تفسير بعض الايات من سورة يوسف
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ
حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿22﴾ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ ﴿23﴾ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴿24﴾ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن
دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿25﴾ قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿26﴾ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴿27﴾ فَلَمَّا رَأَى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ ﴿28﴾ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ
مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴿29﴾ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ
تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴿30﴾ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا
وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ
كَرِيمٌ ﴿31﴾ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ
عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴿32﴾ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴿33﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ
عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يمُ
﴿34﴾
بيان:
تتضمن الآيات قصته (عليه السلام) أيام لبثه في بيت العزيز
وقد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له ومراودتها إياه عن نفسه، ومني بتعلق نساء
المدينة به ومراودتهن إياه عن نفسه، وكان ذلك بلوى، وقد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه
وطهارة ذيله أمر عجيب، ومن تولهه في محبة ربه ما هو
أعجب.
قوله تعالى: ﴿ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما
وكذلك نجزي المحسنين﴾بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه وتتقوى
به أركانه بذهاب آثار الصباوة، ويأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة
التي عندها يكمل العقل ويتم الرشد.
والظاهر أن المراد به الانتهاء إلى
أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، والدليل عليه قوله
تعالى في موسى (عليه السلام): ﴿ولما بلغ أشده واستوى آتيناه
حكما وعلما﴾القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله: ﴿استوى﴾وقوله: ﴿حتى إذا بلغ أشده وبلغ
أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك﴾الأحقاف: 15 فلو كان بلوغ الأشد هو
بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله: ﴿بلغ﴾.
فلا مجال لما ذكره بعضهم: أن المراد
ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث والثلاثين، وكذا ما قاله آخرون إن المراد به
بلوغ الأربعين وهو سن الأربعين.
على أن من المضحك أن تصبر امرأة
العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه وريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأشرف
على الشيخوخة تعلقت به وراودته عن نفسه.
وقوله: ﴿آتيناه
حكما﴾الحكم هو القول الفصل وإزالة الشك والريب من الأمور القابلة للاختلاف -
على ما يتحصل من اللغة - ولازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى
المبدإ والمعاد والأخلاق النفسانية والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع
البشري.
وبالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن: ﴿إن الحكم إلا لله﴾الآية: 40 من السورة، وقوله بعد:﴿قضي الأمر الذي فيه تستفتيان﴾الآية: 41 من السورة يعلم أن
هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، وهذا هو الذي سأله
إبراهيم (عليه السلام) من ربه إذ قال: ﴿رب هب لي حكما وألحقني
بالصالحين﴾الشعراء: 83.
وقوله: ﴿وعلما﴾وهذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما
كان وأي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى
نفساني ولا تسويل شيطاني كيف؟ والذي آتاهما هو الله سبحانه وقد قال تعالى: ﴿والله غالب على أمره﴾الآية: 21 من السورة، وقال: ﴿إن الله بالغ أمره﴾الطلاق: 3 فما آتاه من الحكم لا يخالطه
تزلزل الريب والشك، وما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا
البتة.
ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية ولا لغوا أو
عبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم والعلم لا تستوي هي والنفوس الخاطئة في
حكمها المنغمرة في جهلها، وقد قال تعالى: ﴿والبلد الطيب يخرج
نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا﴾الأعراف: 58 وإلى ذلك الإشارة
بقوله: ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾حيث يدل على أن هذا الحكم
والعلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا
بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من
المحسنين.
وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: ﴿وكذلك نجزي
المحسنين﴾إن الله تعالى يجزي كل محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئا من
الحكم والعلم يناسب موقعه في الإحسان وقد قال تعالى: ﴿يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون
به﴾الحديد: 28 وقال تعالى:﴿أومن كان ميتا فأحييناه
وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾الأنعام:
122.
وهذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من
تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة: ﴿ولنعلمه من تأويل الأحاديث﴾وقوله حكاية عن يوسف في قوله
لصاحبيه في السجن: ﴿ذلكما مما علمني ربي﴾فافهم
ذلك.
قوله تعالى: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه
وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح
الظالمون﴾قال في المفردات، الرود هو التردد في طلب الشيء برفق ومنه الرائد
لطالب الكلاء، قال: والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، قال:
والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، وراودت
فلانا عن كذا، قال تعالى: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾وقال:
﴿تراود فتاها عن نفسه﴾أي تصرفه عن رأيه، وعلى ذلك قوله:
﴿ولقد راودته عن نفسه﴾﴿سنراود عنه
أباه﴾.
