بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب: 23].
كان الحسين (ع) الذي نلتقي اليوم بذكرى أربعينه، يردِّد هذه الآية في يوم عاشوراء كلَّما أقبل عليه أحد من أصحابه يستأذنه في القتال. كان يردِّدها ليؤكِّد أنّ حركته التي انطلق بها، هي جزء من حركة الرّسالات في الالتزام بعهد الله، وفي الصدق مع الله فيما يلتزم به، فالمسألة ليست مسألة ملك يريده الحسين (ع) ليحصل عليه ليغذي طموحاته الذاتية، كما يفعل الكثيرون من الثائرين الذين ينطلقون في ثوراتهم وفي حركاتهم من أجل أن يؤكّدوا ذواتهم أو شخصياتهم، ومن أجل أن يحقّقوا مطامحهم الشخصيّة في العلوّ وفي الرفعة، بل كان الحسين (ع) ينطلق على أساس أنَّ هناك عهداً لله مع عباده أن يؤمنوا به، وعهداً بأن يتحرّكوا في خطّ هذا الإيمان، وعهداً له بأن يعتبروا إقامة العدل بين النّاس أساساً لحركة الإيمان في الحياة، فلا إيمان لمن لا عدل له، ولا إيمان لمن لا يلتزم خطّ العدل، ولا إيمان لمن لا يجاهد في سبيل إقامة العدل.
العهد بين الله وعباده
هذا هو عهد الله بينه وبين عباده الّذين يريد لهم أن يلتزموا به. وكان الحسين (ع) يريد أن يؤكِّد أنَّ ثورته ثورة صدق في عهده مع الله، أن يحرِّك الإسلام فيما يعيش النّاس وفيما يهمّ الناس، وفيما يحقّق للنّاس حياتهم الحرّة العزيزة الكريمة. وكان الحسين (ع) يردّد هذه الآية، ليشير إلى هؤلاء القلّة من المؤمنين الّذين التزموا عهد الله معه، فقرّروا أن يجاهدوا معه، وصمّموا أن يستشهدوا معه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، وهم الّذين استشهدوا، ومنهم من ينتظر، وهم الّذين كانوا ينتظرون الشّهادة بين يديه. كان يريد أن يعطي وساماً لكلّ واحد منهم، ليقول له لست مجرَّد عنصر يقاتل معي، ولكنّك إنسان صدقت في عهدك مع الله، فتقدّم لينطلق صدقك في الواقع وفي العمل ليؤكِّد صدقك في الحياة، لأنّ القضية في العهد ليست قضيّة كلمة تقولها، ولكنّها عمل تؤكّد به حركيّة هذه الكلمة في حياتك وفي مواقفك وفي مواقعك في ساحات الصّراع بين الحقّ والباطل.
وهكذا نفهم ثورة الإمام الحسين (ع) أنّها ثورة تتحرَّك من عهد الله، وتسير في عهد الله، وتشير إلى المجتمع المسلم الذي كان يعاصرها، وإلى المجتمع المسلم الّذي يأتي بعدها، أنَّ معنى أن تكون مؤمناً، أن تصدق مع الله ومع نفسك؛ انظر إلى نفسك ما هو عهدك مع الله؟ ماذا أعطيت الله من عهد؟ وكيف تؤكّد صدق هذا العهد؟ هل ننتبه إلى هذه الدعوة الحسينيّة، أننا أعطينا الله عهداً؟ هل يلتفت أحد منّا إلى أنَّ هناك معاهدة بينه وبين الله؟ إننا نلتفت إلى معاهداتنا مع من نتحالف معه، ومعاهداتنا مع من نتعاون معه، ولكنّنا لا نلتفت إلى عهدنا مع الله، والله أعطانا عهداً أن يدخلنا الجنَّة، وأن ينعم علينا، في مقابل عهدنا أن نؤمن به وبرسله وبكتبه وبملائكته وباليوم الآخر، وأن نجسّد هذا الإيمان في كلّ مفهوم من مفاهيم الإسلام، وفي كلّ حكم من أحكام الإسلام، وفي الوقوف في كلّ ساحة من ساحات الصّراع التي يقودها الإسلام مع الكفر كلّه ومع الظّلم كلّه.
أن نقف حيث يريد الله منا أن نقف، وأن نسكن حيث يريد الله أن نسكن، وأن نتحرّك حيث يريد الله منا أن نتحرّك، وأن نبتعد عن الساحات التي يريدنا الله أن نبتعد عنها.
كلمة جاءت عن أئمّة أهل البيت (ع)، أنّ التَّقوى "أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك" ، عهد الله إليك أن تكون موجوداً في كلِّ السَّاحات التي يأمرك الله أن تكون فيها، وأن لا تكون موجوداً في كلِّ السّاحات التي ينهاك الله أن تكون فيها، والله يقول لنا كما قال لبني إسرائيل: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة: 40].
لا تخافوا غيري، وإذا كنتم تخافونني، فإنّ خوفكم ينبغي أن يتمثّل بأن تفوا بعهدي في كلّ كلمة، في كلّ موقف، في كلّ علاقة، وفي كلّ موقع...
وهكذا أراد الحسين (ع) أن يقول لنا إنّي وفيت بعهد الله، ووفى أهل بيتي بعهد الله، ووفى أصحابي بعهد الله، عندما التزموا خطَّ الإمامة الصادقة، ووفوا بعهد الله عندما تحرّكوا في خطّ الشَّريعة الإسلاميّة، ووفوا بعهد الله عندما وقفوا في ساحات الصِّراع بين العدل الظلم.
وهكذا قال الحسين (ع) لأصحابه، وهكذا قال الحسين لمعاصريه، وهكذا قال الحسين لنا، ومازالت كلمة الحسين تتردّد حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لماذا ثار الحسين (ع)؟!
في أربعين الإمام الحسين (ع)، كيف ننطلق؟ وكيف نتحرَّك؟
هل بقي لنا من أهداف الحسين شيء نستهلكه؟ وهل هناك ساحة عندنا من ساحات الحسين نتحرّك بها، وهل إنّ شعارات الإمام الحسين استنفدت مع التاريخ، أو أنها لاتزال تصنع في كلّ يوم تاريخاً، وتدعونا إلى صناعة هذا التاريخ؟
لماذا ثار الحسين؟ "لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" . الثّورة من أجل أنّ هناك فساداً في المجتمع وفي الأمَّة يريد الحسين أن يصلحه، وهناك فساد في النَّاس يريد الحسين أن يصلحه.
لقد أدرك الحسين (ع) أنَّ جدَّه رسول الله (ص) عندما أطلق الدعوة الإسلاميَّة، أراد من الناس أن يعملوا بالخير وأن يدعوا له، وأن يعملوا بالمعروف وأن يأمروا به، وأن يبتعدوا عن المنكر وأن ينهوا عنه، أراد من أمّته أن تكون الأمَّة المؤمنة العاملة الدَّاعية إلى الله، المجاهدة بالحكمة وبالموعظة الحسنة، والمجاهدة في سبيل الله بالقوَّة التي تسبق كلّ القوى.
هكذا أراد الله للأمَّة أن تكون: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، لا بأنسابكم، ولا بأموالكم، ولا بقوميَّتكم، ولا بأيّ شيء طارئ في حياتكم، بل لأنّكم الأمَّة التي حظيت برسالة الله وتحمّلت مسؤوليَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 110]، لهذا كنتم خير أمّة، لأنّ الله عندما يفضّل أناساً على أناس، لا ينظر إلى الناس بأشخاصهم، ولكن ينظر إليهم بأعمالهم، لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وقمّة التقوى أن تعمل بالمعروف وتأمر به، وقمّة التقوى أن تبتعد عن المنكر وتنهى عنه.
ولهذا، كان رسول الله يريد للأمّة ما يريده الله لها، أن يدعوا إلى الخير، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، أمّة لا تدعو إلى الشرّ، سواء كان الشرّ في حكّامها أو في داخلها، أمَّة لا تدعو إلى المنكر، سواء كان المنكر في قاعدتها أو في قيادتها، أمَّة تدعو إلى المعروف هنا وهناك، وكان رسول الله يريد للنّاس أن يسيروا في هذا الخطّ، كان الله يقول له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[هود: 112]، وكان يريد له أن يقول للأمّة إنّ عليها أن تستقيم كما أمرها الله. كان رسول الله يدعو إلى الاستقامة، وكان يريد أن يقول لهم لا نجاة في الآخرة بدون استقامة، لتكن كلمتك واحدة بعد أن تدرس أنّ الكلمة تنسجم مع الحقّ، وليكن خطك واحداً إذا آمنت بأنّ خطّك هو الحقّ، وليكن موقعك واحداً إذا آمنت بأنّ موقعك مع الحقّ...
