أتي فصل الشتاء في قريتنا البعيدة عن المدينة وراح الجو يميل إلي البرودة ولم نعد نجرؤ علي الخروج ليلاً من منزلنا الدافئ دون أن نرتدي ثياباً متينة تقينا البرد القارس، وكنا نسعد باللعب يوم العطلة عندما تشرق الشمس في النهار ونعود عصراً الي المنزل وقد امتلأنا فرحة وبهجة .
وفي أحد تلك الايام وفيما نحن لاهون كعادتنا دنا منا رجل متوسط العمر رث الثياب طلق اللحية حافي القدمين تبدو عليه آثار الجوع والارهاق والمرض ولا يعرفه منا أحد .
وبدا لنا انه آت من مكان بعيد جداً ويحتاج الي من يساعده فذهب كل واحد من الصبية الذين كانوا يلعبون معنا الي بيته علي اتفاق فيما بيننا فأتينا له بثياب وطعام وحذاء فأكل وشرب واستراح ثم دعا الله لنا وقبل كل واحد منا ثم سألنا عن مسجد القرية وعن عمل شريف يعمله ثم نهض بسرور الي المسجد الجامع .
وفيما بعد علمنا أن الرجل آتي من بلد بعيد ناء اصابته نازلة، وانقطع المطر واجدبت الارض فماتت الحيوانات ويبست الاشجار واصيب اهل البلاد بالجوع والتشرد، فخرج يبحث عن مأوي له ولعياله ينجيهم من مأساتهم .
عمل الرجل بكد ونشاط بالغين وأبي إحسان المحسنين فقد كانت همته عالية وارادته صلبة وكان ميسور الحال في بلده يملك ارضاً ودواباً اصابها ما اصاب القرية .
بعد مدة وجيزة انقلب حال الرجل واعتدلت اوضاعه وارتفع مدخوله فاستأجر منزلاً كبيراً ثم سافر ليعود بعد ايام مع زوجته واولاده وعاشوا معنا في سلام وأمان واصبحوا جزءاً من قريتنا الوادعة، وفي غضون سنوات قليلة اصبح الرجل من الاغنياء الكبار اشتري اراضي واسعة ووضعها تحت تصرف الفقراء ليسكنوها ويزرعوها ويستفيدوا منها، وفاء منه لأهل قريتنا التي احتضنته يوم جوعه ومرضه وفقره .
ورمم المسجد الجامع وحسنه وجمله كما أنه لم ينس قريته البعيدة فبني فيها مسجداً كبيراً واقام مشروع ري ضخماً وبئراً ارتوازياً كيلا تتكرر مأساة الجفاف، ولم تكن تمضي مناسبة إلا ويذكر هؤلاء الصبية الصغار الذين استقبلوه فقيراً معدماً، ويقول : لن انسي موقف هؤلاء الصغار مدي الحياة .