بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
نعيش في هذه الأيام ذكرى الإمام الحسين (ع) في يوم أربعينه، ويبقى للحياة من الحسين الكثير، ويبقى للإنسان من سيرة الحسين (ع) الكثير الكثير، لأنَّه ـ سلام الله عليه ـ كان الإنسان الَّذي أطلق إسلامه ليتحرّك في الحياة، ليلاحق كلّ انحراف في الفكر وفي السلوك، ليُسلّط عليه ضوءاً من روحه وعقله، ومن كلّ انفتاحه على الله وعلى الإنسان ليقوده إلى الاستقامة.
وهكذا رأينا كيف انفتح الحسين (ع) بمحبته على النَّاس كلّهم، لأنَّ الإنسان الَّذي يحبّ الله، لا بُدَّ أن يحبّ النَّاس الَّذين هم عباد الله، وإذا كان يبغض مؤمناً في واقع بعض النَّاس، فإنَّ البغض لا يتجه إلى إنسانيّة الإنسان، بل إلى الجانب السلبيّ في ذاته، فالإنسان المسلم يبغض كفر الكافر، وفسق الفاسق، وضلال الضالّ، واستكبار المستكبر، وظلم الظّالم.
أمَّا إنسانيَّة الإنسان الَّذي يواجه هذه الأمور، فإنَّ الإنسان المسلم الدّاعية يُحاول أن يقتحم إنسانيّته ليخلّصه من ظلمه ومن استكباره ومن كفره ومن ضلاله. وهكذا رأينا أنَّ قلب الحسين (ع) يتسع حتّى لأعدائه، حتّى إنَّه كان يبكي أعداءه، كما تقول بعض كتب السيرة، لأنَّ الله سوف يعذبهم بسبب موقفهم منه.
الملامح العامّة لخطّ الثّورة
ونحن أمام الحسين (ع)، نُريد أن نطلّ أولاً على بعض الملامح العامّة للخطّ العام للثّورة، ثُمَّ نُحاول بعد ذلك أن نلاحق بعض الكلمات الّتي يتحدّث بها الإمام الحسين (ع) مع النَّاس من حوله، لأنَّ بعض ما يلفت النظر حول الإمام الحسين (ع)، أنَّهم لا يحدثوننا إلاَّ بما تحدَّث به في كربلاء، أمّا ما تحدّث به واعظاً ومرشداً وموجّهاً، فالقليل من النَّاس يتحدثون عنه في هذا الجانب.
فعندما ندرس الخطّ الَّذي انطلق به الإمام الحسين (ع) في ثورته، فإنَّنا نرى أنَّه يختلف عن خطّ الثائرين الآخرين، حيثُ إنَّ هؤلاء غالباً ما يركّزون على الخطوط العامّة للثّورة في مواجهتها للأوضاع السلبيّة لدى الآخرين الَّذين تتوجّه الثّورة ضدّهم، من دون أن يتحرّكوا مع النَّاس في الخطوط التفصيلية.
