في مرفأ مدينة بريست، الواقعة في أقصى الغرب الفرنسي، المشرف على الأطلنطي، ينتصب هيكل معدني ضخم يشبه عمود مسجد، كان لونه قبل قرون أخضر داكناً قبل أن يصير اليوم شاحب الطلاء، باهت السحنة، كما لو أنها سنوات الأسر الطويلة التي تركت آثارها على هامته الرابضة فوق قاعدة من الرخام، المحاطة بقضبان حديدية توحي بأنه سجين عجوز، أو عزيز قوم زل، على فوهة فمه المغلق يجثم ديك فرنسي مغرور، ساحقاً إياه برجله اليسرى، نافشاً صدره المنفوخ صوب بحر المانش في غرور.
يسمي الفرنسيون هذا المدفع الجزائري المأسور "القنصلة"، مؤنث القنصل، أما الجزائريون فيسمونه باسم آسر "بابا مرزوق".
فما هي ملحمة هذه القطعة الحربية التي تطالب الجزائر باستردادها من فرنسا وإرجاعها إلى موطنها الأصلي بباب الوادي بعد قرنين من الارتهان.
1/ يوم تحطمت أسطورة المرعب الإسباني "شارلكان"
تحت أسوار مدينة الجزائر العتيقة تحطَّمت أسطورة الملك الإسباني المغرور "شارلكان"، ووُلدت أسطورة بابا مرزوق الخالدة.
فما بين شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني من العام 1541 ميلادياً، سيّر الإمبراطور المرعب سفنَه الحربية العتيدة وجيوشه الأوروبية الجرارة، وكانت تضم لفيفاً أوروبياً من محاربي ألمانيا وإيطاليا وفرسان مالطة، تكلله تبريكات بابا الكاثوليك، مبشرة إياه بغزوة النصر الحاسم.
ولفرط ما جمعه من عتاد وعدة ومدد هائل ظنَّ الإسباني أن معركته تلك لن تكون سوى نزهة قصيرة، فراح ينصب سرادقه قرب "كدية الصابون" بأعالي باب الواد ويتهادى في خيلاء، مردداً عبارات "لن أذهب من هنا حتى أحكم هذه البلاد إلى الأبد"، قبل أن يخط للسلطان حسن أغا الطوشي، حاكم الجزائر، كتاباً يطلب فيه تسليم مفاتيح القصور والديار، غير أن الرد الذي سمع "ما أنت سوى كلب من كلاب الصليبيين" سرعان ما أنذر بأن تلك الحملة العظيمة لن تكون غير نباح كلاب.
2/ من برج الملك الإسباني إلى برج "أبو ليلة"
وفي واقع الحال ما من قوة على الأرض كانت في تلك الأيام قادرة على هزيمة تلك الفلول المتدفقة من البحر، والنازلة براً، والزاحفة عبر الدروب الصاعدة إلى هضبة "الطغارة"، سوى عزائم أهل الأرض الذين تقاطروا من عنابة ومدن الداخل، ومدد الغيب، حتى إن ولياً من أولياء المدينة الصالحين وكان يدعى سيدي يوسف داداه خرج إلى شاطئ تافورة ضارباً عصاه في البحر مبتهلاً فرج السماء العجيب، والناس يرقبون في ذهول شطحته الغريبة من باب عزون.
وما هي غير ساعات قليلة حتى تحرّكت السحب السوداء الظليلة
والغمائم السود متهيئة لعاصفة هوجاء ظللت خليج الجزائر برمته، ثم أبرقت وأرعدت كما لم تبرق وترعد من ذي قبل، حتى إن ملك أوروبا المتوجس خرج من برجه المنصوب على حين غرة يراقب ما حلّ بسفنه التي عبث بها الموج العاتي، وقذف بها في جنوح نحو الصخور فانقلب جلها حتى طفت الجثث الغارقة والأبدان المترنحة فوق الزبد، فهالته اللعنة الساقطة كسفاً من السماء، ثم ما كاد يستفيق حتى رأى جنوده المشاة يتساقطون في الأطيان والأوحال تحت ضربات ميليشيا بكير الميزابي، المعاضدة لقوات جاءت من كل حدب وصوب لنجدة العاصمة.
انتهت حملة شارلكان الضخمة في ساعات إلى بوار، لا بل إنه ذبح جواده وخيول فرسان مالطا كي يُطعم جنوده الهالكين جوعا، ثم شوهد رامياً تاجه في البحر، مفضلاً الانعزال بإيطاليا على أن تشهد إسبانيا خيبته العظمى، ثم إنه يموت في بلده الأصلي وفي قلبه غصة التاريخ القاهر. وأما الجزائريون فقد تندّروا، مطلقين على برجه الذي أقامه كي يدوم احتلاله إلى الأبد اسماً ساخراً كناية عن بقائه ليلة واحدة فسمّوه "برج أبوليلة"، ولا يزال الاسم إلى اليوم شائعاً ودارجاً، وأما تلك الربوة التي اسطلي فيها فصارت تعرف بـ"كدية الزوبية"، وتعني هضبة الزبالة.
3/ صممه الإيطالي سيبستيانو كورونا وصنع في دار النحاس بباب الوادي
كان السلطان حسن آغا الطوشي، المزهو شعبه بانتصار عالمي مجلجل ومزلزل يفكر في اليوم الذي يلي، أي أنه كان متفكراً في تجنب الانهزامات غداً أكثر من حصد الانتصارات اليوم، إذ إنه قرر دونما إبطاء أن يذهب بنفسه إلى "دار النحاس"، الواقعة بباب الوادي، آمراً بصناعةِ مدفع عملاق يكون سيداً أبدياً يتوج الحصون والقلاع التي بدأ بتشييدها.
