لا نعرف سرّ ذلك ولا ندرك مغزى أهل التراجم حين نصوا أحياناً على ذلك , فهل مرادهم يا تُرىأنهم حقاً لم يقولوا إلا هذه الأبيات ؟ أم مرادهم أنه لم يصل إلينا من شعرهم إلا ما ذكروه ؟ والظاهر أن هناك نوعين من هذا الشعر , نوع لم يصل إلينا إلا ما وصل , وهو بيت أو أبيات مفردة , ونوع آخر لم يقل الشاعر أو العالم غيره , فمن النوع الأول ما ذكره السيوطي نقلاً عن ابن خالويه أنه قال :
أول من قال الشعر ابن حذام , ذكره امرؤ القيس بقوله :
عُوجَا على طَللِ الديار لعلَّنا *** نبكى الدِّيارَ كما بكى ابن حِذام
وعقب السيوطي قائلاً : " وهو رجل من طيء , لم نسمع شعره الذي بكى فيه , ولا شعراً غير هذا البيت الذي ذكره امرؤ القيس" (1) .
أما النوع الثاني فهو الذي يهمنا الآن فمما ورد إلينا منه ما حكاه أبو الطيب اللغوي عن أبي عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ , قال كان نقش خاتمه :
إنَّ امرأً دنياه أكبرُ همِّه *** لمستمسك منها بحبلٍ غُرورُ
وأضاف قائلاً : " وهذا البيت له وكان رجلاً صالحاً ولا نعرف له شعراً إلا هذا البيت (2) .
وأوهم أبو الطيب ما تحدث به بعد ذلك حين قال : ومما كتب به أبو رَوق الهزّاني البصري، قال أخبرنا الرياشي عن ابن مُناذر قال : قال أبو عمرو : أنا قلت :
وأنكرتْني وما كان الذي نَكرِتْ *** من الحوادثِ إلا الشيبَ والصَّلَعَا
فألحقه الناس في شعر الأعشى " (3) فهل لأبي عمرو بيتان فقط أو بيت واحد ذلك الذي سجله علو خاتمه؟,لقد جلا هذا الوهم ابن جني بقوله : قال أبو عمرو بن العلاء – رحمة الله عليه - : ما زدت في شعر العرب إلا بيتاً واحداً .
يعني ما يرويه للأعشى من قوله :
وأنكرتْنى وما كان الذي نَكرِتْ *** من الحوادثِ إلا الشيبَ الصَّلَعَا (4)
ولا ندري هل هذا البيت من مخزونه الشعري أم زاده إنشاء من قريحته فيكون له بيتان فقط قالهما في حياته ,والظاهر أن له البيتين ،لكن الثاني اضطر إلى ماقاله فيه لأمانته وورعه ،
- أما مروان بن سعيد المهلبي النحوي أحد أصحاب الخليل فقد ذكر السيوطي أنه نُسب إليه البيت النحوي المشهور , وليس له غيره وهو :
ألقى الصحيفةَ كي يخفف رحله *** والزادَ حتى نعله ألقاها (5)
- وقال ابن النديم في حديثه عن الفراء : " ولم يؤثرْ من شعره غير هذه الأبيات رواها أبو حنيفة الدينوري عن الطوال" :
لن تراني لك العيون ببــــابٍ *** ليس مثلي يُطيقُ ذُلَّ الحجابِ
يا أميراً على جريبٍ مــن الأر ض *** له تسعةٌ من الحُجَّـــــابِ
جالساً في الخرابِ يُحْجب فيه *** ما رأينا إمارة في خــــــــرابِ (6)
ونقل السيوطي هذه الأبيات قائلاً : رُوي له هذا الشعر , قيل: ولم يقل غيره (7).
- أما أبو علي الفارسي المتوفى سنة377هـ ،فقد قيل : إنه " لم يقل شعراً إلا ثلاثة أبيات، هي :
خضبتُ الشيبَ لما كان عيـباً *** وخضبُ الشيبِ أَولى أنْ يُعابا
ولم أخضبْ مخافةَ هجر خلٍّ *** ولا عَتْباً خشيتُ ولا عتابــــا
ولكنَّ المشيبَ بدا دميــــــماً *** فصيّرت الخضابَ له عقابــــا (8)
- وذكر السيوطي في نهاية ترجمة العكبري المتوفى سنة 616هـ , ما نصه : " وله يمدح الوزير ابن مهدي ولم يقل غيرها:
بك أضحى جيدُ الزمان محــلَّى *** بعد أن كان من علاه مُخلَّى
لا يجاريك في نِجارَيك خَلْـــــقٌ *** أنت أعلى قدْراً وأعلى مَحلّا
دمتَ تُحي ما قد أُميتَ من الفضـ *** ـ لِ وتنفي فقراً وتطرد محْلا (9)
وأجد نفسي مدفوعاً بعد هذا كله إلى ذكر ما هو أعجب، إذ إن بعض العظماء من اللغويين كانوا يمتنعون عن إنشاء الشعر أو نظمه, فقد ذكر صاحب العقد الفريد أن "الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ،ولا يقول بيتاً , وكذلك كان الأصمعي " وأضاف موضحاً سبب ذلك بقوله " وقيل للأصمعي : ما يمنعك من قول الشعر ؟ قال : نظري لجيِّده , وقيل للخليل :مالك لا تقول الشعر ؟ قال : الذي أريده لا أجده والذي أجده منه لا أريده " (10)
فلله دره على هذا الجواب الذي لايُستغرب من رجل يعد من أذكياء العالم.