هيمَنَة تأويل النّحاة للشّعر، وفي توجيه النّظر إليه :
تَنوَّرْتُها من أذرعاتٍ، وأهلُها /// بيَثربَ، أدْنى دارِها نَظرٌ عالي
البيتُ لامرئ القَيس بن حجر الكندي، من قصيدة مطلعها:
ألا عِمْ صَباحاً أيُّها الطّللُ البالي /// وهلْ يَعِمَنْ مَن كانَ في العصر الخالي
ثُمّ يَقولُ:
وَهَل يَعِمَن إِلّا سَعيدٌ مُخَلَّدٌ /// قَليلُ الهُمومِ ما يَبيتُ بِأَوجالِ
وَهَل يَعِمَن مَن كانَ أَحدَثُ عَهدِهِ /// ثَلاثينَ شَهراً في ثَلاثَةِ أَحوالِ
دِيارٌ لِسَلمى عافِياتٌ بِذي خالٍ /// أَلَحَّ عَلَيها كُلُّ أَسحَمَ هَطّالِ
إلى أن يَقولَ: تنوَّرْتُها... والضَّميرُ يعودُ على سَلْمى أو ديار أهلها
والغريبُ أنّ الشعرَ الفصيحَ مثل الذي ذكرْنا منه المطلَعَ والبيتَ، أكثر ما نَتذكّرُه ونستحضرُه، إنّما نتذكّرُه على النّحو الذي يَرويه النّحاةُ ويستَدلّونَ به ويبحثونَ فيه عن وجه الاسْتشْهاد.
ولا يَكادُ يُساوي البيتُ كلّه قيمةً إلاّ بكلمة أذرعات التي هي مَدارُ الكلام؛ فأهمّ ما في البيت عندهُم هذه الكلمةُ التي تُرْوى بِكَسرِ التّاء مُنوّنةً، وبكَسْرِها بلا تَنوينٍ، وبفَتْحِها،
وكلُّ وجهٍ يُناسبُ مذهَباً في النّحو.
وقلَّما يُلتَفَتُ إلى دلالاتِ الألفاظِ الأخْرى كالفعلِ تَنَوَّرتُها الذي يَعْني أنّ امرأ القيس نَظَرَ إليها مِنْ بُعدٍ، وأصلُ التّنوُّر النّظرُ إلى النّارِ من بُعدٍ؛ واستطاعَ الشاعرُ أن يَراها لأنّه حريصٌ على رؤيتِها
لا يُخطئُها عن ناظرَيْه البُعدُ. وأصلُ الأذرعاتِ بَلدٌ في أطراف الشّام، وأهلُ سَلْمى بيثربَ، فبيْنَه وبيْنَها مسافةٌ عظيمةٌ ومَراحلُ كثيرةٌ، لا تَحولُ دون تَنَوُّرِها وتمييز صورتها...
وكأنّي بامرئ القيسِ يُنشىءُ هذا المَشهدَ من مخيّلتِه، فلا هو بأذرعات ولا هي بيثربَ، ولكنّها المُغامَرَةُ المَجازيّةُ تُنطقُ الكلماتِ بما وقعَ و بما لَم يَقَعْ