ولهذا، نجد مثلاً في واقعنا المعاصر، أنَّ على الحركات الإسلاميّة وهي تتحرك سياسياً، وتتحدّث في خطابها السياسي عن ظلم الظالم، وعن هذا الوضع السياسي وذلك الموقف السياسي، وتحاول أن تُثقِّف قواعدها بكلِّ المجريات، وأن ترصد الواقع السّلبي كواقع منحرفٍ عن الإسلام، أن تبقى توحي إلى قاعدتها بالخطوط التفصيليَّة للإسلام، كما كان الحال في ثورة الإمام الحسين (ع)، الَّذي لم يستطع أن يجمع إلاَّ هذه القلّة القليلة من ذوي البصائر، أمّا الآخرون الَّذين كانوا يهتفون بالإسلام، وكانوا يحبّون الحسين حبّاً عاطفياً، وكانوا يصلّون ويصومون ويحجّون، فإنَّهم كانوا لا يعيشون عمق الالتزام الإسلامي بالمعنى الحركي الَّذي يحكم الإنسان في كلّ قضاياه. كان الحسين (ع) في مكَّة، وكان كلّ الحجيج في مكّة، فلم يتبعه إلاَّ القليل، والكلّ يعرف أنَّ الحسين (ع) انطلق ليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر وليغيّر الواقع على أساس الإسلام. ونحن نلاحظ في بعض جوانب الواقع الإسلاميّ، أنَّ قضيّة الالتزام الشرعي بالمعنى الَّذي يراقب الإنسان فيه ربّه عندما يتكلّم، أو عندما يتحرّك، أو عندما يعيش علاقاته مع زوجته ومع جيرانه ومع النَّاس من حوله، وحتّى مع النَّاس في حركته، أنَّ الإسلام شيء والواقع شيء آخر. لذلك، رأينا أنَّ الَّذين اتبعوا الحسين (ع) كانوا من الَّذين عاشوا الثّورة في عقولهم من خلال الإسلام، وعاشوا الحركة في واقعهم من خلال الإسلام، وكانت علاقاتهم مع بعضهم البعض تتجه إلى الإسلام، وكان ارتباطهم بالقيادة ينطلق من خلال الإسلام، ولهذا كان العنوان الكبير الَّذي أعطاه الإمام الحسين (ع) للجميع: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب؛ 23)، كانوا الصادقين في عهدهم مع الله، وبذلك صدقوا في عهدهم مع الحسين، لأنَّ الحسين (ع) هو وليّ الله، وكانوا الجماعة الّتي واجهتهم التحدّيات وعزلتهم عن الواقع وضغطت عليهم كأكثر ما تكون الضّغوط، وحاصرتهم كأضيق ما يكون الحصار، ليبدِّلوا تبديلاً كما بدّل الكثيرون، وما بدّلوا تبديلاً.
أيُّها الأحبّة، هذه ملاحظة حسينيّة نُريد للعاملين في سبيل الإسلام أن ينطلقوا ليعيدوا النّظر ـ من خلالها ـ في أسلوب عملهم وفي منهج عملهم، فلقد كان الحسين ينزل إلى داخل الإنسان ليعمّق فيه حبّه لله، وعلينا أن ننزل إلى عمق الإنسان، لأنَّ الإنسان الَّذي تنزل إلى عمقه، وتجعل عمقه عمقاً إسلاميّاً منفتحاً على الله، محبّاً لله، فإنَّك تستطيع أن تدفعه إلى أيّة ساحة من الساحات، ويبقى أصيلاً، ويبقى واقفاً على قدميه لا يتراجع ولا يسقط ولا ينحرف، فلا بُدَّ لنا أن نلاحظ هذه النقطة.
في رحاب كلمات الحسين (ع)
ونأتي إلى كلمات الإمام الحسين (ع)، الكلمة الأولى توحي إلينا بمعنى العقل، وأنَّه ليس مجرّد طاقة تفكر، ولكنَّ العقل هو طاقة تفكر وتحاور وتلاحق الحقيقة حتّى ترتبط بالحقيقة. يقول (ع): "لا يكملالعقلإلا باتّباع الحقّ"[1]، فالعقل العمليّ لا يكمل إلاَّ باتباع الحقّ، أي أن لا يكون عقلك مجرّد طاقة تتحرّك في الفراغ، أو طاقة من دون أن تتحوّل إلى قوّة تهزّ كلّ كيانك لتدفع بك إلى أن تجعل الواقع عقلاً، فالعقل ليس حالة نظريّة تجريبيّة، ولكنَّ العقل هو حالة فكريّة تتحوّل إلى خطّ عمليّ، وهذا ما استوحاه أو ما عبّر عنه الإمام جعفر الصّادق (ع) عندما قال: "العقل ما عبد به الرّحمن، واكتسب به الجنان"[2]. فأن تكون العاقل، يعني أن يكون عقلك حركتك، وأن يكون عقلك خطّك، وأن يجعل عقلك الحقّ كلّ ساحته وكلّ آفاقه، فلا يكمل العقل إلاَّ باتباع الحقّ.
"العلم لقاح المعرفة"، ذلك أنَّ المعرفة هي هذه الحالة الإنسانية الّتي تعطيك الانفتاح على الحياة وعلى الحقائق، وأنَّ العلم بمفرداته يلقح المعرفة لينتج منها ما يتقدّم به الإنسان ويرتفع به، "وطول التّجارب زيادة في العقل"، فكلّما جرَّبت أكثر، فإنَّك تستطيع أن تكبّر حجم عقلك.
