بــرُّ الـوالـديـن في الصحيفة السجاديّة



مقدمة
برُّ الوالدين من المسائل التي اهتمّ بها الإسلام العزيز اهتماماً بالغاًً، فالقرآن الكريم والروايات الشريفة حثّت على هذا الخلق الكريم. وقد جاء التأكيد على حقّ الدعاء للوالدين كأحد الحقـوق الكثـيرة الـتي لهـما مـن خـلال الآيـة المبـاركـة {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(1)، وقـد ورد في الصـحـيفـة السجاديّة دعاء الإمام
السّجاد (عليه السلام) لأبويه، ليؤكّد على مسألة الدعاء للوالدين.
وهذا الموضوع المتواضع الذي بين يديك، محاولة للوقوف على بعض فقرات هذا الدعاء المبارك، التماساً لبعض الطرائف والإشارات التي يكتنفها الدعاء، مع ملاحظة أنّ ما يذكر من أمور هي ما يمكن فهمه من كلام الإمام (عليه السلام)، وإلا فإنّ فهم المراد الحقيقي من كلامٍ للمعصوم لا يفهمه إلا المعصوم، فما يُذكر هنا مجرّد احتمالات لا يُجزم بكونها المعنى المقصود للإمام صلوات الله وسلامه عليه.
وكانت الاستفادة في هذا البحث من كتاب رياض السالكين للسيّد علي خان المدني الشيرازي. وقبل البدء بالبحث في فقرات الدعاء نذكر مقدمة:
لماذا الدعاء للوالدين؟ ولماذا لا يُكتفى بالإحسان الخارجي لهما، كالطاعة والاحترام؟ الجواب:
- لكون الأمر بالدعاء أمراً إلهياً، فلا بد من العمل به من باب التعبّد وإن لم نعلم سببه {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
- عظم حقّ الوالدين بحيث لا يمكن أداء الحقّ الخارجي لهما فيأتي دور الدعاء والطلب مِن الله تعالى في أن يرزقهما خير الدنيا والآخرة عوضاً عن أتعابهما في تربية الابن والتي لا يمكن مجازاتها في الدنيا من قبل الإنسان نفسه مهما فعل (وسيأتي التصريح من الإمام (عليه السلام) في الدعاء بخصوص هذا الأمر).
ومن عظم حقّ الوالدين (بالاستفادة من كتاب رياض السالكين):
- أنَّهما سبب وجود الولد كما أنَّهما سبب التربية، أمّا غيرهما فقد يكون سبب التربية فقط، فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين.
- إنّ إنعامهما يشبه إنعام الله (سبحانه تعالى) من حيث أنَّهما لا يطلبان ثناءً ولا ثواباً.
- كما أنّ المناسبة والعلاقة بين واجب الوجود وممكن الوجود ذاتيّة لا عرضيّة، كذلك العلاقة بين الوالد وولده.
- من غاية شفقة الوالدين أنّهما لا يحسدان ولدَهما إذا كان خيراً منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما.
وقد أشار صاحب رياض السالكين بعد ذكره روايات في عظيم حقّ الوالدين بقوله: "وقد دلّت هذه الأخبار على أنّ أكثر حقوق الوالدين وبرّهما كما يجب، مما لا يعلمه إلا الله أو من علّمه الله، والله أعلم"(2). وأشار (قدِّس سرُّه) إلى شبهة وقع فيها بعض المتسمّين بالحكمة -كما عبّر عنه- في أنّه كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد، وعرّضني للفقر والعمى والزمانة.
وآخر قال في ترك التزوّج والولد أنّه أمَر أن يُكتب على قبره هذا الشعر:
هذا ما جناه أبي عليّ
وما جنيت على أحد

وفي جواب الشبهة قال: "وهذا كلّه جهل منهم بنعمة الوجود المستتبعة لجميع النّعم والمنافع في الدارين"(3). وذكر نقلاً عن أحدهم: "هب أنّ الوالد في أوّل الأمر طلب لذة الوِقاع، إلا أنّ اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه، من أوّل دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر".