وفي المجمع، المراودة المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به ومنه المرود
لأنه يعمل به، ولا يقال في المطالبة بدين: راوده، وأصله من راد يرود إذا طلب
المرعى، وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله، والتغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه،
وإنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق،
انتهى.
وهيت لك اسم فعل بمعنى هلم، ومعاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول
مطلق قائم مقام فعله.
والآية الكريمة ﴿وراودته التي هو في
بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا
يفلح الظالمون﴾على ما فيها من الإيجاز تنبىء عن إجمال قصة المراودة غير أن
التدبر في القيود المأخوذة فيها والسياق الذي هي واقعة فيه وسائر ما يلوح من أطراف
قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال ويكشف القناع عن تفصيل ما خبىء من
الأمر.
يوسف: هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما
العبيد ولعله لم يسأل إلا عن اسمه، ولم يتكلم إلا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك
ولم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين، ولم يسأل عن بيته ونسبه فليس
للعبيد بيوت ولم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب وهو ساكت مختوم على لسانه لا
يتكلم بشيء وكم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال
لصاحبيه في السجن ﴿واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق
ويعقوب﴾ولا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما
ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله: ﴿معاذ الله إنه
ربي﴾إلخ.
هو اليوم حليف الصمت والسكوت لكن قلبه مليء بما يشاهده من
لطيف صنع الله به فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد
ومعنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم
وإسحاق ويعقوب، وليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما
انقطع عن كافة الأسباب: أنه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية معني بأمره
وسينبأ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
فكان (عليه السلام) مملوء الحس مستغرق
النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة
لا يرد إلا على خير ولا يواجه إلا جميلا.
وهذا هو الذي هون عليه ما نزل به من
النوائب، وتواتر عليه من المحن والبلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك
ولم يجزع ولم يضل الطريق وقد ذكر ذلك لإخوته حين عرفهم نفسه بقوله: ﴿إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾الآية: 90
من السورة.
فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه ويمعن قلبه
في لطيف الإشارات إليه، ويزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية ويشاهد أن ربه
هو القائم على كل نفس بما كسبت وهو على كل شيء شهيد حتى تمكنت المحبة الإلهية منه
واستقر الوله والهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه
صارف ولا طرفة عين، وهذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من
المحاورات كقوله: ﴿معاذ الله إنه ربي﴾وقوله: ﴿ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء﴾وقوله: ﴿إن الحكم إلا لله﴾وقوله: ﴿أنت وليي في
الدنيا والآخرة﴾وغير ذلك كما سنبين إن شاء الله
تعالى.
فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية
أنسته نفسه وشغلته عن كل شيء، وصورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم
يشاركه فيه أحد.
ولم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته إلا أنه غلام
صغير عبري مملوك له غير أن قوله لامرأته: ﴿أكرمي مثواه عسى أن
ينفعنا أو نتخذه ولدا﴾يكشف أنه شاهد منه وقارا وتمكينا وتفرس فيه عظمة
وكبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبني على ما في يوسف من
عجيب الجمال والحسن.
امرأة العزيز: امرأة العزيز وهي عزيزة مصر وصاها العزيز
يوسف أن تكرم مثواه وأعلمها أن له فيه إربة وأمنية فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف
وتحسن مثواه وتهتم بأمره لا كما يهتم في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم
أو قطعة كبد وتحبه لبديع جماله وغزير كماله وتزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى
إذا بلغ الحلم واستوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه وتذل على ما لها
من مناعة الملك والعزة وعصمة العفة والخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الآخذ بمجامع
قلبها.
وقد كان يوسف يلازمها في العشرة ولا يفارق بينها من جانب وكانت عزيزة لا
يثني أمرها ولا ترد عزيمتها وكانت فيما تزعم سيدة يوسف وهو عبدها المملوك لا يسعه
إلا أن يطيعها وينقاد لها، ولبيوت الملوك والأعزة أن تحتال لشتى مقاصدها ومآربها
بأنواع الحيل والمكايد فإن عامة الأسباب وإن عزت وامتنعت ميسرة لها، وكانت العزيزة
ذات جمال وزينة فإن حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة ولا تحل بها إلا غوان
ذوات حسن فتانات.
والعادة تحكم أن هذه الأسباب - وقد اجتمعت على عزيزة مصر -
أسعرت في سرها كل لهيب، وأججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف وتولهت في غرامه
واشتغلت به عن كل شيء، وقد أحاط بقلبها من كل جانب، هو أول منطقها إذا تكلمت وفي
ضميرها إذا سكتت فلا هم لها إلا يوسف ولا بغية لها إلافيه﴿قد
شغفها حبا﴾وليوسف الجمال الذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين
محب واله وأدام النظر إليه مهيم ذو غرام.