ولكنّ هناك فرقاً، أيُّها الأحبّة، بين تجربة تمارسها وأنت غافل، وبين تجربة تمارسها وأنت واعٍ، فأن تعي تجربتك، يعني أن تفهمها، بأن تجعلها موضوع دراسة، وأن تجعلها وسيلة من وسائل التفكير، وأن تكون تجربتك أحد مصادر عقلك وأحد مصادر المعرفة. ولذلك، حاولوا أن تفكّروا، وحاولوا أن تجرّبوا وأن تنطلقوا في تجربتكم، لتكون مصدر فكرٍ ومصدر وعي في حركتكم في الحياة. "والشّرف"، هل هو النّسب؟ هل هو المركز؟ هل هو هذه الأجواء الّتي يحيطك النَّاس ـ من خلالها ـ بالتعظيم ليهتفوا باسمك؟
"والشرف التقوى"، وهذا ما استوحاه ابنه عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، عندما قال، وقد كان ينظر إلى أصحاب الدنيا: "واعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً، فإنَّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك"[3]، لأنَّك إذا كنت تقيّاً، فإنَّك تكون القريب عند الله، والحبيب إليه، والأثير عنده. وأيّ شرفٍ أعظم من أن يشرّفك الله، بأن يجعلك وليّه، وأن يقرّبك إليه، وأن يحبّك، وأن يرفع درجتك في عليّين؟! إذ ما قيمة كلّ شرف الدّنيا أمام شرف الآخرة، فكلّ شرفٍ يموت عندما يموت الإنسان، ولكن يبقى شرف التّقوى هو الزّاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة؛ 197).
"والقنوع راحة الأبدان"، فإذا أردت أن تكون مرتاحاً، فلا تعش الهمَّ الكبير، ولا القلق، ولا دمار الشخصيّة. اقنع بما رزقك الله، وحاول أن تنمِّي ما رزقك الله بالوسائل الّتي أعطاك إيّاها، لا تجلس لتندب حظّك، ولا تجلس لتيأس، لا تجلس لتعترض على ربِّك، اقنع بما رزقك الله، فإنَّ في ذلك راحة البدن.
"ومن أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك"[4]. إنَّنا نحبّ الَّذين يمدحوننا ويضخّمون لنا شخصيّتنا، ونعتبرهم الأصدقاء الأصدقاء ونبغض الَّذين ينقدوننا والَّذين ينهوننا، ونعتبرهم الأعداء الأعداء، ولكن لو نظرت جيّداً، لعرفت أنَّ من ينهاك يُريد أن يجنّبك مزالق الهلاك، وأنَّ من يغريك يُريد أن يسقطك في هاويةٍ هنا وهاويةٍ هناك، وفي المثل الشعبي: "من أبكاك بكى عليك، ومن أضحكك ضحك عليك"، فلا تجعل نفسك مضحكة للّذين يُريدون أن يضخّموا شخصيتك، لا إيماناً بك، ولكن ليستغلّوا ذلك في أكثر من موقع، ونحن نقرأ أنَّ الإمام عليّاً (ع)، كان إذا مدحه النَّاس قال: "اللّهمّ اجعلنا خيراً مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون"[5]، وإذا جاءه المتزلّفون ليمدحوه بما لا يعتقدونه فيه، قال لهم كما قال للبعض من هؤلاء: "أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك"[6]. ولقد قال عليّ (ع): "فلا يغرّنك سواد النَّاس من نفسك، وقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال وحذر الإقلال"[7].
الوجه الآخر للمفاهيم
ثُمَّ يحدّثنا الإمام (ع) في خطّ الشّرف، عندما قال له رجل: من أشرف النَّاس؟ قال: "من اتّعظ قبل أن يوعَظ، ومن استيقظ قبل أن يوقَظ"[8]، أي الإنسان الَّذي يوحي إلى نفسه بالموعظة، عندما يجلس مع نفسه، وعندما يدرسها، وعندما ينقدها ويحاسبها ويحكم عليها ويجاهدها، من دون أن يحتاج إلى أن يأتي النَّاس إليه ليعظوه، ويبقى يقظاً واعياً، لا يحتاج من النَّاس أن يوقظوه، فهذا هو أشرف النَّاس، لأنَّه يعيش معنى الشّرف في معنى كمال نفسه، وفي معنى قربه لربّه.