الموضوع
المقطع الأول: (الصلاة على النبيّ صلَّى الله عليه وآله):
"اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك وأهل بيته الطاهرين، واخصصهم بأفضل صلواتك ورحمتك وبركاتك وسلامك...".
لماذا صلّى الإمام (عليه السلام) على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) في بداية هذا الدعاء الذي هو دعاء لوالديه، وما العلاقة بين الأمرين؟ يمكن أن يطرح جوابان:
الأول: هو الجواب المتبادر وهو أنّ كلّ دعاء محجوب حتى يُصلّى على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، فبهذا لا تكون خصوصيّة لهذا الدعاء في أنّه ابتدأ بالصلاة على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله). فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كلّ دعاء محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمّد وآله»(4).
الثاني: هو ما أشار إليه السيد علي خان المدنيّ الشيرازي في شرح الصحيفة السجاديّة، وحاصله: أنّ الإنسان قبل أن يدعو لوالده النسبيّ لا بدَّ من أنْ يدعو لوالده المعنوي وهو النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، ونقل هذا الحديث: «يا عليّ أنا وأنت أبوا هذه الأمّة»(5)، فالنّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) أبو الأرواح وآدم (عليه السلام) أبو الأجساد.
المقطع الثاني: (طلب الكرامة والصلاة للوالدين):
«واخصص اللهمّ والدَيّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين...».
ما أعظم هذا المقطع في بيان عظمة حقّ الوالدين! فالإمام السجاد (عليه السلام) يعلّم الإنسان أن يصلّي على والديه ويطلب من الله تعالى لهم الكرامة، كما يصلّي على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله): {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(6)، اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وهذه إحدى الفقرات في الدعاء التي تبيّن عظيم حقّ الوالدين، وستأتي إشارات أخرى إلى هذا الأمر.
المقطع الثالث: (برُّ الوالدين بين العلم والعمل):
«اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وألهمني علم ما يجب لهما عليّ إلهاما، واجمع لي علم ذلك كلّه تماما، ثمّ استعملني بما تلهمني منه، ووفقني للنفوذ فيما تبصّرني من علمه، حتى لا يفوتني استعمال شيء علّمتنيه، ولا تثقل أركاني عن الحفوف فيما ألهمتنيه».
من الأمور المستفادة من هذا المقطع:
1- دعوة أهل البيت (عليهم السلام) لتحصيل علوّ الهمّة:
فالإمام (عليه السلام) في هذا المقطع يطلب من الله تعالى العلم الكامل بحقّ الوالدين، والعمل الكامل بمقتضى هذا العلم، وهذه دعوة إلى علوّ الهمّة.
وكما في الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ليس من شيعتنا من يكون في مصر يكون فيه مائة ألف ويكون في المصر أورع منه»(7).
إذاً المطلوب هو علوّ الهمّة، ويكون ذلك أولاً بعلوّ الهمّة على مستوى نظريّ، والذي يكون مقدمة للتطبيق العمليّ ولو بعد حين، أمّا من كانت همّته على المستوى النظريّ متدنية، فلن يصل في مقام العمل إلا إلى ما أراده أو ربما أقل.
فالذي همّته أن يبني طابقين، فلن يبني أكثر من ذلك، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو الطابقان، أمّا من كانت همّته أنْ يبني 10 طوابق، فقد يبني 10 أو 9 أو أقل.
وهنا أيضاً الإنسان يسعى لأنّ يكون باراً بوالديه بالمستوى الأكمل وذلك من خلال أمرين: معرفة حقّهما بشكل كامل، ثمّ العمل على وفق ذلك العلم، عملاً ليس فيه تقصير. فلم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بطلب المعرفة الإجماليّة السطحيّة بحقّ الوالدين، بل طلب المعرفة الكاملة «واجمع لي علم ذلك كلّه تماماً»، وكذلك في جانب العمل لم يكتفِ بالعمل البسيط الذي قد يكون في بعض الأحيان مسقط للتكليف، بل قال: «حتى لا يفوتني استعمال شيء علمتنيه».