وهكذا قال الله وهو يوجّه رسوله حتى يحدِّث أمّته: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[فصِّلت: 30]. هذا هو الخطّ.
وجاء الحسين (ع)، ورأى أنّ هناك انحرافاً في الأفق، وأنّ هناك انحرافاً في المنهج؛ الحكم يحكم من مواقعه الذاتيّة، ومن مواقعه العائليّة، ومن أطماعه الشخصية، والقاعدة من الناس تتزلّف إلى الحكم لتأخذ من مغانمه، ولتربح من مكاسبه، ولتحصل على أطماعها من خلاله، وهكذا جاء الفساد في القيادة، وجاء الفساد في الأمّة، وكان الحسين (ع) مع الطليعة الطيّبة من أصحابه، كان يريد أن يؤكّد الاستقامة في القاعدة والاستقامة في القيادة، فكان في كتبه الّتي كتبها للنّاس، يبيّن مَن هو الإمام، ومن هو القائد، وماذا يجب أن يفعل، وما هي الصفات التي يجب أن تتوفّر في شخصيّة الإمام الذي يحكم النّاس من موقع الإمامة، ويقود النّاس من موقع القيادة، كان يقول: "فلعمري، ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدَّائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله" . فحتّى يكون الإمام إماماً للأمَّة، عليه أن يلتزم كتاب الله الّذي يريد للأمَّة أن تلتزمه، فإذا كانت الأمَّة مسلمة، فكتابها القرآن، ولا بدَّ لمن يحكم الأمَّة ولمن يقود الأمَّة ولمن يكون إماماً على الأمّة، أن يعمل في الكتاب قبل أن يدعو الأمَّة إلى العمل به، لأنّه لا معنى لأن تقود الأمَّة بغير كتابها، أو تحكم الأمّة بغير دستورها، لا بدَّ أن يكون الإمام القائد ملتزماً بالدّستور، أن يلتزم به وأن يلزم الآخرين به.
العدل في حركة القيادة
أيّها المسلمون، أيّها المؤمنون، ما هو دستوركم؟ الكتاب هو الدّستور، ألست تقول في الشهادة: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيّي، والقرآن كتابي؟ حتى وأنت تنزل في حفرتك، يقول لك الملقّن: يا فلان، تذكّر أنَّ القرآن كتابك... والحسين يؤكّد هذه المسألة، فما الإمام إلا العامل بالكتاب، الّذي يعمل بالقرآن، والذي يلتزم بالقرآن، والذي يدعو إلى القرآن، والّذي يلزم الناس أن يعملوا بالقرآن، أمَّا الذي يستحي من ذكر القرآن، ويبتعد عن الإشارة إلى القرآن، ويتحدَّث في كتاب الشرق أو الغرب، فإنّه قد يصلح لكلّ شيء، ولكن لن يصلح لأن يكون إماماً للمسلمين وقائداً للمسلمين وحاكماً على المسلمين ومسؤولاً عن المسلمين في أيّ موقع من مواقع المسؤوليّة.
والإمام هو "الآخذ بالقسط"، الَّذي يأخذ بالعدل في كلِّ كلمة وفي كلِّ موقع وفي كلِّ حكم وفي كلِّ ساحة جهاد... العدل هو ما يحتويه ويحمله، العدل هو ما يصبح حكماً له، العدل هو ما يصلح علاقاته به. إنَّ العدل هو الأساس في كلّ شيء يأخذ به، حتى لو كان العدل ضدّ أقربائه وكان مع أعدائه، وحتّى لو كان الظلم مع أقربائه ضدّ الناس الذين هم بعيدون عنه، فإنه يأخذ به، لأنّ الله قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام: 152]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[النساء: 135]، {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النّحل: 90]...
