بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
حينما اشتدّت حالة النبي صلى الله عليه وآله تقدّم الإمام علي عليه السلام وراح يكفكف دموع الصدّيقة فاطمة عليهاالسلام ويُهدّأ من روعها، ثمّ احتضن رسول الله صلىاللهعليهوآله حين رآه يصارع سكرات الموت حتىٰ فاضت نفسه المقدّسة ولفظ نفسه الأخير وهو علىٰ
صدر علي يناجيه ويلقّنه!
روىٰ ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال في مرضه: « ادعوا لي عليّا.. ادعوا لي أخي»، فدُعيَ له، فأقبل مسرعاً، فقال صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام: «ادنُ منّي»، قال عليهالسلام: «فدنوت منه فأوصاني بجميع وصاياه، ثم استند إليّ فلم يزل مستنداً إليّ، وأنه ليكلّمني حتى أنّ بعض ريقه ليصيبني، ثمّ نزل برسول الله صلىاللهعليهوآله القضاء، وفاضت نفسه الطاهرة(1) في حجري(2)، وقد ثقل في حجري فصحت: يا عمّ يا عباس أدركني فإني هالك» فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه صلىاللهعليهوآله، وهنا علا الصراخ في البيت المحمّدي، وعلم الناس أن النّبي صلىاللهعليهوآله قد التحق بالرفيق الأعلىٰ، فأسرعوا يبكون بحرقة، وقد أذهلهم المصاب لفقد رسول الله صلىاللهعليهوآله.(3)
لقد اهتزّت أركان الكون، واظلمّت السماء، وافتجع الكبير والصغير، وقلّ العزاء، وعظم رزؤه علىٰ المخلصين والأقرباء، فيما كانت فاطمة الزهراء، أشدّ الناس حزناً وأكثرهم أسىً ولوعة وحرقة وأعظمهم بكاءاً وانتحاباً. لقد صرخت الصديقة الزهراء من أعماقها بلوعة الأسى: «واأبتاه... وامحمّداه... واربيع الأرامل واليتامىٰ، من للقبلة والمصلّىٰ، ومن لابنتك الوالهة الثكلىٰ... رُميت يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تكن الرزية بالقليل...» ثم قالت: «الثكل شاملنا، والبكاء قاتلنا والأسى لازمنا».
ثمّ زفرت زفرة وأنّت أنّة كادت روحها أن تخرج، ثم قالت:
قلّ صبري وبان عنّي عزائي
بعد فقدي لخاتم الأنبياءِ
عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً
ويك لا تبخلي بفيض الدماءِ
يا رسول الإله يا خيرة الله
وكهف الأيتام والضعفاءِ
قد بكتك الجبال والوحش جمعاً
والطير والأرض بعد بكي السماءِ
وبكاك الحجون والركن والمشعر
يا سيدي مع البطحاءِ
وبكاك المحراب والدرس للقرآن
في الصبح معلناً والمساءِ(4)
ولمّا أفاقت من غيبوبتها وجدت الناس كالبركان الثائر سكارىٰ من وقع المصاب حيارىٰ في أمرهم ، بينما انصرف جماعة من الصحابة إلىٰ سقيفة بني ساعدة يتداولون أمر الخلافة، ناسين ما أوصاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله بابن عمّه أمير المؤمنين عليهالسلام وأنّه خليفته عليهم من بعده. حتى فرغ الإمام ومن معه من تجهيز الرسول صلىاللهعليهوآله وتغسيله، ومن ثمّ دفنه حسب وصيّته الشريفة له في ذلك.
