ابن رشيق القيرواني، هو أحد أبرز الشعراء والأدباء الذين خرجوا من الجزائر في القرن الـ4 الهجري، حيث رحل إلى القيروان ليزداد خبرة ومهارة في الأدب، ويصبح شاعرا استثنائيا لا ينسى.
نشأة ابن رشيق القيرواني
ولد أبو علي الحسن بن رشيق، والذي عرف لاحقا بالقيرواني، في عام 390 هـ، بمدينة المسيلة التابعة الآن لدولة الجزائر، حيث نشأ الطفل الرومي في كنف والده المملوك، الذي كان يعمل في صياغة الذهب تحت إمرة مالكه.
كان الأب يرغب في أن يلتحق ابنه بنفس صنعته، لذا قام بتعليمه كيفية إتمام مهام هذا العمل، إلا أن الابن الصغير كان يرغب في تعلم الشعر فحسب، وخاصة وأنه أظهر موهبة كبيرة منذ الصغر.
رحل ابن رشيق القيرواني إلى مدينة القيروان التي حصل من خلالها على اسم شهرته وهو لا يتجاوز الـ16 من عمره، حيث أدرك أنه ذهب إلى مدينة يجتمع فيها الأدباء والشعراء، لذا وجد ضالته هناك وخاصة بعدما تعلم الشعر والنحو والأدب والبلاغة والنقد على يد عظماء مثل أبي إسحاق الحصري القيرواني وأبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز وغيرهم من كبار الأدباء.
لم يجد ابن رشيق أزمة في كتابة أشعار المدح في الحكام، لذا فمع قيامه بتأليف القصائد عن المعز بن باديس، حاكم مدينة القيروان في هذا الوقت، فإنه حصل على مكانة مختلفة هناك، وخاصة مع بزوغ موهبته التي لا يمكن إنكارها، قبل أن تتوطد العلاقة بينه وبين رئيس ديوان الإنشاء بالقيروان، ويكتب عنه كتاب العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه، ليتولى فيما بعد شؤون الكتابة المتصلة بالجيش.
شعر ابن رشيق
اتسمت أشعار ابن رشيق القيرواني بالبساطة التي كانت تصل بسهولة إلى محبيه، حيث كان دائم الاهتمام بصياغة المعاني والصور البديعة، وكذلك بحسن التناغم بين المرادفات.
قال ابن رشيق متأثرا من غياب ابن باديس عن البلاد في أيام العيد الممطرة:
تجهم العيد وانهلت بوادره وكنت أعهد منه البشر والضحكا
كأنه جاء يطوي الأرض من بعد شوقا إليك فلما لم يجدك بكى
كذلك قال ابن رشيق في أمير مدينة المهدية التي أقام بها لفترة من الزمن، تميم بن المعز:
أصح وأعلى ما سمعناه في الندى من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم
قال ابن رشيق أيضا:
لو أوردت من دم الأبطال سمر قنا لأورقت عنده سمر القنا الذبل
إذا توجه في أولى كتائبه لم تفرق العين بين السهل والجبل
كما قال أيضا في الفراق:
فارقت بالكره من أهوى وفرقني شتان لكننا في الود سيان
كأنما قد طولا يوم فرقتنا شرقا وغربا فأمسي وهو يومان
وقال أيضا:
سألت الأرض لم كانت مصلى ولم كانت لنا طهرا وطيبا
فقالت غير ناطقة لأني حويت لكل إنسان حبيبا
كتب عن ابن رشيق القيرواني
يملك ابن رشيق سجلا غنيا من الكتب التي ألفها، حيث يعد كتاب العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه من أشهر مؤلفاته، تماما مثل كتاب أنموذج الزمان في شعراء القيروان، والذي تناول فيه حياة وشعر نحو 100 أديب معاصر.
كذلك ألف ابن رشيق كتاب النظم الجيد وكتاب طراز الأدب وكتاب أرواح الكتب، إضافة إلى كتاب قراضة الذهب الذي تناول فيه قضية السرقة في الشعر والمعاني، ليفرق ما بين إمكانية الاستعارة أحيانا، وبين السرقة واضحة المعالم والمرفوضة.
اشتهر أيضا لابن رشيق كتاب الشذوذ الذي فيه جميع الكلمات الشاذة والعربية في معناها، كما ألف أيضا كتاب الرياحين وكذلك كتاب الأسماء المعربة.
مكانة ابن رشيق القيرواني
حظى ابن رشيق بمكانة كبيرة في حياته وحتى بعد وفاته، حيث تحدث الكثير من الأدباء والشعراء عن موهبته الواضحة، ومن بين هؤلاء العظماء مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون الذي قال عن كتابه العمدة: «انفرد الكتاب بهذه الصناعة وأعطاها حقها، لم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده».
كما قال عنه الأديب الرومي ياقوت الحموي: «كان شاعرا أديبا نحويا لغويا حاذقا عروضيا كثير التصنيف حسن التأليف»، كل هذا إلى جانب المكانة المرموقة التي حظي بها في القيروان، وخاصة من جانب الحكام وكبار المسؤولين هناك.
وفاة ابن رشيق القيرواني
عاش ابن رشيق في القيروان لسنوات طويلة، حتى تعرضت لهجوم قوي من جانب بعض القبائل العربية، الأمر الذي دعاه إلى تركها والذهاب إلى مدينة المهدية، قبل أن يشد الرحال من جديد إلى جزيرة صقلية وتحديدا مدينة مازر.
في عام 456 هـ، رحل ابن رشيق القيرواني عن عالمنا عن عمر يتجاوز الـ60 ببضع سنوات، بعد أن كتب اسمه بحروف من نور في تاريخ الأدب والشعر، ليظل في ذاكرة الكثيرين حتى بعد رحيله بمئات السنين.