من مَظاهرِ العصرِ تَداخُلُ العناصرِ وتَفاعُلُها ائتلافاً وتَنافياً تناسُباً وتناقُضاً، فَما كانَ بالأمسِ مرفوضاً أصبحَ اليومَ مألوفاً وما كانَ بعيداً أصبَحَ بتغير المَقاييس حاضراً ومُلازماً،
وقَد عبّرَ الخطابُ الاجتماعيّ السّيّاسيّ عن هذه الظّاهرةِ وعَكَستها مُصطلحاتُه ومَفاهيمُه، حتّى باتَت من المُتلازمات الاصطلاحيّة بعدَ أن كانَت من المتنافراتِ.
وأقصدُ بالمُتلازماتِ الاصطلاحيّة تلكَ الألفاظَ الاصطلاحيّةَ ذات المَعاني المُحدَّدَة، وتتقاربُ فيما بينها في الحقل الدّلالي المألوفِ أو الاصطلاحي، بحُكم العادَة في الدّلالة والاستعمال،
فيُجمَعُ في كلّ مُتَلازمةٍ اصطلاحيّةٍ بين لَفظيْن قد يكونان متباعدَيْن متنافرَيْن أو متقاربَيْن مؤتَلفَيْن، فالمُتلازماتُ ذاتُ أساس تداولي أو اصطلاحيّ لأنّها مجموعة ثابتةٌ تحمل معنى خاصاً.
وقيمةُ المتلازِماتِ الاصطلاحيّة تكمنُ في تحديث المعجم العربي، وتطوير منهج البحث الاصطلاحي والمعجمي، وتُساعد في حوسَبَتِه. فالحاجةُ ماسّةٌ إلى جَمع التعابير الاصطلاحية والسّياقيّة
في العربية اليومَ، وتصنيفِها بحسب أقسام الكلم، أو بطريقةٍ من طرقِ التذصنيفِ المُعجميّ الاصطلاحيّ، وتحليلِ العَلاقات اللفظيّة والمَعْمويّة التي تربط بين مفرداتها، أي بين مفردات كلّ مُتلازمةٍ
أختارُ أنموذجاً محدوداً جداً من هذه المُتلازماتِ: من هذه العبارات الاصطلاحيّة المُتَداوَلَة اليومَ في الخطابِ السياسيّ والاجتماعيّ المُعاصِر:
- الفُجورُ السيّاسيّ [ولَم يعُدْ الفُجورُ قصراً على الأخلاق]
- الذّعارَة الفنّيّة [لأنّ الفنّ قد يخرجُ عن مقاصده إلى غير ما اصطُلِحَ عليْه]
- السِّلم الاجتماعيّ [والسّلم ضدّ الحَرب، فتحوّل من ميدان االوَغى إلى مَيْدان الصّراع الاجتماعيّ]
- اللّعبَة السّياسيّة [ويُعْنى بها الخطط أو الاستراتيجيّات المَنحوَّةُ في علاقات التّدبير السّياسيّ]
- عُنف المَجالس: وهو مُصطَلَح حديثٌ جداً أسفَرَ عنه رَفعُ الصّوت في المحاوَرات والطاولات المُستديرَة والمناظَرات والندوات... فنُقلَ العُنفُ من القوّةِ الجسديّة والتّعنيف الجّسديّ
إلى القَهر النّفسيّ الذي يُمارسُه رافعُ الصّوتِ على مُخاطَبِه.
- الإرهاب الفكريّ: ويُرادُ منه نقلُ الترويع والتّخويف من حَقلِ الإكراه الجسديّ إلى القَمع الفكريّ والنّفسيّ
- الأمن الرّوحي، والأمن الغذائيّ، والأمن القوميّ، وهي متلازماتٌ ذوات معانٍ متقاربة، وكلُّ زوجٍ منها مؤلَّفٌ من متباعدَيْن في الأصل...
كأنّي بأبي مَنصور الثّعالبيّ، يُمكن أن يُعدَّ أنموذجاً في هذا الفنّ، على اختلافٍ في المَقاصد وطريقةِ الجمع والتّصنيف ... وذلك في كتابِه: ثمار القُلوب في المُضاف والمنسوب، والشّاهدُ عندَنا
من الكتابِ تراكيبُ الإضافَة الموزّعةُ على الحُقول الدّلاليّة . وهذا الذي أنشأه الثّعالبيّ مشروعٌ معجميّ يُمكن أن يُحتَذى ويُطوَّر