قالَ بعضٌ: ( لا يُحتَاجُ في الحقيقةِ إلى حَدِّ الحرفِ، لأنَّه كلماتٌ محصورةٌ ).
ورُدَّ بأنَّهُ لابُدَّ منهُ، ليُرجعَ إليه عِندَ الإشكال والاختلافِ إليه، لِيُحكَمَ بحرفيَّةِ ما يَصدُقُ عليه حَدُّ الحرفِ.
قال ابنُ أُمِّ قاسم المُراديّ: ( ومِن أحسنِهَا - أَيْ حدودِ الحروف - : كلمةٌ تدُلُّ على معنًى في غيرها فقط).
فقولُهُ: (كلمةٌ): جنسٌ يشملُ الاسمَ والفعلَ والحرفَ، فَعُلمَ أنَّ ما ليسَ بكلمةٍ كـ (همزةِ) الوصل: ليسَ من حروف المَعَاني، بَل المباني، وسواء في الكلمةِ ما هو كلمةٌ، أصالَة كـ (مِنْ) و (عَنْ ) أو تصييرًا نحو: (إنَّما و كأَنِّما) حيثُ صُيِّرا بعد التركيبِ كلمةً، فكأنَّهُ وضْعٌ جديدٌ، فلا يُقالُ: إنَّ كلاً منهما كلمتان فلا تَدخُلان في الحدِّ.
وقوله: (تَدلُّ على مَعنًى في غيرها): فَصْلٌ يخرُج بهِ الفِعلُ وأكثرُ الأسماء.
وقوله: (فقط) : فَصلٌ ثانٍ يَخرجُ به مِنَ الأسماءِ ما يَدُلُّ على معنًى في غيرهِ، ومعنًى في نفسهِ، كأسماءِ الاستفهامِ والشَّرطِ، فإنَّها تدلُّ بسببِ تَضّمُّنها معنى الحرفِ على معنَى في غيرِها مع الدلالةِ على ما وضِعَتْ له، فإذا قُلتَ –مثلاً-: مَنْ يَقُمْ أقمْ معه، وجِدَتْ دَلالةُ (مَنْ) على شخصٍ عاقلٍ بالوضعِ، وَدَلَّتْ – مع/ ذلك – على ارتباطِ جملةِ الجزاءِ بجملةِ الشَّرطِ لتضمُّنِها معنى (إنْ) الشَّرطيَّةِ.
قالَ المُراديُّ: (واعتراضَ الفارسِيُّ قولَ مَنْ حدَّ الحرفَ بأنَّهُ: ما دَلَّ على معنىً في غيرهِ: بالحروفِ الزائدةِ، لأنَّها تدلُّ على معنىً في غيرِها.
وأُجيبَ بأنَّ الحروفَ الزائدةَ تفيدُ فضلَ تأكيدٍ وبيانَ سببِ تكثيرِ اللَّفظِ، وقوَّةُ اللفظِ، مُؤذِنةٌ بقوةِ المعنى) انتهى.
وزعمَ ابنُ النَّحاسِ : أنَّ الحرفَ دالٌّ على معنىً في نفسه، قالَ : لأنَّا نقولُ: إمَّا أنْ يفهمَ المخاطب بالحرف موضوعَهُ أو لا، فإنْ فهمه فذاكَ، وإلا فَلا دليل فيه أنَّه لا معنى لهُ في نفسه، إذ لو خُوطِبَ بالفعل والاسم وهو لا يفهمُ موضوعَهُما كان كذلكَ، فإذًا له معنى في نفسهِ، والفرقُ بين معناه حينئذٍ ومعنى قَسِيمَيه: أنَّ كلَّ واحدٍ منهُمَا يفهمُ منه حالَ الإفراد عَينَ ما يُفهمُ منه عند التَّركيبِ، بخلافِ الحرفِ، إذ المعنى المفهوم منه حالَ التركيبِ أتمُّ ممَّا يُفهمُ منه حالَ الإفراد.
قالَ ابنُ هشام في شرح اللَّمحَةِ: (إنَّ أبا حيَّان تابعَ ابنَ النحاسِ في ذلك في شرح التسهيل) ، انتهى.
وأغرَبُ من ذلك ما زَعمَ الشريفُ الجرَجاني – كما ذكرهُ السيوطيُّ في التبر الذائبِ في الأفرَاد والغَرَائبِ من كتابه " الأشباه والنظائر" – من أنَّ الحرفَ لا معنى له أصلاً لا في نَفْسِهِ، ولا في غيرهِ، وخَرَقَ بذلك إجماعَ النُّحاةِ، وألَّفَ فيه رسالةً.
وفي القاموس: (الحرفُ عند النحاةِ: ما جاءَ لمعنى ليسَ باسمٍ ولا فعلٍ، وما سواهُ من الحُدُودِ فاسدٌ). انتهى.
ثمَّ اعلم: أنَّ معنى قولهم: الحرفُ يدلُّ على معنى في غيره: أنَّ دلالَتُه على معناه الإفرادِي متوقفةٌ على ذكر مُتعلَّقه ، بخلافِ الاسم والفعل، ألا ترى أنَّكَ إذا قلت: (أل) لم يُفهم منه التَّعريف، وإذا قلتَ: (الغُلامَ) فُهِمَ ذلك؟
ولا يَلزمُ من عدم إِفادةِ الحرفِ حينئذ كونه مُهملاً، لأنَّ المُهْمَل ما لا مَعنَى لهُ لا في حَالِ الإفراد، ولا في حال التركيب.
واعلمْ: أنِّي عقدتُ للحُروفِ خمسةَ أبوابٍ على تَرتيبِ أوضاعِهَا، مُراعيًا في ترتيبِ ما زاد على حرفٍ واحدٍ ما بعدَ الحرفِ الأوَّل أيضًا، فقلتُ: