بدأت السينما في أول خطواتها برغبة في التسجيل فقط، في الاحتفاظ باللحظة وتسجيل حدثًا ما لغرض المتعة والتسلية وجني الأموال من تلك الصناعة الحديثة.
مع الوقت وبتطور السينما وشكلها واكتشاف القدرة على المونتاج والرغبة في خلق قصة بسيطة وتمثيلها أمام الكاميرا وحتى وصلت السينما للشكل المتعارف عليه الآن أصبحت السينما لا تقف عند حد إمتاع الناس ومنحهم وقت لطيف ولكن تخطت ذلك ووصلت إلى النقطة التي أصبحت فيها مكمن للكثير من الحالات الشعورية المختلفة التي تصاحب كل عمل، فنرى الأفلام وهي مليئة بالعواطف والمشاعر التي تنجح دائمًا في نقلها إلى المشاهد فيتوحد معها ويخرج من باب السينما أو من بعد مشاهدته في المنزل وهو يشعر تمامًا كما يشعر بطل الفيلم.
وهنا تكمن أحد أجمل خصائص السينما في جعلك قادر على الإحساس بأبطالها كأنك هم.. وتمنحك الفرصة في اختيار نوع الفيلم الذي تريد مشاهدته متى احتجت أن تشعر بأي شعور مهما كان.
في رحلة البطل بأبسط أشكالها نرى الشخصية الرئيسية في بداية الفيلم تعيش داخل عالمها المعتاد، تتحرك داخل مساحتها الآمنة فقط ولتبدأ أحداث الفيلم نراها تُنتزع من تلك البيئة لتواجه عالم مختلف عنها، أيا كان نوع هذا الأختلاف.. لتصل في النهاية إلى شيء ما سواء نجاح على صعيد العمل أو قصة حب ناجحة أو حتى شعور ما قوي كفاية لإحداث تغيير مهم في حياتها.
وعادة ما نخرج من الأفلام ونحن نشارك البطل في نفس الأحاسيس التي يشعر بها، وكأننا نحن من كان يخوض الرحلة للتو، ومع أختلاف الحكايات تختلف المشاعر.
وكثيرًا ما نلجأ للسينما لتمنحنا شعورًا ما بعينه نريد أن نختبره الآن وهنا أرغب في سرد قائمة بسيطة بسبعة أفلام يمكنك مشاهدتها إذا ما فقدت يومًا شعورك بالانتماء.
الأفلام التي تضمها هذه القائمة عادة ما ينظر إليها المشاهدون كونها أفلام تحكي قصة حب بين بطلي الفيلم، ولكن عندما أمعنت النظر إليها أكثر وشاهدتها مرة أخرى أدركت أن قصة الحب هنا ليست بالضرورة هي بطل العمل الأوحد.
1- The Secret Live of Walter Mitty
يبدأ فيلم “الحياة السرية لوالتر ميتي” بطولة “بن ستيلر” و”كريستين ويج” بمشاهد متتابعة ترصد حياة والتر سواء كانت العاطفية أو العملية، فالمشهد الأول في الفيلم نراه يجلس أمام جهاز الكومبيوتر يتصفح أحد مواقع المواعدة ويحاول التواصل مع أحد الفتيات، التي نعلم لاحقًا أنها تعمل معه في نفس الشركة. ثم يتبع هذا المشهد سلسلة من المشاهد القصيرة له وهو يغادر من عمله أو يذهب إليه، في لقطات تم تصوريها من الأعلى لجمع كبير من الموظفين الذين يكاد يرتدون نفس الملابس ويتجهون في اتجاهات متشابهة بينما والتر يختفي بينهم وكأنه جزء من قطيع كبير.
تتحرك أحداث الفيلم نحو مغامرة يخوضها والتر بحثًا عن نيجاتيف صورة ضروري تخص عمله بمجلة توشك على إغلاق أبوابها للأبد.