وهكذا ـ أيُّها الأحبة ـ يُقال إنَّه قيل للحسين (ع) إنَّ أبا ذرّ كان يقول: "ثلاث يبغضها النَّاس وأنا أحبّها: أحبّ الموت، وأحبّ الفقر، وأحبّ البلاء"، فقال: "إنَّ هذا ليس على ما تروون، إنَّما عنى: الموت في طاعة الله أحبّ إليّ من الحياة في معصية الله، والبلاء في طاعة الله أحبّ إليّ من الصحّة في معصية الله، والفقر في طاعة الله أحبّ إليّ من الغنى في معصية الله"[9]. فإذا اختار الله لنا الصحّة، فخيارنا الصحّة، لأنَّها اختيار الله، وإذا اختار الله لنا الغنى، فخيارنا الغنى، لأنَّه هو الَّذي اختاره لنا. وهكذا، لو اختار الله لنا الفقر أو اختار لنا السّقم، أو اختار لنا غير ذلك، فالمهمّ أن يكون خيار الله هو خيارنا، وهذا هو معنى الرّضا بقضائه وقدره.
وقد سُئل الإمام الحسين بن عليّ (ع)، فقيل له: "كيف أصبحت الآن؟" ـ ولو وجِّه إليك السؤال نفسه: كيف أصبحت؟ لقلت الحمد لله، إنَّ صحتي جيدة والأمور على ما يرام، أمّا الحسين (ع)، فيعطينا درساً في الموضوع ـ فقد قيل له: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ قال: "أصبحت ولي ربٌّ فوقي"، أي أنا أشعر بأني لست حراً، فهناك ربٌّ فوقي لأعيش ربوبيته في معنى عبوديتي له، "والنَّار أمامي"، لأنّني إذا سرت بعيداً عن حركة العبودية لله، فإنَّ النَّار هي النّتيجة. ولذلك، أصبحت وأنا أفكّر في النَّار بأن أهرب منها، وأن أهرب من أيّ شيء يدخلني فيها، "والموت يطلبني"، لأني أموت في كلِّ يوم عندما ينقص من عمري يوم، لأنَّ الموت يلاحقني حتّى يأخذ مني في كلّ مرحلة شيئاً، إلى أن تنتهي كلّ المراحل، "والحساب محدق بي"، لأنَّ الله سوف يحاسبني على كلّ شيء {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}(الإسراء؛ 14)، "وأنا مرتهنٌ بعملي" {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}(المدثّر؛ 38 ـ 47)، "لا أجد ما أحبّ"، وليس بيدي تحقيق كلّ ما أحبّ، "ولا أدفع ما أكره"، كما لا أملك القدرة على أن أدفع ما أكرهه عندما يقبل عليّ، "والأمور بيد غيري، فإن شاء عذّبني، وإن شاء عفا عني، فأيّ فقير أفقر منّي؟!"[10]. وهذا هو صباح الحسين (ع)، حيث يُريدنا أن نبدأ صباحنا بالتّفكير في الله والنَّار والحساب، وفي كلِّ مسؤوليتنا عن أعمالنا، ولنفكر في أنَّنا بيد الله، لنبقى مع الله نتوسّله ونبتهل إليه ونخشع بين يديه ليرحمنا برحمته.