الالتزام بالحقّ ورضى الله
"والدَّائن بالحقّ"، الّذي يجعل دينه الحقّ، يدين به ويلتزم ويبشِّر به ويتحرَّك من خلاله، وهذا ما عبَّر عنه ابن الحسين (ع) عندما قال لهم الحسين (ع): "إنِّي خفقتُ خفقة، فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نُعِيت إلينا"، فقال له ولده عليّ الأكبر: "يا أبتاه! أولسنا على الحقّ؟"، قال: "بلى، والذي نفسي بيده"، قال: "إذاً لا نُبالي أن نموت مُحقِّين" .
القضيَّة هي على هذا الأساس.
كان عليّ يعرف أنَّ أباه يدين بالحقّ، ولكنَّه كان يريد أن يؤكِّد الموقف، وكان يريد أن يقول لأبيه: لقد كنت أنت إمامنا تدين بالحقّ، ونحن أتباعك نريد أن نسير على الحقّ، ونريد أن نحيا محقّين ونموت محقّين، وإذا كنّا محقّين، فالحياة والموت عندنا سواء. ذلك موقف جدّه عليّ بن أبي طالب (ع) الذي كان يقول لرسول الله (ص) ولأصحابه في كلّ موقف: "فــوالله لا أبالي إن وقعــت على المــوت أو وقــع المـــوت علـــيّ"، لأنّ الحقّ هو كلّ القصّة.
"الحابس نفسه على ذات الله"، الذي يحبس نفسه على ما يريده الله وعلى ما يحبّه ويرضاه. ليس عنده مشكلة أن يغضب النّاس عليه أو يشتموه أو يتّهموه أو يرجموه بالحجارة، أو أن يقطّعوه بسيوفهم: "هوَّن ما نزل بي أنّه بعين الله" ، كما قال جدّه (ص) من قبل: "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي" . تلك كلمة صدقِ الجدّ (ص) الذي سار على نهجه.
"الحابس نفسه على ذات الله"، لا يطلق نفسه في هوى غيره، هوى الله هو هواه، ورضا الله هو رضاه، قالها أهل البيت (ع) وهم يعلنون موقفهم من الحياة كلّها ومن النّاس كلّهم: "رضى الله رضانا أهل البيت"، ما يرضي الله يرضينا، وإذا كان رضى الله فيما نتحمَّله من بلاء، فنحن "نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصَّابرين" .
منطق أصحاب الحسين (ع)
كان الحسين (ع) يريد أن يؤكِّد معنى الإمامة ومعنى القيادة، لأنَّ القيادة والإمامة هما سرّ حركة المجتمع في الخطِّ المستقيم، وفي الخطِّ العادل، وفي الخطِّ المحقّ، لأنَّ القائد هو الذي يدير حركة المجتمع، حسب اتجاه الأداة التي يحرّكها في سبيل ذلك.
وهكذا رأينا أنَّ الذين تعلّموا من الحسين، كانوا يعيشون الفكر نفسه، لا يرتضون في الإمام الذي يحكم المسلمين أن ينحرف عن خطِّ الإسلام وعن خطِّ العدل، فنقرأ في الكتاب الذي أرسله بعض أصحاب الحسين (ع) في الكوفة، وهو في المدينة أو في مكَّة، وهم سليمان بن صرد الخزاعي الذي حبسه ابن زياد، فلم يمكِّنه من الخروج إلى كربلاء، وحبيب بن مظاهر الذي خرج خفيةً إلى كربلاء، وغيرهما من هؤلاء المخلصين، كيف كانوا يفكّرون، وكيف كانوا يعيشون المسؤوليَّة، كانوا يقولون له: "أمّا بعد، الحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي اعتدى على هذه الأمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها، فبعداً له كما بعدت ثمود".
لماذا كانوا يرفضون الحاكم؟ لأنهم يرون أنّ الحاكم لا بدّ أن ينطلق من خلال إرادة الأمّة في خطّ الله، ويرون أن الحاكم لا بدّ له أن يوفّر للأمّة ثروتها، ويرون أنّ الحاكم لا بدّ أن يستبقي الأخيار ويبعد الأشرار، ويرون أنّ الحاكم لا بدّ له عندما تكون يده على المال، أن يساوي بين الناس بحسب ما يستحقّون من مال. ولهذا كانوا يرفضونه، لأنّه كان حاكماً لم يعمل بالكتاب، ولم يأخذ بالعدل، ولم يدن بالحقّ، ولم يحبس نفسه على ذات الله، بل حبس نفسه على أطماعه وعلى شهواته وعلى عصبيّاته.
