من طبيعةِ النّظرِ والنظريّةِ والتّنظيرِ، أن تتَّجه إلى بناءِ المَوضوعِ المَدْروسِ بعيداً عن الواقعِ، إنّ النظرَ ينْحو نحوَ بناء نماذجَ مجرَّدةٍ عن الكون (أو الطبيعة أو اللسان أو الواقع)
تَقومُ في بَدءِ الأمرِ على ظواهرَ طبيعيةٍ يَسيرةٍ مُنتقاة تتذرَّعُ بها وتركبُ مطيَّتها [الرّاكبُ هنا هو النظّرُ، والمَركوبُ ظواهرُ مُنتقاةٌ يسيرةٌ مُتذَرَّعٌ بها من الواقع]،
ولكنّ هذه النّماذجَ النظريّةَ المبنيّةَ تقومُ في أساسِ بنائها على مَبادئ التفسير، ويُرادُ لهذه النّماذج ألاّ تَرتبطَ بظواهرِ الواقع المادّيّ وألاّ تغترفُ منه وأن تَعلُوَ عليْه وتتكبَّرَ عليه،
بل يُرادُ لَها أن تَرومَ ضَرباً من التَّصعيد المجرَّد المغَيِّبِ للواقع أو "تصعيد مثالي" أو "استعلاء مثالي" Idealization . إن النظرَ بهذا المفهوم "يبني" من جديدٍ أو "يَصنعُ" بدءاً،
موضوعاً، له خاصّاً به يفرضُه على الواقع ويدَّعي شرعيّتَه، و"يُغَيِّبُ" أو "يُنْكر" الواقعَ والطّبيعيَّ ذاتَه، ثمّ يجردُ هذا النّظرُ المُنكِرُ المُسْتَعْلي، من نفسه رقيباً على معمارِه النّظريّ،
يحفظ النظامَ النظريَّ ويَرْعى الوِفاقَ العامَّ بينَ مَبادئه، أي يجرِّدُ ناقداً يحفظُ "مِعمارَ النّظرِ المحضِ". وهو بذلك يتصرف في طبيعة الواقع والمعرفة، وينسخُها ويُشوِّهُها
ويصرفُ نظرَ الملأ عنها.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
[أفضّلُ استعمالَ الاستعلاء المثاليّ أو الإمْثال بكسر الهمزة، idealization ، على وزن إفْعال بزيادَة همزة، من أمْثَلَ يُمثلُ إمْثالاً، وضَعَ مثالاً أو صَنَعَ مثالاً، ولا أقولُ كَما يَقولُ
متفلسفةُ اليومِ الأمثلَة كما يقولونَ الأجْرأة]