2- أهميّة العلم والعمل:
مسألة العلم والعمل، وذمّ ترك أحدهما والاقتصار على أحدهما، من المسائل التي لها موقع في التراث الإسلاميّ، في الآيات والروايات.
فقد أشار صاحب كتاب منية المريد: "... وقوله تعالى في وصف العالم التارك لعلمه: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}(8)، أي: لم يفعلوا الغاية المقصودة من حملها، وهو العمل بها {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} فأيّ خزي أعظم من تمثيل حاله بـ.. الحمار"(9).
وقد ورد عن أبي عبدالله (عليه السلام): «العلم مقرون إلى العمل، فمن علِم عمِل، ومن عمِل علِم، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه»(10).
وقد ورد عنه (عليه السلام) في ذمّ العمل بغير علم: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً»(11).
واقتران العلم والعمل أمر مطلوب في كلّ شيء، ومن هذه الأمور برّ الوالدين، فللوصول إلى برّ الوالدين بالدرجة الكاملة المطلوبة لا بدّ أولاً من العلم ثمّ العمل وفق هذا العلم، وهذا ما أشار إليه الإمام (عليه السلام).
في الحديث: «... واطلب العلم باستعماله...»(12).
وهنا نكتة أشار إليها صاحب الرياض وهي أنّ: العمل بعد العلم لذلك استخدم (ثمّ) التي تفيد الترتيب.
3- عظم حقّ الوالدين:
مرّة أخرى يشير الدعاء الشريف إلى عظم حقّ الوالدين، حيث يبيّن أنّ حقّهما يحتاج لإلهام وتسديد إلهي وليس بالأمر العادي. فكما أنّ المؤمن يطلب من ربّه أن يعرّفه نفسه ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) وحجَّته -كما في بداية دعاء زمن الغيبة- كذلك يطلب من الله تعالى أن يعرّفه حقّ والديه، وأن يعينه على العمل بوفق هذه المعرفة. ومن هنا يظهر أنّ المطلوب في برّ الوالدين ليس البرّ النابع من الفطرة فحسب -الذي يكون موجوداً حتى في الحيوانات-، والفطرة قد تختلّ وتتخلّف، بل المطلوب هو مستوى آخر نابع من العلم الكامل الذي يحتاج إلى تسديد إلهي.
4- الالتفات لوجود العوائق:
قد يريد الإنسان أن يعمل وفق ما يعلمه، لكن قد تكون هناك عوائق في الطريق، والإمام (عليه السلام) هنا أشار إلى هذا الأمر «ولا تثقل أركاني عن الحفوف فيما ألهمتنيه»، فالمقتضي قد يكون موجوداً لكنّ المانع لم يرتفع، فلا يحصل الأثر المطلوب.
وعليه لا بدّ من الالتفات إلى مسألة رفع الموانع والعوائق في هذا الأمر، والدعاء من طرق رفع الموانع.
المقطع الرابع: (كيف يكون البرّ بالوالدين؟):
«اللهمّ صلّ على محمّد وآله كما شرّفتنا به، وصلّ على محمّد وآله كما أوجبت لنا الحقّ على الخلق بسببه. اللهمّ اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الأمّ الرؤوف، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما، واستكثر برّهما بي وإن قلّ، واستقلّ بري بهما وإن كثر، اللهمّ خفّض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألن لهما عريكتي، واعطف عليهما قلبي، وصيّرني بهما رفيقاً وعليهما شفيقاً. اللهمّ اشكر لهما تربيتي، وأثبهما على تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري...».
