هُناكَ حُقول دلالية مُتقاربة، في سِياقِ الحَديثِ عن هجرةِ العُقولِ؛ هي الهجرةُ، والبعثُ والابتعاث، وفرارُ العُقول، ونزيفُ الأدمغة، وهجرةُ الرؤوس وهجرةُ الكفاءات وهجرةُ العُقول.
وأهمّ الكلماتِ المُستعْمَلَة البَعْثُ والابْتعاثُ، فالفعلانِ بَعَثَ وابتعَثَ يَدلاّن على معنى اتّخاذِ فلانٍ فلاناً مبعوثاً، أي ابتعثَه اتّخَذَه مبعوثاً له، مثل افترشَ الأرضَ اتّخذَها فِراشاً، وبَعَثَهُ يَبْعَثُه بَعْثاً أَرْسَلَهُ وَحْدَه، وبَعَثَ به أَرسله مع غيره، وابْتَعَثَه أَيضاً أَي أَرسله فانْبعَثَ، والبَعْثُ الرسولُ والجمع بُعْثانٌ والبَعْثُ بَعْثُ الجُنْدِ إِلى الغَزْو، والبَعَثُ بفَتْحِ العَيْنِ القومُ المَبْعُوثُونَ المُشْخَصُونَ. ويُقالُ هم البَعْثُ، بسُكون العين .
غيرَ أنّ الفعلَ بعثَ يدلُّ على إرسالٍ مُطلَقٍ غير مُقيَّد، نقولُ: بَعَثَهُ يَبْعَثُه بَعْثاً أَرْسَلَهُ وَحْدَه، وبَعَثَ به أَرسله مع غيره، وابْتَعَثَه أَيضاً أَي أَرسله، وهو قليلٌ، و المُرْسَلُ يُسمّى مَبْعوثاً و بَعيثاً. بيدَ أنّ القياسَ الصّرفيّ في الفعل ابْتعَثَ يقتضي أن يكونَ الابتعاثُ إرسالاً مُقيَّداً لا إرسالاً مُطلَقاً، خلافاً للفعلِ المُجرَّدِ "بَعَثَ"، والمَقصودُ بالإرسالِ المُقيّد أنّ المُرسِلَ يتّخذُ المُرسَلَ مبعوثاً خاصاً له، أو أنّ الجهةَ المرسِلَةَ كالمؤسسةِ أو الجامعةِ تتخذُ من المبعوثِ مُرسَلاً لَها حتّى إذا تخرّجَ عاد إليْها ليرُدَّ الدّيْنَ و يُؤدّيَ الخدمةَ التي في عُنُقِه أو يَرُدَّ ما في ذمّتِه من عَهْدٍ والْتزامٍ. فالمبعوثُ مُرسَل من قِبَل جهةٍ مُرسِلَةٍ وكَفى، أمّا المُبتعَثُ فيُفيدُ مَعْناه أنّه مُرْسَلٌ على شرطِ العودَة والإفادَةِ.
أمّا الهَجْرُ فهو ضدّ الوصل؛ هَجَره يَهْجُرُه هَجْراً وهِجْراناً صَرَمَه وهما يَهْتَجِرانِ ويَتَهاجَرانِ، والاسمُ الهِجْرَةُ والمُهاجَرَة. وأَصل المُهاجَرَةِ عند العرب خروجُ البَدَوِيّ من باديته إِلى المُدنِ، يقال هاجَرَ الرجلُ إِذا فَعلَ ذلكَ، وكذلك كُلُّ مُخْلٍ بِمَسْكَنِه مُنْتَقِلٍ إِلى قوم آخرين بِسُكناهُ فقد هاجَرَ قومَه. وسمي المهاجِرون مُهاجِرِين لأَنهم تَركوا ديارَهم وأموالَهُم ومَساكنَهم التي نَشَؤُوا بها لله تَعالى، ولَحِقُوا بدار ليس لهم بها أَهل ولا مال حين هاجروا إِلى المدينة. فكل مَن فارَقَ بَلدَه من حَضَرِيٍّ أَو بَدَوِيٍّ وسَكَنَ بَلداً آخَرَ غَيْرَ بَلَدِه فهو مُهاجِرٌ والاسم منه الهِجْرة.
ويظهرُ من الفَرقِ بين البعثِ والابْتعاثِ والهجرةِ أنّ البَعْثَ والابتعاثَ فعلٌ خارجيٌّ يتعدّى الباعثَ إلى المبعوث بِه، لأغراضٍ ومَنافعَ وغاياتٍ تتّصلُ بهما أو بأحدِهِما. أمّا الهجرةُ فهي فعلٌ داخليٌّ يفعلُه المُهاجرُ من تلقاءِ نفسِه لمانعٍ يمنَعُه من المُكثِ والبَقاءِ ببلدِه، وذلكَ لجلبِ مَصلحةٍ لا تحصلُ إلاّ بالهجرةِ أو دَفْع مضرّةٍ لا تدفعُها إلاّ الهجرةُ.
هذا، وقد تكونُ الهجرةُ ظاهرةً صِحِّيّةً طبيعيةً تتصلُ بضرورات الحَياةِ، كمُهاجرَة أسباب الضَّرر ونَفادِ المنافِعِ، إلى مَواردِ الرزق، ومنها هِجرةُ العُمّال إلى أماكنِ العَملِ، وهجرةُ الطُّيورِ إلى أماكنِ الدفء، وهجرة الحيوانات إلى مواطن الكلأ والماء.