عليها"، وجلس هو على الأرض، فبُهِر عديّ من معالي أخلاقه، وقال بإعجاب وإكبار: "أشهد أنّك لا تبغي في الأرض علوّاً ولا فساداً"، ثمّ أعلن إسلامه[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "إذا دخل منزلاً، قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل"[13].
وعن ابن عباس: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشَّاة، ويُجيب دعوة المملوك على خبز الشعير[14].
3- حُسْن الجيرة
كان (صلّى الله عليه وآله) يدعو دائماً إلى حسن الجيرة، وهذ الأمر في غاية الأهمّيّة من الناحية الاجتماعيّة، وممّا ورد عنه في ذلك أنّه قال: "هل تدرون ما حقّ الجار؟ ما تدرون من حقّ الجار إلّا قليلاً، ألا لا يؤمِن بالله واليوم الآخر مَنْ لا يؤمن جاره بواثقه، وإذا استقرضه أن يقرضه، وإذا أصابه خير هنّأه، وإذا أصابه شرٌّ عزّاه، ولا يستطل عليه في البناء يحجب عنه الريح إلّا بإذنه، وإذا اشترى فاكهة فليهدِ له، وإن لم يهدِ له فليدخلها سرّاً، ولا يعطي صبيانه منه الشيء يغايظون صبيانه"[15].
4- قضاء حوائج النّاس
ومن دعواته التي تحمل جانباً اجتماعيّاً عمل به (صلّى الله عليه وآله)، هو قضاء حوائج الناس، وممّا ورد عنه في ذلك قوله: "المؤمنون إخوة، يقضي بعضهم حوائجَ بعض، فبقضاء بعضهم حوائج بعض، يقضي الله حوائجَهم يوم القيامة[16].
5- ستر العيوب
وممّا يؤسف له هو انتشار ظاهرة فضح النّاس عبر شاشات التلفزة وبرامجها غير اللائقة، وقد حذّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من ذلك؛ لما له من آثار سلبيّة على المجتمع الإنسانيّ، وأمر بستر عيوب النّاس وعدم تتبّعها.
فعنه (صلّى الله عليه وآله): "كان بالمدينة أقوام لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فأسكت الله عن عيوبهم الناسَ، فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس، وكان في المدينة أقوام لا عيوب لهم، فتكلّموا في عيوب الناس، فأظهر الله لهم عيوباً لم يزالوا يُعرفون بها إلى أن ماتوا"[17].
6- حقّ الفقراء على الأغنياء
كان (صلّى الله عليه وآله) يحبّ الفقراء ويهتمّ لأمورهم، ويدعو لمؤازرتهم ومساندتهم، وممّا ورد عنه: "إنّ الله فرض على الأغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاع الفقراء كان حقيقاً على الله أن يحاسب أغنياءهم، ويكبّهم في نار جهنّم على وجوههم"[18].
[1] سورة الماعون.
[2] سورة العنكبوت، الآية 45.
[3] سورة القلم، الآية 4.
[4] سورة التوبة، الآية 128.
[5] سورة الأحزاب، الآية 21.
[6] نهج البلاغة، ج2، ص 58.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص59.
[8] المصدر نفسه، ج2، ص60.
[9] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء، ج3، ص367.
[10] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، ج7، ص76.
[11] ابن أبي جمهور الإحسائيّ، عوالي اللئالي، ج1، ص361.
[12] انظر: السيرة النبويّة لابن هشام، ج4، ص227.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص663.
[14] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج12، ص 109.
[15] النوريّ الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، ج8، ص424.
[16] الشيخ المفيد، الأمالي، ص 150.
[17] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج 15، ص 292.
[18] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص 91.