في هذا المقطع إشارات منه سلام الله عليه إلى الجانب العملي في برّ الوالدين، وهنا وقفات على بعض هذه الإشارات:
- طاعة الوالدين:
أكّد الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع على طاعة الوالدين، ولكن ليست تلك الطاعة التي قد تكون على مضض وتثاقل، بل طلب الإمامُ صلوات الله عليه من ربّه تعالى أن يجعل طاعته لوالديه أقرّ لعينه من رقدة الوسنان، أي الشخص الذي فيه النّعاس، وأثلج لصدره من شربة الظمآن.
فيظهر من هذا الكلام أنّ الطاعة للوالدين لا بدّ من أن تصل إلى هذا المستوى من التفاعل النّفسي، فقد يكون شخص مطيعاً لوالديه من النّاحية العمليّة، ولكن عنده تثاقل نفسي من ذلك.
- تقديم هوى الوالدين على هوى النّفس:
تقديم هوى الوالدين على هوى النّفس، مما يشير إلى عظم حقّ الوالدين، ولكن هذا لا يعني أن يقدّم هواهما حتى على إرادة الله تعالى، وهذا مما لا شكّ فيه من باب أنّه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(13)، بل الكلام يكون عندما تكون كلا الإرادتين والرغبتين لا تتنافيان مع حكم إلزامي في الإسلام، فعند ذلك يقدم الابن إرادة والديه على إرادته ورغبتهما على رغبته.
- استكثار قليل إحسان الوالدين، وتقليل كثير برّ الابن:
من الأمور المطلوبة من الإنسان أن يستكثر خير الآخرين، ويتأكد هذا الأمر بالنسبة إلى الوالدين، ومن مميّزات إحسان الوالدين للابن -وإن قلّ- أنّه يأتي ابتداءً وليس من باب ردّ الجميل، أمّا إحسان الابن لوالديه فمهما كان كثيراً فإنّه يكون من باب ردّ الجميل، ولا شكّ في أنّ الابتداء بالإحسان أعظم.
المقطع الخامس: الاعتذار عن التقصير في حقّهما:
«اللهمّ وما مسّهما منّي من أذى، أو خلص إليهما عنّي من مكروه، أو ضاع قِبلي لهما من حقّ، فاجعله حِطّة لذنوبهما، وعلوّاً في درجاتهما، وزيادة في حسناتهما، يا مبدّل السيئات بأضعافها من الحسنات».
وهذه سمة المؤمن دائماً، يشعر بالتقصير تجاه من له حقّ عليه، ابتداءً من شعوره بالتقصير تجاه خالقه إلى شعوره بالتقصير قبال أولياء الله تعالى.
فهو يستشعر التقصير تجاه الوالدين عظيم حقّهما عليه، فلا بدّ من الاعتذار عن هذا التقصير ولو غير المتعمد.
فكلّما عظم حقّ الطرف المقابل، اشتدّت الحاجة إلى الاعتذار من التقصير مهما كان السعي في أداء الحقّ عظيماً.
المقطع السابع: إبراؤهما الذمّة:
«اللهمّ وما تعدّيا عليّ فيه من قول، أو أسرفا عليّ فيه من فعل، أو ضيّعاه لي من حقّ، أو قصّرا بي عنه من واجب، فقد وهبته وجُدْت به عليهما، ورغبت إليك في وضع تبعته عنهما، فإنّي لا أتّهمهما على نفسي، ولا أستبطؤهما في برّي، ولا أكره ما تولياه من أمري، يا ربّ فهما أوجب حقّاً عليّ، وأقدم إحساناً إليّ وأعظم منّة لديّ من أن أقاصّهما بعدل، أو أجازيهما على مثل...».
في هذا المقطع بيان لواقعية الإمام (عليه السلام) في تعريفه للوالدين، فهما مع ما لهما من الحقّ العظيم، لكن قد يقصّران تجاه ابنهما لكونهما غير معصومين، فقد يسرفان ويتعديان -كما يعبّر الدعاء-، فالإمام (عليه السلام) بعيد عن المثاليات التي قد تحاول تضخيم الأمور أكثر من حجمها الطبيعيّ، بل هو أورد احتمال أن يصدر الإسراف من الوالدين في حقّ ابنهما.
