نسبه ابن منظور وموطنه
ابن منظورهو محمد بن مكرّم بن علي بن أحمد، الأنصاري الرويفعي الإفريقي المصري، القاضي جمال الدين أبو الفضل، المعروف بابن منظور، الأديب الإمام اللغوي الحجة.

يُعدّ من أحفاد الصحابي رويفع بن ثابت الأنصاري، عامل معاوية على طرابلس الغرب، وقد ولد بمصر -على الأرجح- يوم الاثنين، الثاني والعشرين من المحرم، سنة ثلاثين وستمائة من الهجرة.

وهو والد القاضي قطب الدين بن المكرم، كاتب الإنشاء الشريف بمصر، الصائم الدهر، المجاور بمكة زمانًا.

صفات ابن منظور وأعماله
كان ابن منظور -رحمه الله- صدرًا رئيسًا فاضلاً في الأدب، عالمًا في الفقه واللغة، عارفًا بالنحو والتاريخ والكتابة، وكان مليح الإنشاء له نظم ونثر، وقد تفرد بالعوالي، وكان فيه شائبة تشيع بلا رفض، وقد عمي في آخر عمره.

وقد أهلته صفاته السابقة لأن يعمل فترة طويلة في ديوان الإنشاء بالقاهرة، ثم يتولى بعد ذلك منصب القضاء في طرابلس.

ومما أُثر عنه من نظمه قوله:

الناس قد أثموا فينا بظنهم *** وصدقوا بالذي أدري وتدرينا

ماذا يضرك في تصديق قولهم *** بأن نحقق ما فينا يظنونا

حملي وحملك ذنبًا واحدًا ثقة *** بالعفو أجمل من إثم الورى فينا

وقال أيضًا:

توهم فينا الناس أمرًا وصممت *** على ذاك منهم أنفس وقلوب

وظنوا وبعض الظن إثم وكلهم *** لأقواله فينا عليه ذنوب

تعالي نحقق ظنهم لنريحهم *** من الإثم فينا مرة ونتوب

شيوخ ابن منظور وتلاميذه
سمع ابن منظور من ابن يوسف بن المخيلي، وعبد الرحمن بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم، وابن المقير وطائفة، وتفرد وعمر وكبروا وأكثروا عنه، وروى عنه السبكي والذهبي، وقد حدث بمصر ودمشق.

مؤلفات ابن منظور
غلب على ابن منظور في تواليفه عمل اختصارات للكتب السابقة عليه، وفي هذا يقول ابن حجر: "وكان -ابن منظور- مغرى باختصار كتب الأدب المطولة... وكان لا يمل من ذلك"، وقال الصفدى أيضًا: "ولا أعرف في كتب الأدب شيئًا إلا وقد اختصره".

وفي جملة مصنفاته، قال الصفدي: "وأخبرني ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمسمائة مجلدة، قال: ولم يزل يكتب إلى أن أضر وعمي في آخر عمره رحمه الله تعالى".

ومن أهم مصنفاته تلك ما يلي: مختار الأغاني الكبير، ويقع في اثني عشر جزءًا، وقد رتبه على الحروف مختصرًا، ومختصر زهر الآداب للحصري، ومختصر يتيمة الدهر للثعالبي، ولطائف الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، اختصر به ذخيرة ابن بسام، ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر في ثلاثين مجلدا، ومختصر تاريخ بغداد للسمعاني، ومختصر كتاب الحيوان للجاحظ، ومختصر أخبار المذاكرة ونشوار المحاضرة للتنوخي، وله نثار الأزهار في الليل والنهار في الأدب، وأخبار أبى نواس، وقد جمع بين صحاح الجوهري وبين المحكم لابن سيده وبين الأزهري في سبع وعشرين مجلدة. وعن هذا قال الصفدي: "ورأيت أنا أولها بالقاهرة، وقد كتب عليه أهل ذلك العصر يقرظونه ويصفونه بالحسن، كالشيخ بهاء الدين بن النحاس، وشهاب الدين محمود، ومحيي الدين بن عبد الظاهر، وغيرهم".

واختصر أيضًا صفوة الصفوة، ومفردات ابن البيطار، وكتاب التيفاشي فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولى الألباب، اختصره في عشر مجلدات وسماه: "سرور النفس"، وله أيضًا تهذيب الخواص من درة الغواص للحريري، وغيرها.

ويعد من أهم وأشهر أعماله وأكبرها، والذي طيّر اسمه في الآفاق هو كتابه "لسان العرب"، ذلك الذي جمع فيه أمهات كتب اللغة، فكاد يغني عنها جميعًا، ولأهميته ومكانته سنعرج عليه بشيء من التفصيل.

لسان العرب.. أشمل معاجم العربية
يُعد "لسان العرب" لابن منظور من أشهر المعاجم العربية وأطولها، كما يُعد أشمل معاجم العربية للألفاظ ومعانيها، وأتم المؤلفات التي صنفت في اللغة بصفة عامة، ومرجع العلماء والعمدة المعول عليه بين أهل هذا اللسان.

وقد جمع ابن منظور في معجمه الخالد هذا بين أمهات المعجمات العربية الخمسة السابقة عليه، فجمع بين "تهذيب اللغة" للأزهري، و"المحكم" لابن سيده، و"الصحاح" للجوهري، و"حاشية الصحاح" لابن بري، و"النهاية في غريب الحديث" لعز الدين بن الأثير، ولم يذكر "جمهرة اللغة" لابن دريد، مع أنه رجع إليها كثيرا.

