المُصطلَح المُشترَك الثاني : الالتفات
المَعْنى اللّغوي للالتفات : الانصراف إلى الشيء وعَقْد العنايَة له، وقد يكونُ الالتفاتُ مُستحسَناً، كحُسن الالتفات إلى مَن يستحقُّ أن يُعْتَنى به ويُلتفَتَ إليه ويُشفَقَ عليه، وقد يكونُ غيرَ ذلكَ، كالخفّة غيرِ المحمودَة في المَرء وما يصاحبُ ذلكَ من كثرة الكلام وسرعة الجواب، وكثرة الالتفات والخلوّ من العلم، والعَجَلَة والخفّة والسَّفه والظُّلم والغَفْلَة [المستطرف في كل فن مُستظرَف للأبشيهي]
وذَكَر الجاحظُ أنّ من تمام آلة العاِلم أن يكونَ شديدَ الهَيْبة، رَزِين المَجْلس، وَقُوراً صَمُوتاً، بطيء الالتفات، قليلَ الإشارات، ساكنَ الحَرَكات، لا يَصخَب ولا يغْضب، ولا يُبهَرُ في كلامه...؛ فإنّ هذه كلّها من آفات العِيّ. [العقد الفَريد، باب تَحامُل الجاهل على العالِم]
وفي الاصطلاح عرَّفه ابن المعتزّ فقال: الالتفاتُ انصرافُ المتكلِّم عن الإخبار إلى المخاطَبَة [انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري]
وللنحويّينَ تعريفٌ للالتفات يتَّصلُ بالتّركيب، ويُسمّونَه الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كَلامين مُتَّصلَيْن مَعنى، بجملة أو أكثر لا محلَّ لها من الإعراب، نحو قول الشّاعر:
تذكرت -والذكرى تهيجك زينبا /// وأصبح باقي وَصلِها قد تَقضَّبا
وحلَّ بفلج فالأباتر أهلُنا /// وشطت فحلت غمرة فمُثقَّبا
فالْتفَتَ الشاعرُ في البيتين.
ولكنّ البلاغيّين يفرّقونَ بين الالتفات والاعتراض، فالالتفاتُ كما عرَّفه أبو هلال العسكريّ في الصّناعَتَيْن، أن يَفرغَ المُتكلمُ من المعنى، فإذا ظننتَ أنّه يُريدُ أن يُجاوزَه يعودُ إليه ويلتفتُ إليه فيَذكُرُه بغيرِ ما تقَدَّم ذكرُه به. أخبرنا أبو وقد حدَّث الأصمعيّ عن التِفاتاتِ جَرير، منها قولُه:
أَتَنسى إِذ تُودِّعُنا سُلَيمى /// بِفَرْعِ بَشامَةٍ، سُقِيَ البَشامُ
قالَ الأصمعيُّ: ألا تَراه مُقبلاً عَلى شعره. ثم الْتفَتَ إلى البَشام فدَعا له. وقوله:
طربَ الحَمامُ بذي الأركِ فشاقَني /// لا زلتَ في عَلَلٍ وأيكٍ ناضرِ
فالتَفَتَ إلى الحَمام فدَعا له.
ومنه قول الآخر:
لقد قتلتُ بني بكر بربِّهم /// حتى بَكَيْتُ وما يبْكي لهُمْ أحَد
فقوله: وما يَبكي لهم أحد، التفات، وقولُ حَسّان:
إنّ التي ناوَلتني فَردَدْتُها /// قُتِلَتْ، قُتِلْتَ فَهاتها لم تقتلِ
فقوله: قُتِلْتَ، التفاتٌ.
ونوعٌ آخَر من الالتفات: يكونُ فيه الشاعرُ آخِذاً في مَعنى وكأنه يَعترِضُه شَكّ أو ظنٌّ أنَّ رادّاً يَردُّ قَولَه، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيعود راجعاً إلى ما قَدَّمَه، فإما أن يؤكّدَه، أو يذكُرَ سَببَه، أو يُزيلَ الشّكَّ عنه، ومثالُه قولُ المُعطّل الهُذَليّ:
تَبينُ صُلاةُ الحَربِ مِنّا وَمِنهُمُ /// إِذا ما الْتقَينا، والمُسالِمُ بادِنُ
فقوله: "والمسالم بادن" رُجوعٌ من المعنى الذي قدّمه، حتى بيّنَ أنّ عَلامةَ صُلاةِ الحَربِ مِن غيرهِم أنّ المُسالمَ بادنٌ، والمُحاربَ ضامرٌ.
***
وقريبٌ من الالتفاتِ عند البَلاغيّينَ فنٌّ آخَر هو الاعتراضُ؛ وليسَ الاعتراضُ عندهُم كالاعتراضِ عندَ النّحويّين،فقَد تقدَّم أنّ الاعتراضَ عندَ النّحاةُ يكونُ بالجملةِ تَقَعَ بين متلازمَيْن وهي منقطعةٌ عمّا قبلَها إعراباً مُتّصلةٌ مَعْنىً، وأمّا الاعتراضُ عند البلاغيّينَ فغيرُ ذلِكَ وهو قريبٌ ممّا سَمّاه قُدامَةُ بنُ جعفر في العُمْدَة في مَحاسن الشّعرِ وآدابه، بالاستدراك؛ وهذا وجه من وُجوه المُصطَلَح المُشتَرَك:
فالاعتراض عندَ البلاغيّينَ، هو اعتراضُ كلامٍ في كَلامٍ لم يَتمَّ، ثم يَرجعُ إليه فيُتمُّه، َكقول النّابغة الجَعْديّ:
ألا زَعَمَت بنو سَعدٍ بأني /// -ألا كَذَبوا- كبيرُ السّنِّ فانِّي
وقول كثير:
لو أنّ الباخلينَ -وأنتِ منهُم- /// رَأوكِ تَعَلّمُوا منكِ المطالا
وقولِ الآخَر:
فظَلَّتْ بيوم -دَعْ أخاك بمِثْلِه- /// على مشرعٍ يُروَى ولما يُصَرَّدِ
ففي قولِه: دَعْ أخاكَ بمِثْلِه، نوعٌ من أنواع الالتفات، اعترضَ به ولم يُتمَّ كلامَه السّابقَ.
وقول الآخر:
إن الثَّمانين – وبُلِّغْتَها - /// قد أحْوَجَتْ سَمْعي إلى تُرْجُمانِ
وقول البحتري:
ولقد عَلمتُ -وللشَّباب جَهالةٌ- /// أن الصِّبا بَعدَ الشَّباب تَصابي
فتبيَّنَ أنّ الالتفات، كالتّضمين والاعتراض، من المُصطلحاتِ المُشتركَة التي تدلُّ على أكثر من مَعْنى، وأنّه يتعيّنُ على المطَّلِع على المصطلَح، أن ينظرَ في الفنّ المُستعمَلِ فيه، قبل اعتماده وفهمِه وتأويلِه.