ثمَّ يقولون له: "إنَّه ليس علينا بإمام"، من جعل إماماً على الأمَّة نحن نرفضه، لأنَّ الخلف مثل السَّلف، بل ربما يكون أكثر منه "فأقبل، لعلَّ الله أن يجمعنا على الحقِّ بك" . لاحظوا هذا الوعي، إنّهم لم يتحدَّثوا إليه من خلال علاقاتهم الشخصيّة به، ولكنهم قالوا له أقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، كأنهم يقولون له: يا أبا عبد الله، إنّنا نؤمن بأنّك على الحقّ، ولهذا نريدك أن تكون إماماً، لا لنستفيد من موقعك في الإمامة، بل نريدك إماماً يجمعنا الله بك على الحقّ، فننطلق وإيَّاك في طريق الحقّ في كلِّ مجال من مجالات الحياة.
كيف تبايع الأمّة الحسين (ع)؟!
وهكذا رأينا أنّه في كتابه لأهل البصرة، كان يقول لهم: "وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه، فإنَّ السنَّة قد أميتت، وإنَّ البدعة قد أحييت، إن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري، أهدكم سبيل الرَّشاد، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته" .
كان يريد للأمَّة أن تسير معه بشرط، لم يكن يريد للأمَّة أن تبايعه بشخصه، أو لأنه ابن رسول الله، بل أن تبايعه على كتاب الله وعلى سنَّة نبيِّه، وعلى أساس أن تحيا السنَّة التي أماتها الآخرون، وأن تمات البدعة التي أحياها الآخرون، وأن يسمعوا له ويطيعوا ليكونوا معه في سبيل الرّشاد. كان يريد أن يؤكّد مسألة القيادة التي تتحرَّك في خطّ الحقّ، والتي تنفّذ الشّريعة، وقد قال في بيانه إنَّ رسول الله قال: "مَن رأى سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ عليه بقولٍ أو بفعلٍ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر" .
إنّه كان يريد أن يقول للأمَّة، إنَّ الثّورة على الحاكم الجائر المنحرف هي مسؤوليَّة الأمّة جميعاً، لأنَّ الله يعتبر أنّ من لم يغر على هؤلاء الظلمة وهو قادر على ذلك، فإنّ الله سيدخله مدخله، وهي مسؤوليّة الأمّة، تماماً كالواجب الكفائي، إذا قام به البعض سقط عن الكلّ، وإذا لم يقم به الكلّ أثموا جميعاً واستحقّوا المسؤوليّة جميعاً، وكان يريد للأمّة أن تتحرّك، وأن يوافق فعلها قولها، وأن يوافق موقفها قلبها، لا أن يكون قلبها شيئاً وفعلها شيئاً آخر، كما كان النّاس في الكوفة، بعد أن جعلهم ابن زياد من خلال الأموال التي قدَّمها إليهم، يحرّكون سيوفهم في وجه الحسين (ع)، ولكنَّ قلوبهم كانت لاتزال تنبض بحبّه.
كان الفساد في الأمَّة في أعلى مظاهره، يتمثَّل في أنّ الأمَّة تختزن في قلبها شيئاً، ولكنّها تحرّك أيديها وأرجلها ومواقفها في اتجاه شيء آخر مضادّ لهذا الشّيء.
كان النّاس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع بني أميَّة، والمسألة الطبيعيَّة أنَّك إذا آمنت بشخص أحببته، وإذا آمنت بخطّ التزمته، فإنَّ عليك أن تجعل عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسيفك ورمحك وكلّ ما تملك باتجاه من التزمت، وباتجاه من رضيت، وباتجاه من أحببت. أمّا أن تجعل قلبك في اتجاه، وحركتك في اتجاه آخر، فذلك هو الفساد الّذي لا فساد مثله، لأنَّ الإنسان يقتل من يحبّ، ويهدم ما يؤمن، وينحرف عمّا يعتقد، وبذلك يقتل الإنسان نفسه، ويدمّر الإنسان شخصيّته من حيث يريد ومن حيث لا يريد.
التقى الإمام (ع) بالفرزدق، وقال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يريده.
