بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال الله تعالى: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾1
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾2
تعرّض القرآن الكريم في كثير من آياته لموضوع الاقتداء والتأسّي الذي يعني أن يتخذ الإنسان ما يراه نموذجاً يحتذى به، ليسير بهدف أن يقترب منه، أو يصل إليه، أو يصير مثله.
ومسألة الاقتداء أساسية في حياة الإنسان منذ طفولته، فالصغير يبدأ منذ شهوره الأولى بمحاكاة أفعال الآخرين وتقليدهم فيها. ثم بعد ذلك يتخذ ابويه قدوة له في حياته، إلى أن يصبح في عمر يحاول أن يعبِّر عن استقلاليته، باحثاً عن تقدير الآخرين له. فإذا به قد يجد نفسه مقتدياً بشخص يتبعه ويقتدي به وقد يكون قائداً أساسياً أو دينياً أو شخصية رياضية أو فنية وهنا تكون الخطورة في مستقبل هذا الإنسان حينما يسير في طريق الاقتداء دون وعي ونضوج، مما يؤثّر الأثر الكبير على مصيره في الدنيا والآخرة.
بناءً على ما تقدّم تعرّض القرآن الكريم لنقاط أساسية في موضوع الاقتداء هي:
أ-معيار الاقتداء
أوضح القرآن الكريم أن معيار الاقتداء يرتبط بالهداية، قال تعالى:" بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ "3
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾4.
ومن الواضح أن الهداية هي الإرشاد إلى ما يراه الإنسان كمالاً، على قاعدة أن الإنسان مفطور على الانشداد نحو الكمال، من هنا أورد القرآن في حوار الله تعالى مع هؤلاء الذي اقتدوا بآبائهم وعلى آثارهم مسألة الهداية إلى الأكمل فحاورهم حول الأهدى إلى كمال الإنسان بقوله عز وجل : ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾5.
إذاً بيّن القرآن الكريم أن معيار الهداية هو الأهدى إلى الكمال.
ب-أنواع الاقتداء
إنّ القدوة في حياة الإنسان قد تكون:
1-موقفاً فكرياً كتكفير الآخرين، والتعصب في المعتقد.
2-سلوكاً فردياً، كالزيّ، كقصّة الشعر والاستهلاك shopping
3-نمطاً اجتماعياً كالتظاهرات الاحتجاجية.
4-إنساناً مميزاً، كالعالم، والقائد، والمقاوم، والرياضي المتألّق، والفنّان.
كل ذلك بحسب ما يعتقد الإنسان من كمالات قد تكون حقيقة وقد تكون موهومة.
من هنا حينما عرض القرآن الكريم موضوع القدوة لم يقتصر على الإنسان بل تعدّاه للموقف الفكري والسلوكي، وهذا ما نلاحظه فيما مرّ من آيات كما نلاحظه في الآيتين الآتيتين:
• قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾6.
• وقال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾7.
فهاتان الآيتان تعرضان القدوة في الإنسان الرسول. وهي قدوة عامة في الفكر والسلوك، إلا أن مورد الآية الأولى هو الموقف الجهادي لرسول الله (ص) فالآية واقعة بين آيات سورة الأحزاب الجهادية ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيماً﴾.
والآية الثانية تتحدث عن التأسّي والاقتداء بالموقف الفكري العقائدي لنبي الله ابراهيم (ع) والاقتداء في هاتين الآيتين هو على قاعدة الهداية التي تعبّر عن معيار الاقتدء، من هنا قال تعالى: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾8
أولوية الاقتداء
في إطار إرشاد القرآن الكريم أنَّ الاقتداء إنما هو باعتبار الهداية إلى كمال يراه الإنسان، بغضّ النظر عن واقعية ذلك، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾9.
والسوء مصدر ساء يسوء، والسوء إسم المصدر، وهنا الآية تشير إلى أن المثل مثلان، مثل سوء وقبح، مثل حسن ومثل السوء، والقبح يمثّل الانحراف في الاقتداء، بينما مثل الحسن يمثّل التكامل فيه.