وفي منهجه في معجمه هذا فقد نهج ابن منظور نهج الجوهري في الصحاح، وذلك باعتماد الترتيب الهجائي للحروف، بانيًا أبوابه على الحرف الأخير من الكلمة، وأول أبوابه ما ينتهي بالهمزة، وقد صرح في مقدمته بقوله: "ولا أدعي فيه دعوى، فأقول: شافهت أو سمعت، أو فعلت أو صنعت، أو شددت الرحال، أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء، أو حملت، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائل مقالاً، ولم يخليا لأحد فيها مجالاً، فإنهما عيّنا في كتابهما عمن رويا، وبرهنا عما حويا، ونشرا في خطبهما ما طويا، ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وأتيا بالمقاصد ووفيا... وليس في هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها، سوى أني جمعت فيه ما تفرق في هذه الكتب... وأديت الأمانة في نقل الأصول بالفص، وما تصرفت بكلام غير ما فيها من النص، فليعتد من ينقل عن كتابي أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة".

هذا، وقد بلغ عدد المواد اللغوية التي ضمنها لسان العرب ثمانين ألف مادة، وهو ضعف ما في الصحيح، وأكثر بحوالي عشرين ألف مادة من المعجم الذي جاء بعده، وهو القاموس المحيط للفيروزآبادي.

وقد صدّر ابن منظور "اللسان" بمقدمة غير قصيرة، افتتحها بالتحميد والتهليل، ثم أخذ في ذكر شرف اللغة العربية وارتباطها بالقرآن الكريم، ثم عرّج بعد ذلك على نقد التهذيب والمحكم والصحاح، ثم ذكر السبب الدافع إلى تأليف معجمه، والذي يتمثل في أنه وجد أن الذين سبقوه إما أحسنوا الجمع وأساءوا الوضع والترتيب، وإما أحسنوا الوضع ولكنهم أساءوا الجمع، وقد عنى بذلك أنه أراد الجمع بين صفتي الاستقصاء والترتيب.

ووضع ابن منظور بين المقدمة والمعجم بابين: الأول في تفسير الحروف المقطعة في أول سور القرآن الكريم، والثاني في ألقاب حروف المعجم وطبائعها وخواصّها، ثم إنه رتب معجمه على نظام الأبواب والفصول، حيث يعالج كل باب حرفًا من حروف الهجاء، وفقًا لآخر جذر الكلمة، ثم يورد في كل باب فصلاً لكل حرف وفقًا لأوائل جذور الكلمات، وهي نفسها الطريقة التي عليها -كما ذكرت- معجم الجوهري "الصحاح"، وقد فرغ منه سنة تسع وثمانين وستمائة من الهجرة.

وإن "لسان العرب" ليُعد بعد ذلك معجمًا موسوعيًّا يتسم بغزارة المادة، حيث يستشهد فيه مؤلفه بكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وأبيات الشعر، وقد بلغ الشعر الذي استشهد به ابن منظور قرابة اثنين وثلاثين ألف بيت، موزعة بين عصور الرواية الشعرية من جاهلي ومخضرم وإسلامي وأموي وعباسي، وذلك إضافة إلى روايته لآلاف من آراء اللغويين والنحويين، وغير ذلك من الأخبار والآثار، مما يعكس كثيرًا من مظاهر حياة اللغة العربية وحياة المجتمع العربي، على نحو يجعله مفيدًا لا في المجال المعجمي فقط، بل وفي مجالات علمية أخرى كثيرة.

وقد طبع الكتاب بالطابعة الأميرية ببولاق (القاهرة) في عشرين جزءًا كبيرًا ينيف كل منها على ثلاثمائة صفحة، حظيت بإعجاب العلماء، وقد استدرك عليها العلامة أحمد تيمور بعض الأخطاء المطبعية التي نشرها في جزء صغير باسم: "تصحيح لسان العرب"، كما استدرك عليها الأستاذ عبد السلام هارون أخطاء أخر نشرها في مجلة مجتمع اللغة العربية (المصري).

وقد قامت دائرة المعارف (بالقاهرة) بإعادة ترتيب مواد الكتاب تبعًا لأوائل الجذور لا أواخرها، وهو الأسلوب المتّبع في معظم معاجم اللغة العربية الحديثة، وذلك بخلاف ترتيبه الأصلي الذي كان يلتزم طريقة "الصحاح" بالترتيب وفق الحرف الأخير فالأول فالثاني... إلخ، وقد قام بتحقيقه ثلاثة من الباحثين هم: محمد أحمد حسب الله، وعبد الله على الكبير، وهاشم محمد الشاذلي، وخرج الكتاب في ستة أجزاء من القطع الكبير المطبوع بحرف صغير، أعقبته ثلاثة أجزاء هي الفهارس الفنية للكتاب.

وفاة ابن منظور
بعد حياة علمية حافلة، وبعد أن تولى نظر القضاء في طرابلس، عاد ابن منظور أدراجه إلى مصر، وفيها توفاه الله في شعبان سنة إحدى عشرة وسبعمائة من الهجرة، عن اثنتين وثمانين سنة، وكان ذلك قبل ولادة صاحب "القاموس المحيط" الذي أتى بعده بثماني عشرة سنة.

المراجع:
- الباباني: هدية العارفين.
- عمر كحالة: معجم المؤلفين.
- الكتبي: فوات الوفيات.
- الصفدي: نكث الهميان في نكت العميان.
- ابن حجر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة.
-ابن العماد: شذرات الذهب.
- إدوارد فنديك: اكتفاء القنوع بما هو مطبوع.
- القنوجي: أبجد العلوم.
- يوسف إليان سركيس: معجم المطبوعات.
- الزركلي: الأعلام.
- موقع المركز العلمي.