وكانت الزهراء عليهاالسلام في تلك الأحوال يُخشىٰ عليها من الموت ساعة بعد ساعة، لكنّها تحاملت علىٰ نفسها، وذهبت تسعى إلىٰ قبر أبيها صلىاللهعليهوآله، فألقت بنفسها علىٰ القبر، ووقعت مغشياً عليها، ولمّا أفاقت من غشيتها صاحت ومن قلب كئيب: «يا أبتاه جبريل إلينا ينعاه، يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه من جنان الفردوس مأواه، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه»(5). واستعبرت باكية، فبكى الناس رفقاً بها، وتقطّعت قلوب المؤمنين حزناً عليها، ثمّ أخذت حفنة من تراب القبر الطاهر وهي تقول متفجّعة:
ماذا علىٰ من شمّ تربة أحمد
ألّا يشمَّ مدىٰ الزمان غواليا
ورجعت سلام الله عليها مع بعض النسوة والناس تتبعها بعيون دامعة، وعندها رأت أنس بن مالك خادم النبي صلىاللهعليهوآله فقالت له معاتبة: «يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب علىٰ رسول الله؟!»(6).
عن محمّد بن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول: جاءت فاطمة عليهاالسلام إلىٰ سارية في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي صلىاللهعليهوآله:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
واختل قومك فاشهدهم ولاتغب(7)
قال ابن شهرآشوب: إنّ السيدة الزهراء عليهاالسلام ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشىٰ عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: «أين أبوكما(8) الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة، أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما؟»
ثم مرضت ومكثت أربعين ليلة، ثم دعت أُم أيمن وأسماء بنت عميس وعليّاً عليهالسلام وأوصت إلىٰ عليّ عليهالسلام بوصاياها.(9)
وفي هذه الأثناء جاء بنو هاشم وخيار الصحابة إلىٰ السيدة الزهراء يسألونها الصبر والعزاء، ومن أين لها بالصبر والعزاء وكيف... وكل مصاب بعد مصاب رسول الله صلىاللهعليهوآله لمَمٌ.
وجاء بعض الناس إلىٰ علي والزهراء سلام الله عليهما يسألونهما عمّا كان من أمر البيعة، وكيف تمّت لابن أبي قحافة في سقيفة بني ساعدة!. ولم يكد يمضي علىٰ وفاة النبي صلىاللهعليهوآله إلّا ساعات وأهله مشغولون عن كلّ شيء منصرفون في تجهيزه لمثواه الأخير، ونسمع علياً عليهالسلام يقول وفي نبرات صوته حزن عميق وألم دفين: «أفكنت أدَع رسول الله صلىاللهعليهوآله في بيته مسجّى بلا غسل ولا كفن وأخرج أنازع القوم الخلافة»(10).
فأجابت الصدّيقة فاطمة عليهاالسلام علىٰ الفور قائلةً: «ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم»(11).
_____________
(1) قال أمير المؤمنين عليهالسلام في نهج بلاغته: «ولقد قُبضَ رسول الله صلىاللهعليهوآله وان رأسه
لَعَلىٰ صَدري، ولقد سالتْ نفسُهُ في كفِّي فأمررتُها علىٰ وجهي..» شرح نهج البلاغة/ محمد عبده 2: 349.
(2) مسند أحمد 2: 300، ذخائر العقبىٰ/ المحبّ الطبري: 73، كفاية الطالب/ الكنجي الشافعي: 133.
(3) الطبقات الكبرىٰ/ ابن سعد 2: 51.
(4) بحار الأنوار 43: 175ـ 177.
(5) بحار الأنوار 22: 552/ 29.
(6) حياة الإمام الحسين عليهالسلام/ باقر شريف القرشي 1: 268ـ مطبعة الآدابـ النجف.
(7) بحار الأنوار 43: 195/ 25.
(8) لأنّه صلىاللهعليهوآله كان يقول: «الحسن والحسين ابناي..»، مستدرك الحاكم 3: 166.
(9) مناقب آل ابي طالب/ ابن شهر آشوب 3: 362 فصل في وفاة وزيارة
الزهراء عليهاالسلام.
(10) الطبقات الكبرىٰ/ ابن سعد 2: 60، بحار الأنوار/ المجلسي 28: 352.
(11) الإمامة والسياسة/ ابن قتيبة 1: 12.