لكن مع ذلك يأتي دور الابن في الصفح عن والديه، وأن يتغاضى عن هذا المقدار -الذي عادة ما يكون قليلاً- من التقصير من والديه.
والإمام (عليه السلام) نفسه ذكر هذا الأمر في نهاية هذه الفقرة وهو أنّ حقّ الوالدين أوجب وأعظم.
المقطع الثامن: استثارة عاطفة الابن:
«أين إذاً يا إلهي طول شغلهما بتربيتي؟ وأين شدّة تعبهما في حراستي؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ؟..».
في هذه الفقرة من الدعاء المبارك يذكّر الإمام (عليه السلام) الابن بفضائل والديه عليه، فهما وإن كانا قد يسرفان في حقّه -كما مرّ في الفقرة السابقة- لكن هذا لا يعني إغفال فضلهما.
فالإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من الدعاء، يشير إلى نماذج من إحسان الوالدين لابنهما والتي قد يكون الابن قد تلمّس شيئاً منها في حياته، فيشير إلى طول تعبهما في حراسته وحفظه، وكيف أنّهما تحمّلا الصعاب في سبيل حفظ الابن.
وكما يشير الإمام السجاد (عليه السلام) في رسالة الحقوق إلى حقّ الأمّ: «وأما حقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتُضحي وتظلك، وتهجر النّوم لأجلك، ووقَتْك الحرّ والبرد، لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه».
المقطع التاسع: إعلان صريح بعدم إدراك حقّهما:
«هيهات ما يستوفيان منّي حقّهما، ولا أدرك ما يجب عليّ لهما، ولا أنا بقاض وظيفة خدمتهما، فصلّ على محمّد وآله، وأعنّي يا خير من استعين به، ووفقني يا أهدى من رُغب إليه، ولا تجعلني في أهل العقوق للآباء والأمهات يوم تُجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون...».
هنا الإمام (عليه السلام) يعلنها صريحة واضحة، وأنّه لا يمكن إدراك حقّ الوالدين أبداً، سواء في جانب العمل بالوظيفة تجاههما «ما يستوفيان منّي حقهما»، أم في جانب العلم والإحاطة بعظيم حقهما «ولا أدرك ما يجب عليّ لهما».
ومع هذا تأتي العبارة الأخرى لتؤكد أنّ على المؤمن الاستعانة بالله تعالى في أداء حقّهما، وهذا الأمر -أي عدم إدراك حقهما- ليس سبباً لترك الإحسان للوالدين بمقدار الوسع ومن خلال الاستعانة بالله تعالى، وقد أشار الإمام (عليه السلام) نفسه إلى هذا الأمر في رسالة الحقوق في ذكر حقّ الأم: «فإنّك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه».
المقطع العاشر: تكرار الصلاة على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله):
«اللهمّ صلّ على محمّد وآله وذريّته، واخصص أبويّ بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين وأمّهاتهم يا أرحم الراحمين...».
من الملاحظ تكرر الصلاة على النبيّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) بين فقرات الدعاء وعدم الاكتفاء بها في بداية الدعاء، وهذا مما يعطي الدعاء نورانيّة خاصّة بذكر أشرف الخلق(14) (عليهم السلام)، ويجعل الدعاء أقرب إلى الاستجابة.
وفي هذه الفقرة يمكن استفادة نفس الدرس الذي تقدّم في المقطع الثالث، وهو مسألة علوّ الهمّة، فهنا يطلب الإمام (عليه السلام) من ربّه أن يخصّ والديه بأفضل ما خصّ به آباء المؤمنين وأمهاتهم.
المقطع الحادي عشر: الدعاء لهما بعد كلّ صلاة:
«اللهمّ لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي وفي آن من آناء ليلي، وفي كلّ ساعة من ساعات نهاري...».