قال له الحسين: "صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ، فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشّكر، وإن حال القضاء دون الرَّجاء، فلم يعتد من كان الحقّ نيّته، والتقوى سريرته..." .
لو قتلنا ونزل القضاء بغير ما نحبّ، فلن نقتل معتدين ولا ظالمين، بل نقتل محقّين مظلومين، لأنَّ الله اطّلع على نيَّاتنا، فرأى الحقَّ نيَّتنا، واطّلع على سرائرنا، فرأى التقوى سريرتنا، ومن كان الحقّ نيّته في كلّ حركته، ومن كانت التقوى سريرته في كلّ عمله، فإنّه لا يمكن أن يكون معتدياً على العباد، ولكنّه يكون منسجماً مع مصلحة العباد.
القيادة المنحرفة والقاعدة المنحرفة هذه هي الّتي أوجبت الخلل الّذي دفع الحسين (ع) إلى التحرّك، من أجل أن يطلق الصّوت في سبيل أن يهزَّ الواقع على أساس ذلك.
مسؤوليّة مواجهة الظّالمين
هل استنفد هذا الهدف أم أنَّه لايزال موجودًا؟ الكثير من الناس تحوَّل الحسين عندهم إلى تقليد من تقاليدهم، أماتوه ألف مرّة بعد أن قتله جنود بني أميّة.
ما للحسين عندنا نزوره ونحن نعصي الله قبل الزّيارة، وفي طريق الزيارة، وبعد الزيارة؟! ماذا بقي للحسين عندنا؟ نقيم التعازي في بيوتنا وفي مساجدنا وفي نوادينا، ويأتي إليها أو يقيمها من حارب الحسين من أمثاله، ومن لايزال يزوّر إرادة الأمّة، وتقبل التعازي، ويتهامس الكثير من المؤمنين، تتحدَّثون في التعازي عن السياسة؛ التعازي شيء والسياسة شيء آخر! لا تتحدَّثوا عن هذا الحاكم الظالم، وعن هذا السياسيّ المنحرف، ولا تتحدَّثوا عن هذا المحتلّ الغاصب، ولا تتحدَّثوا عن هذا المستعمر الغاشم! إذا كنَّا لن نتحدّث عن أولئك، فعمّن نتحدَّث؟
مشكلة الحسين أنّه واجه القيادة المنحرفة وثار عليها، وواجه القاعدة المنحرفة وثار عليها، وواجه السياسة الظالمة الغاشمة وثار عليها، إذا كنا لا نتحدَّث عن الظلمة في أيّامنا فعمّن نتحدّث؟!
الحسين ليس بحاجة إلى دموعنا، وليس بحاجة إلى حزننا، الحسين يريدنا أن نذرف الدّموع من عيوننا محترقةً تغلي، حتى تستطيع أن تدلّنا هذه الدموع على أنّ علينا أن نبكي المأساة في حياتنا، حتى نمنع الذين يصنعون المأساة من أن يمتدّوا في ساحاتنا.
أن تثور عاطفتك ضدّ مآسي الواقع من خلال تفاعلك مع مآسي الماضي، لتمنع مآسي الحاضر وتمنع مآسي المستقبل، لتمنع كلّ يزيد من أن يقتل الحسين، ولتمنع كلّ ابن زياد من أن يكون أداةً في سبيل أطماع أمثال يزيد، وأن تمنع الجماهير من أن تتحرَّك في سبيل أطماعها وشهواتها وملذَّاتها لتسحق بأرجلها مبادئها ورسالاتها.
واجبنا اليوم!
الذي يريد أن يزور زينب (ع)، عليه أن يتحدّث إلى زينب عن الزينبيّات اللاتي وقفن ضدّ الحاكم، والذين يريدون أن يزوروا زينب، عليهم أن يستلهموا موقف زينب في أن يكون لنا في كلّ موقع أكثر من زينب، لتقول للظالم كما قالت زينب: "فكد كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا".
إنّ القضيَّة هي هذه، أن نستلهم من الزّيارة الموقف لنصنع الموقف، ولنأخذ من الماضي ما يبقى للحاضر وللمستقبل، لا أن نستغرق في الماضي.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].