طريق ذات الشّوكة
وفي الرِّواية، "أنَّ رجلاً من أهل الكوفة كتب إلى أبي الحسين بن عليّ (ع): يا سيّدي، أخبرني بخبر الدّنيا والآخرة، فكتب (ع): "بسم الله الرّحمن الرّحيم، أمّا بعد، فإنَّ من طلب رضا الله بسخط النَّاس، كفاه الله أمور النَّاس". ليكن موقفك موقف الحقّ حتّى لو رجمك النَّاس بالحجارة، لتكن لك أصالة الحقّ فيما تواجهه ضدّ الباطل حتّى لو شتمك النَّاس وسبّوك، كن الإنسان الَّذي يراقب الله، "صانع وجهاً واحداً يكفيك الوجوه كلّها". لذلك، إذا كنت تطلب رضا الله تعالى ولا شيء غير رضا الله، فلا تخف النَّاس، ولا تنظر إلى ما يرضيهم عنك أو يسخطهم، ولا تحدّق في عيون النَّاس؛ هل تتوجّه إليك فتلتمع بالرّضا، أو أنَّها تزورّ عنك فتوجّه إليك النظرات الحانقة، ولا تفكّر عندما تعمل ماذا يقول النَّاس عنك، بل فكّر كيف يكون رضا الله عزَّ وجلَّ عليك، لأنَّ ربّك يحول بين المرء وقلبه، ولأنَّ ربَّك هو أقرب إليك من حبل الوريد، ولأنَّ ربَّك هو مقلّب القلوب، فلقد قالها ربُّ العالمين لرسول ربِّ العالمين: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}(الأنفال؛ 63)، لأنَّه خالق القلوب، ولأنَّه محيي القلوب، ولأنَّه مقلّب القلوب.
"من طلب رضا الله بسخط النَّاس كفاه الله أمور النَّاس"، وفي الدعاء: "يا من يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، اكفني ما أهمّني مما أنا فيه من أمور الدّنيا والآخرة"، "ومن طلب رضا النَّاس بسخط الله"، بأن يرضي فلاناً ويرضي فلاناً ولو بسخط الله، فإنَّ الله يقول له لقد أهملتني، لقد نسيتني، لقد تركتني، لقد فضّلت خلقي وعبادي عليّ، فاذهب إلى عبادي لأكلك إليهم، ومن وكله الله إلى نفسه أو وكله إلى غيره، فإنَّه سوف يتخبّط، وسوف يضيع، وسوف يسير إلى الهلاك، "ومن طلب رضا النَّاس بسخط الله، وكله الله إلى النَّاس"[11].
ثُمَّ، أيّها العاملون في سبيل الله، أيُّها الدّعاة إلى الله، أيُّها المجاهدون في سبيله، ستواجهون في الحقّ الَّذي تقفون معه الكثير مما تكرهون، لذلك، إذا كنتم صادقين في التزامكم بالحقّ، فليكن علامة صدقكم أن تصبروا على كلّ ضريبة الحقّ الَّتي يُمكن أن تأكل من أجسادكم، أو تأكل من جاهكم، أو تأكل من سمعتكم، أو تأكل من كثير من الأشياء الّتي تحبّونها، يقول الحسين (ع): "اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحقّ، واصبر عمّا تحبّ مما يدعوك إليه الهوى"[12]، لأنَّ الحقّ سوف يخسرك كثيراً، يخسرك الكثير من ملذّاتك ومن شهواتك ومن امتيازاتك ومن علاقاتك وما إلى ذلك، فاصبر عمَّا تحبّ فيما يدعو إليه الهوى، وقد كان موقف الحسين صورةً لذلك: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين"[13].
إسداء المعروف
قال رجلٌ في مجلس الحسين (ع): "إنَّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع"، يعني لا بُدَّ لنا أن نصنع المعروف مع أهله لينتج ويثمر، أمّا إذا صنعنا المعروف مع غير أهله فإنَّه يضيع، هنا قال الحسين (ع) إنّ الأمر ليس كذلك، لأنَّ قضيّة المعروف ليست قضية تجارة، ولكنَّها قضية أخلاقية، وقضيتك أنت في أن يكون المعروف عندك تماماً كالشّمس الّتي تشرق على البرّ والفاجر، وكالينبوع الَّذي يفيض على الأرض الجديبة والأرض الخصبة، ليكن المعروف خلقك، وليكن القيمةَ الّتي تعيش في حركتك، بقطع النظر عن ردّ فعل النَّاس. كان الحسين (ع) يُريد أن يقول: لا تكن إنساناً يعيش ردود الفعل سلباً أو إيجاباً من خلال مواقف الآخرين معك، ولكن كن الإنسان الَّذي يعيش الفعل، افعل شيئاً لأنَّك تؤمن به، وافعل الشّيء لأنَّه خير، بقطع النظر عن ردّ الفعل من الآخر، قال الحسين: "ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ والفاجر"[14].