يوسف وامرأة العزيز: لم تزل عزيزة مصر
تعد نفسها وتمنيها بوصال يوسف والظفر بما تبتغيه منه وتلاطفه في عشرته وتشفع ذلك
بما لربات الحسن والزينة من الغنج والدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده،
ولعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته كان يغرها فيما ترومه ويغريها
عليه.
حتى إذا تاقت نفسها له وبلغت بها وأعيتها المذاهب خلت به في بيتها وقد
غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي ويوسف.
وهي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها
ولا يمتنع عليها لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة، وتشاهد أن الأوضاع
والأحوال الحاضرة تقضي بفوزها ونيلها ما تريده
منه.
فتى واله في حبه وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي
فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب
ومراودته عن نفسه والاعتماد على ما لها من العزة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ
الأمر هيت لك لتقهره على ما تريده منه.
وأما هو فقد استغرق في حب ربه وأخلص
وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه
يشاهد فيه جماله وجلاله وقد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من
نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب ولا يركن إلى
الأعضاد.
ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب والمراودة والأمر بقولها:
هيت لك وأما هو فقد قابلها بقوله:﴿معاذ الله﴾فلم يجبها
بتهديد ولم يقل: إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة والطهارة أو إن
عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، ولم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى
غير ذلك، ولو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره وبدأ به عند مفاجأة
الشدة ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع
الإنسان.
بل استمسك بعروة التوحيد وأجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه أحد
سوى ربه ولا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة
الإلهية وأولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك
بالله أو ما يؤدي معناه، وإنما قال﴿معاذ الله﴾وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها
بشرا سويا:﴿إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا﴾مريم:
18.
وأما قوله لها ثانيا:﴿إنه ربي أحسن مثواي إنه لا
يفلح الظالمون﴾فإنه يوضح كلمةالتوحيد الذي أفاده بقوله:﴿معاذ الله﴾ويجليه، يقول: إن الذي أشاهده أن إكرامكمثواي عن
قول العزيز لك﴿أكرمي مثواه﴾فعل من ربي وإحسان منه إلي
فربيأحسن مثواي وإن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به وألوذإليه،
وإنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولايفلح الظالمون
فلا سبيل إلى ارتكابه.
فقد أفاد (عليه السلام) بقوله:﴿إنه
ربي أحسن مثواي﴾أولا: أنه موحد لا يرى شركالوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من
دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع اللهأربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم
بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.
وثانيا: أنه ليس ممن يوحد الله سبحانه
قولا ويشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله
بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا
الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنها هي التي أكرمت مثواه عن وصية العزيز وأنها
وبعلها ربان له يتوليان أمره يرى هو أن الله سبحانه هو الذي أحسن مثواه وأنه ربه
الذي يتولى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.
وثالثا: أنه إنما تعوذ بالله مما
تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به ولا يهتدي إلى سعادته ولا يتمكن في حضرة
الأمن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (عليه السلام):﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم
مهتدون﴾الأنعام: 82.
ورابعا: أنه مربوب - أي مملوك مدبر - لله سبحانه ليس له من
الأمر شيء، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله له أو أحب أن يأتي به
ولذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله:﴿معاذ الله﴾إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به ولم يقل: لا
أرتكب كذا، ولم يقل: أعوذ بالله منك، وما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة،
وإشفاقا من وسمة الشرك والجهالة اللهم إلا ما في قوله:﴿إنه ربي
أحسن مثواي﴾حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين وليس فيه إلا تثبيت المربوبية
وتأكيد الذلة والحاجة، ولهذه العلة بعينها بدل الإكرام إحسانا فأتى حذاء قول
العزيز:﴿أكرمي مثواه﴾بقوله:﴿أحسن
مثواي﴾لما في الإكرام منالإشعار باحترام الشخصية
وتعظيمها.
وبالجملة الواقعة وإن كانت مراجعة ومغالبة بين امرأة العزيز ويوسف (عليه
السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعا بين حب وهيمان إلهي وعشق وغرام حيواني
يتشاجران في يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه، وكانت كلمة اللههي العليا فأخذته الجذبة
السماوية الإلهية ودافعت عنه المحبة الإلهية والله غالب على
أمره.