الحسين وزينب وكلّ الأصحاب قاموا بواجبهم، فأين واجبنا؟! لقد أكَّدوا مواقفهم، فأين مواقفنا؟ ولقد استطاعوا أن يضحّوا، فأين تضحياتنا؟ المسألة أن يبقى لنا من الحسين الشَّيء الذي نشعر بأنّه موجود فينا، في شعاراته، في أهدافه.. إذا كان الحسين يريد أن يطلب الإصلاح في أمَّة جدّه، فهل نقوم نحن بطلب الإصلاح في أمَّة نبيِّنا؟ هل نطلب الإصلاح؟ هل نصلح أنفسنا؟ هل نحمل الإصلاح رسالةً في الواقع؟
الحسين (ع) هو هناك في هذه المواقع، فحيث تكون ساحة للإصلاح، يكون الحسين موجوداً فيها، وحيث تكون ساحة للفساد، يكون الحسين ثائراً عليها.. المسألة هي هذه.
أمّا أن يكون الحسين (ع) شخصاً تاريخيّاً ننطلق لنحبسه في دائرة تقاليدنا، ونحاول أن نكون نحن ثائرين في الاتجاه المضادّ لاتجاهه، فإنَّ الحسين لا يحترم النّاس الذين يفكرون بهذه الطّريقة.
من هو فريق الحسين (ع)؟
ماذا بقي لنا من شعارات الحسين؟ "ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام" .
هيهات منّا الذلّة! هل هو شعار حسيني يتحدَّث فيه الحسين عن ذاته، أم أنّه شعار يتحدَّث فيه الحسين عن فريقه؟
من هو فريق الحسين؟ هل فريق الحسين هم هؤلاء الّذين كانوا معه؟ فريق الحسين هم المؤمنون برسالة جدّ الحسين الإسلام، لأنَّ الله قال في كتابه الذي بلّغه هذا الرسول: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8].
إذا كانت العزَّة للمؤمنين، فكل مؤمن لا بدّ أن يكون في الموقف المماثل لموقف الإمام الحسين (ع): "هيهات منا الذلّة".
عندنا يفرض عليك الحكم في الداخل أن تكون ذليلاً، وأن تقبل بكلّ شيء يفرض عليك، قل هيهات منّا الذلّة، وعندما تفرض عليك إسرائيل أن تسير لتكون جاسوساً لها، أو لتكون جنديّاً لها، أو لتكون خاضعاً لها: قل هيهات منّا الذلّة، وعندما تفرض عليك قوى الاستعمار كفردٍ وكمجتمعٍ وكأمّة أن تخضع في سياستك وفي اقتصادك وفي حربك وفي سلمك لها، قل هيهات منّا الذلّة. الكلمة قالها الحسين لا بشخصه، ولكنّه قالها بخطّه ورسالته وكلّ الفريق الذي يؤمن بهذا الخطّ ويتحرّك مع هذه الرسالة.
أن تكون مؤمناً، يساوي أن تكون عزيزاً، أمّا أن تعطي بيدك الذلّة للآخرين، وأن توقّع على قرار عبوديّتك، يعني أنّ في إيمانك خللاً وضعفاً، لأنّ الله قال إنَّ العزَّة للمؤمنين، أمَّا الأذلاء الّذين يستطيعون أن يكون أعزّاء، وأمّا العبيد الذين يستطيعون أن يكونوا أحراراً، فليسوا مؤمنين.
أن تكون مؤمناً، يساوي أن تكون حراً.. حريتك عهد الله إليك، ممنوع أن تكون عبداً، لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً...
لقد خلقك الله وأنت حرّ، لا ربَّ لك إلا الله، لا سيّد لك إلا الله، لا شخص يجب عليك أن تطيعه إلا الله.
الله هو كلّ شيء، والناس كلّهم مثلك، لماذا تستعبد نفسك لمن هو عبد لمن أنت عبد له؟
إذا كنت تساويه في عبوديّة الله، فكيف تجعل نفسك عبداً له تشركه مع الله في عبوديتك؟
إنّ المسألة، أيّها الإخوة، هي أن نختزن في داخل أنفسنا قيمنا، لأنَّ الثقافة المتخلّفة التي ركَّزها التخلّف وركّزها الاستكبار العالمي في أذهاننا، جعلتنا نحبّ الرّاحة مع الذلّ، ونكره التعب مع الناس.
..