كن أيُّها الإنسان مطراً، وليكن المعروف بالنسبة إليك مطراً يهمي لينزل على البرّ والفاجر، فأيّ سموّ هو هذا السموّ، ونحن نقول في الدّعاء: "فإن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك، فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني، لأنَّها وسعت كلّ شيء"، فقد لا أكون أهلاً لرحمة الله، ولكنَّ رحمة الله الّتي اتّسعت لكلِّ شيء سوف تغمرني، حتّى لو لم أستحقّ ذلك بالقليل والكثير.
ذلّ الاعتذار
ثُمَّ يقول: "إيّاكم وما يعتذر منه"، أي عندما تُريد أن تفعل شيئاً، وعندما تُريد أن تتكلَّم مع إنسان، فانظر هل أنت مستعدّ لتحمّل مسؤوليَّة الكلمة؟! فلو قابلك النَّاس بها فهل تثبت عليها؟! ولذلك، فالعمل الَّذي تضطرّ إلى الاعتذار عنه، ينبغي ألا تفعله، "فإنَّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر"، لأنَّه لم يفعل شيئاً يوجب الاعتذار، "والمنافق يسيء كلّ يوم ويعتذر منه"[15]، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) في قوله: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه"، قالوا: كيف يذلّ نفسه؟ قال: "يدخل فيما يعتذر منه"[16]، وموقف المعتذر هو موقف الذلّ، فأنت تسقط نفسك أمام من تعتذر منه.
وفي نهاية المطاف، كتب رجل إلى الحسين (ع): "عظني بحرفين، فكتب إليه: من حاول أمراً بمعصية الله، كان أفوت لما يرجو"[17]. فأيّ أمر تحاول أن تبلغه، أو أيّ مشروع تُريد أن تصنعه، وأيّ انتماء تُريد أن تنتمي إليه، وأيّ علاقة تُريد أن تنشئها، فلا تحاول أن تحصل على ما ترجوه بمعصية الله، لأنَّ معصية الله سوف تخرّب لك ذلك كلّه، إن عاجلاً أو آجلاً، لأنَّ معصية الله ليس فيها عمق الحقيقة، وليس فيها أيّ شيء يُمثِّل الثبات.
أيُّها الأحبّة، هذا هو الحسين (ع) واعظاً ومرشداً وموجّهاً، كما عرفناه ثائراً وبطلاً وصابراً، فخذوا الحسين كلّه، ولا تأخذوا منه مأساته ولا ثورته فحسب، بل خذوا الحسين كلّه، فلقد كان مسلماً، وكلّ ما انطلق فيه فهو من الإسلام، لذلك إذا أردتم أن تفهموا الحسين (ع)، فافهموا الإسلام جيّداً، فهناك الحسين في كلّ مواقف للإسلام، وفي كلّ حكم للإسلام، وفي كلّ انفتاح على الإسلام، ويبقى الحسين (ع) يلهمنا ويعطينا ويوجّهنا ويقودنا، يبقى الإمام في المستقبل كما كان الإمام في الماضي.
-------------------------------------------------
[1] بحار الأنوار، ج 75، ص 125.
[2] الكافي، الكليني، ج:1، ص:11.
[3] الصّحيفة السجاديّة، دعاؤه إذا نظر إلى أهل الدنيا.
[4] بحار الأنوار، المجلسي، ج: 75، ص 128.
[5] نهج البلاغة، قصار الحكم: 100، ص: 367. دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 1410هـ ـ 1990م.
[6] نهج البلاغة، الإمام عليّ بن ابي طالب (ع)، قصار الحكم:83، ص: 364.
[7] م.ن، الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، الخطبة: 132، 135.
[8] إحقاق الحق، التستري، ج11، ص 590.
[9] الكافي، الكليني، ج: 8، باب:8، ص: 222، رواية: 279.
[10] البحار، المجلسي، ج: 14، ص 322.
[11] الأمالي، الصَّدوق، ص 268.
[12] التّذكرة الحمدونيّة، ابن حمدون، ج1، ص368.
[13] البحار، المجلسي، ج: 44، ص: 330.
[14] البحار، المجلسي، ج:75، ص 117.
[15] البحار، المجلسي، ج:64، ص 310.
[16] الكافي، الكليني، ج:5، ص:63.
[17] الكافي، الكليني، ج:2، ص:373.