لم تمضِ غير سنة وحيدة حتى كانت دار الصناعة الحربية تحتفي العام 1542 بمولودها البكر، ذلك المدفع الضخم الذي أنجزه مهندس الصهارة والسباكة، سيبستيانو كورونا، ذو الأصول الإيطالية المنحدرة به إلى المدينة العائمة البندقية.
لقد كان المدفع الكبير بماسورته الضخمة التي تقارب السبعة أمتار، يزن اثني عشر طناً، وقادراً على رمي قذيفة بوزن 80 كيلوغراماً على مدى يفوق 5 آلاف متر، وكان ذلك بمقاييس ذلكم العصر إنجازاً عسكرياً قلما ازدانت به ورش الصناعات الحربية في البحر المتوسط.
وعلى مدار عقود، لا بل قرون طويلة، ظلّت السفن الحربية الأوروبية تتحاشى الاقتراب من تخوم مدينة الجزائر العاصمة، وأسوارها المحصنة، تحذر أن تؤول إلى أتون محترق ورماد ملتهب، وعديدة كانت تلك الأساطيل الحربية الإسبانية والفرنسية والإيطالية التي ظلت غير ما مرة تعدد خيبات الأمل المتراكمة، لا بل إن الأمر غدا عقدة تاريخية تغلفها الأساطير الخرافية التي وسمت المدينة بالمدينة المنحوسة، غير أن أهلها صاروا يطلقون عليها "المحروسة" ببركات قلاعها الشامخة ومدافعها الألف، وقذائف الحامي الأسطوري جالب السعد المؤزر ورزق السلام الوافر: "مدفع بابا مرزوق".
5/ السلطان "ميزو مورتو" يقذف به سفراء وقناصله فرنسا
بين كل الأمم الأوروبية التي عاينت هيمنة الأسطول البحري الجزائري برئاسة العظام، وهيمنة المدفع العملاق على مجاله البحري من أعالي القصبة حتى خليج تامنفوست، كان ملوك فرنسا الأكثر حنقاً على بابا مرزوق، حينما حوّل قناصلهم وأسراهم إلى لحم مدافع على مرتين متتاليتين.
ففي خضم الصراع المحتدم بين الدولتين حول النفوذ البحري المتقاطع مع المصالح السياسية والاقتصادية، جدّت على السطح نزاعات حربية انتهت بمعارك بحرية، وقعت الأولى في العام 1683، شنّ الأميرال الفرنسي ديكان هجوماً على الجزائر، لكن تلك الحملة سرعان ما انتهت، عندما قرر حاكم البلاد السلطان حسن ميزو مورتو "نصف الميت"، وكان من صقور رياس البحر، أن يرد على السفن الحربية الفرنسية بإعدام القنصل الفرنسي الأب جون لوجاشي بطريقة مروّعة، بحشوه في فوهة بابا مرزوق وقذفه أشلاء تجاه الأميرال المغامر، ذات المشهد تكرر العام 1688، عندما قاد الأميرال الفرنسي جون ديستري حملة ثانية انتهت كسالفتها بأشلاء متطايرة لأسرى فرنسيين من ماسورة المدفع الضخمة صوب السفن الغازية. فيُسمي الفرنسيون مدفع بابا مرزوق منذ تلك الحادثتين باسم مؤنث ومحقّر هو "لا كونسيلار"، أي "القنصلة"، وتغدو قطعة المعدن تلك أشد القطع الحربية كُرها لدى الجيوش الفرنسية المتعاقبة.
6/ الجزائر تطالب بتحرير الأسير 221 من ميناء بريست
في السادس من شهر أغسطس/آب 1830، وإذ لم يمض على احتلال الجزائر غير شهر ونيف، حتى كانت طلائع الغزو باسطة يدها على المدفع الضخم كغنيمة حرب، لا بل إنه كان محملاً تحت قيد الأسير رقم 221، على ظهر السفينة ماري لويز، العائدة إلى ميناء تولون، كي يعرض هناك كتذكار للنصر الكبير ولانتقامات أرواح القناصلة من شبح الأب مرزوق، قبل أن يقرر الأميرال دوبري أن ينقله إلى ميناء مدينة بريست التي ينحدر منها، ويسجن منذ العام 1833 بين أسوار حديدية، وديك فرنسي يعلو قوامه المنتصب جاثماً بإحدى رجليه على فوهته الصامتة.
منذ سنوات، ما انفكت أصوات مؤرخين ومثقفين جزائريين، يتقدمهم الكاتب بلقاسم باباسي، الذي ألف كتاباً عن "المدفع الأسير"، تطالب باستعادة بابا مرزوق، باعتباره جزءاً من تاريخ العسكرية البحرية الجزائرية، ورغم أن وزيرة الدفاع الفرنسية ماري أليون ماري ردت آنذاك "إن البحرية الفرنسية متعلقة أشد التعلق بهذه القطعة الحربية"، فإن تطورات رمزية هامة برزت في الأشهر الأخيرة، منها استرجاع جماجم قادة الثورات الشعبية من المتاحف الفرنسية عشية ذكرى عيد الاستقلال، الموافق للخامس من يوليو/تموز 2020، بعد سنوات من التذكير والمطالبة والتفاوض، ما اعتبر مؤشراً مرجحاً عن قرب عودة الأسير 221 إلى موطنه الأصلي بعد قرنين من "المنفى" خارج الوطن والديار.