ومن الآية إشارتان لطيفتان:
الأولى: إنّ التكامل الإنساني في اقتداء الإنسان لا بدّ أن ينطلق من الإيمان بالآخرة، أي من الإيمان بوسع الحياة التي لا تقتصر على الدنيا، فكمال الإنسان هو ما يُلاحظ فيه الدنيا والآخرة، وعليه فالقدوة لا بدّ فيها من ملاحظة الدارين.
الثانية: إنّ مثل الحسن والاقتداء والتكامل هو الذي يقرّب نحو الله تعالى الذي هو الكمال المطلق (ولله المثل الأعلى). فكلّما كانت الفكرة والسلوك أقرب إلى الله تعالى كلمّا كان الاقتداء هو الأولى للإنسان.
القدوة الأولى
بناءً على صفات القدوة الأولى عرض الله تعالى مقارنة بين الإنسان والجماد مقدّماً الإنسان في قابلية التكامل، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾10
بعد أن تميّز الإنسان عن الجماد أراد الله تعالى أن يميّزه عن الملائكة لكثرة عبادته وأمرهم بالسجود للإنسان الأول لأنه يحمل فيه القدوة الأولى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
هذه الأسماء هي سرّ السجود لآدم، وسرّ تفضيل الإنسان على الملائكة والجن والإنس والجماد.
وهذه الأسماء هي الأقرب إلى الله تعالى، والأعلى كمالاً بين عالم الخلق، فهي محلُّ الاقتداء الأول إنساناً وفكراً وسلوكاً.
وحينما أراد الله تعالى أن تُعرف الأسماء، وبالتالي يُعرف القدوة الأولى في عالم الخلق أمر آدم أن ينبئ بالأسماء، فإذا بآدم ينطق بأول الأسماء الأرفع كمالاً والأقرب لله مرتبة فإذا هو اسم محمد (ص).
من هنا كان محمد (ص) هو القدوة في كلّ كمال، وكلُّه كمال.
-فهو القدوة في الإسم فاسم محمد (ص) أجمل وأفضل الأسماء.
-هو القدوة في الفكر، ففكر محمد (ص) هو الحقيقة الكاملة الثابتة.
-وهو القدوة في التشريع، فسنّته مع كتاب الله هي قاعدة كمال الإنسان.
-وهو القدوة في العبادة التي نشهد له بها قبل الرسوليّة في كلّ صلاة بقولنا فيها: أشهد أن محمّداً عبده ورسوله" فهو الذي عبد الله عبادة عاتبه ربه بقوله: ﴿ طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾11.
-وهو القدوة في الخُلُق الذي شهد الله له بقوله: ﴿وإنك لعلى خُلق عظيم﴾12.
روي أن يهودياً جاء إلى بلال الحبشي طالباً: أخبرني عن أخلاق رسولكم"، فدلّه على السيدة فاطمة (ع) فطلب منها ذلك، فدلّته على أمير المؤمنين (ع) الذي سأل اليهودي: صف لي متاع هذه الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال الرجل: هذا لا يتيسر لي، فقال الإمام علي (ع): عجزت عن وصف متاع الدنيا، وقد شهد الله على قلَّته حيث قال: "قل متاع الدنيا قليل"13، فكيف أصف أخلاق النبي (ص) وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال: "وإنك لعلى خُلق عظيم"14.
وهو قدوة في كلّ تفاصيل حياته زوجا وأباً ورحماً ومصاحباً وقائداً ومجاهداً وعاملاً وهادياً.
فسلام الله تعالى وصلواته الدائمات على محمد وآله الطاهرين.
1- الأنعام 90.
2- الأحزاب 21.
3- الزخرف 22.
4- الزخرف 23.
5- الزخرف 24.
6- الأحزاب 21.
7- الممتحنة 4
8- الأنعام 90.
9- النحل 60.
10- الأحزاب 72.
11- طه، الآيتان 1-2
12- القلم، 4.
13- النساء، 77.
14- القلم، 4