يذكر صاحب رياض السالكين أنّ: "ظاهر قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} أنّ الأمر للوجوب من غير تكرار، فيكفي في العمر مرة واحدة"(15).
وكما ذكر صاحب الكتاب أنّ الدعاء للوالدين يكفي مرّة واحدة في العمر لامتثال الأمر الإلهي الصادر في الآية المباركة، ولكن الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرة من الدعاء يفتح للمؤمن أفقاً آخر في التعامل مع مسألة الدعاء للوالدين، وهي الدعاء لهما بعد كلّ فريضة، وكأنّ هذا حقّ من حقوقهما التي قد تغفل.
والدعاء للوالدين بعد كلّ صلاة لا يحتاج إلى جهد كثير -كما هو واضح- ولكنّ التحدي يكمن في إمكانية استحضار وتذكّر ذلك.
ومن الواضح أنّ لأدبار الصلوات خصوصيّة، فحال الإنسان قبل الصلاة يختلف عن حاله بعد الصلاة(16).
المقطع الثاني عشر: آثار الدعاء للوالدين:
«اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واغفر لي بدعائي لهما، واغفر لهما ببرّهما بي مغفرة حتماً، وارض عنهما بشفاعتي لهما رضىً عزماً، وبلّغهما بالكرامة مواطن السلامة...».
أشار الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرة إلى آثار الدعاء للوالدين وهي:
- نيل الابن المغفرة الإلهيّة.
- نيل الأبوين للمغفرة الإلهيّة.
- رضا الله (سبحانه تعالى) عنهما.
- بلوغهما مواطن السلامة.
وبهذا يتبيّن شيء من أهميّة الدعاء للوالدين، حيث إنّ الابن لا يمكنه مجازاة والديه على ما قدّماه له، فيطلب من الله تعالى لهما الرضا والمغفرة، وهذا خير مجازاة للوالدين، والتي قد تفوق الإحسان الخارجي لهما كثيراً، فهو -أي الإحسان الخارجي- محدود بهذه الدنيا، وبعد موت الوالدين ينقطع، أمّا الدعاء لهما وأثره المذكور في هذه الفقرة من الدعاء يبقى حتى بعد الموت... وقد ورد عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّ العبد ليكون برّاً بوالديه في حياتهما ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقاً، وإنّه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بار بهما فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله (عزَّ وجلَّ) باراً»(17).
المقطع الثاني عشر: شفاعة الولد للوالدين، وشفاعتهما له:
«اللهمّ وإن سبقت مغفرتك لهما فشفّعهما فيّ، وإن سبقت مغفرتك لي فشفّعني فيهما، حتى نجتمع برأفتك في دار كرامتك ومحلّ مغفرتك ورحمتك، إنّك ذو الفضل العظيم والمنّ القديم، وأنت أرحم الراحمن».
مما يمكن استفادته من هذه الفقرة أنّ هناك نوعاً من الشفاعة تكون بين الابن ووالديه، ولكنّها مشروطة بشروط في كلّ من الشفيع والمشفوع له، أشار الإمام (عليه السلام) إلى شرط في الشفيع وهو أن تسبقه المغفرة الإلهيّة «وإن سبقت مغفرتك»، فليس كلّ أب أو أمّ يمكنهما أن يشفعا لولديهما، وكذلك العكس.
خاتمة
كانت هذه جولة سريعة في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لوالديه، وإشارات إلى بعض ما جاء في هذه الكلمات النورانيّة، فكلامهم نور ينير القلوب، ويبقى البحث قاصراً عن الدروس الأخرى التي يمكن استفادتها من هذا الدعاء، فكلام أهل البيت (عليهم السلام) كالقرآن الكريم حيث عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنة عميق، لا تفنى عجايبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به»(18).
وكذلك كلام أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم عِدل القرآن الكريم.