فقوله تعالى:﴿وراودته التي هو في بيتها عن
نفسه﴾يدل على أصل المراودة، والإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على
أن الأوضاع والأحوال كانتلها عليه وأن الأمر كان عليه شديدا، وكذا قوله:﴿وغلقت الأبواب﴾حيث عبربالتغليق وهو يدل على المبالغة وعلق
الغلق بالأبواب وهو جمع محلى باللام وكذا قوله:﴿وقالت هيت
لك﴾حيث عبر بالأمر المولوي الدال على إعمال المولويةوالسيادة مع إشعاره
بأنها هيأت له من نفسها ما ليس بينه وبين طلبتها إلا مجردإقبال من يوسف ولا بين
يوسف - على ما هيأت من العلل والشرائط ونظمتهابزعمها وبين الإقبال عليها شيء حائل
غير أن الله كان أقرب إلى يوسف مننفسه ومن العزيزة امرأة العزيز، ولله سبحانه العزة
جميعا.
وقوله:﴿قال معاذ الله إنه ربي أحسن
مثواي﴾إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابلبه مسألتها بالعياذ بالله يقول:أعوذ
بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربي الذي تولى أمري وأحسن مثواي وجعلني بذلك
سعيدا مفلحا ولو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح وخرجت به من تحت
ولايته.
وقد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم وقد أتى
أولا بلفظة ﴿الجلالة﴾ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه
لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم وإسحاق
ويعقوب.
واحتمل عدة من المفسرين أن يكون الضمير في قوله: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾للشأن، والمراد أن ربي ومولاي وهو العزيز
- بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام
مثواي، ولو أجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له وما كنت
لأخونه.
ونظير الوجه قول بعضهم: إن الضمير عائد إلى العزيز وهو اسم إن وخبرها
قوله: ربي، وقوله: ﴿أحسن مثواي﴾خبر بعد
خبر.
وفيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنه لا يفلح الخائنون كما
قال للرسول وهو في السجن: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن
الله لا يهدي كيد الخائنين﴾الآية: 52 من السورة ولم: يقل إني لم أظلمه
بالغيب.
على أنه (عليه السلام) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه، وهو حر غير مملوك
له وإن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، وقد قال لأحد صاحبيه في السجن: ﴿اذكرني عند ربك﴾الآية: 42 من السورة، وقال لرسول الملك:
﴿ارجع إلى ربك﴾الآية: 51 من السورة ولم يعبر عن الملك
بلفظ ربي على عادتهم في ذكر الملوك، وقال أيضا لرسول الملك: ﴿اسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن
عليم﴾حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا
للرسول.
ويؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية: ﴿لو لا
أن رءا برهان ربه﴾.
قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لو
لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا
المخلصين﴾التدبر البالغ في أطراف القصة وإمعان النظر فيما محتف به الجهات
والأسباب والشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا
للعادة وواقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.
فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا ومن
غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شابا بالغا أشده وذلك أوان غليان الشهوة
وثوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب والجمال والملاحة يدعو
إلى الهوى والترح، وكان مستغرقا في النعمة وهنيء العيش محبورا بمثوى كريم وذلك من
أقوى أسباب التهوس والإتراف، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال وكذلك تكون حرم الملوك
والعظماء.
وكانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر وهي عاشقة
والهة تتوق إليها النفوس وتتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان
والإنعام ليوسف وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان، وقد تعرضت له ودعته إلى
نفسها والصبر مع التعرض أصعب، وقد راودته هذه الفتانة وأتت فيها بما في مقدرتها من
الغنج والدلال، وقد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه والصبر معها أصعب
وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي ربته خصه بها العزيز، وكانا في
قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش
هنيء.
وكانا في خلوة وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن الشر مع
الامتناع، وكان في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب
الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنيء طويل،
وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال
الحياة وأمانيها كالملك والعزة والمال.
فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجهت إلى
جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها ولم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف
من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة
للعزيز.
أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن
منه.
ولو كان بدأ من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت
فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشيء وقلبت
العقوبة ليوسف حتى سجن.
وأما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو
أعظم من الزنا وأشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف فلم
تمنعهم.
شرافة النسب من أن يهموا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيارة
بيع العبيد ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي (عليه السلام) فبكى حتى ابيضت
عيناه.
وأما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية والقوانين
الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، وذلك إنما
يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة، وأما لو أغفلت
القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير
حينئذ لشيء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن
قريب.
فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه
الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد وهو الإيمان
بالله.
وإن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها
محلا ولا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في
القصة.