منذ بداية الفيلم نرى أن والتر لا يعيش في واقعه بقدر ما يعيش في خيالاته أكثر، فهو دائمًا يشرد ويتخيل أحداث أكثر إثارة ومتعة يكون فيها هو البطل، نراه يحاول التواصل مع الفتاة عن طريق موقع مواعدة بدلًا من أن يأخذ خطوات فعلية اتجاهها في الواقع.. إنه يعيش على حافة الحياة وليس بداخلها، لا ينتمي كثيرًا إلى العالم الحقيقي الذي يعيش فيه دون أن يكون هو بطل حكايته ولكن مجرد شخص على الهامش.
وتأخد المغامرة والتر خلال الجبال والبحار وسط أسماك القرش، مغامرة أشبه بما كان يتخيله دائمًا عدا أنها حقيقة هذه المرة، وفي نهاية المغامرة نرى والتر لأول مرة وهو يشارك في مبارة كرة قدم بسيطة، لأول مرة يندمج مع الواقع وينتمي إلى الحياة التي ظل يراقبها من الخارج طوال حياته.
2- The Perks of Being A Wallflower
صدر فيلم “مزايا أن تكون خجولًا” في عام 2012 عن رواية تحمل نفس الأسم للكاتب ومخرج الفيلم ستيفن تشبوسكي بطولة “لوجان ليرمان”، “إيما واتسون“، و”إزرا ميلر” ورغم مرور ثماني سنوات منذ عرضه الأول إلا أنه مازال يحظى بمحبة كبيرة داخل كل من شاهدوه، ومازال يتم اكتشافه لأول مرة والأستمتاع به.
يحكي الفيلم عن “تشارلي” الفتى الخجول الذي تبدأ أحداث الفيلم مع اليوم الأول له في المدرسة الثانوية واضطرابه حول حياته الجديدة.
خلال أحداث الفيلم نرى الماضي العنيف الذي مر به تشارلي، من انتحار صديقه إلى مشاكله الأسرية التي أثرت عليه وجعلته يمر بانهيار عصبي يدخل بسببه المستشفى لأيام كثيرة.. والذي يترتب عليه ابتعاده عن جميع الناس عدا عائلته واكتفائه بكتابة الخطابات لشخص مجهول.
تلك الأسس التي تضعها القصة تجعلنا نشعر بنفس الوحدة التي يمر بها تشارلي، بمحاولاته الحصول على صحبة جديدة تشبهه.. تلك المحاولات التي رغم أنها تبوء بالفشل كثيرًا إلا أنها تنجح لمرة واحدة فيجد الحب والصداقة معًا.
تلك الوحدة التي كانت تحاوط تشارلي جعلته يفقد الشعور بانتماءه لأي شخص أو لأي مكان، كان غريبًا دائمًا عمن حوله، حتى تعرّف على “سام” و”باتريك” ومع الوقت وجد أنهم يشبهونه بشكل كبير.. في الذوق الموسيقى وفي أفكارهم وآرائهم، فأخذنا الفيلم في رحلة نرى فيها تلك الجدران التي كانت تحاوط تشارلي وتخنقه وهي تتساقط واحد تلو الآخر لتبدأ جروحه في الإلتئام فيشعر أنه ينتمي من جديد لتلك اللحظة المُحددة التي هي الحياة.
3- The Holiday
فيلم الرومانتيك كوميدي “العطلة” بطولة “كيت وينسلت”، “كاميرون دياز“، “جود لو“، و”جاك بلاك” الذي صدر عام 2006 للمخرجة “نانسي مايرز” ويدور حول فتاتين من بلاد مختلفة تستبدلان منزلهما خلال العطلة لكي تبتعد كل منهما عن علاقتها الغرامية التي فشلت للتو.
منذ بداية الفيلم نرى “أيريس” و”أماندا” وهما ضائعتان تمامًا داخل علاقاتهم، كل واحدة منهم عالقة في علاقة حب لا تناسبها ولا تستطيع من خلالها التعبير عن نفسها أكثر، وبعد فشل كل واحدة منها ورغبتهما في الابتعاد قدر الإمكان عن المكان يدخلان في مغامرة مختلفة تمامًا عن شكل حياتهم.
خلال أحداث الفيلم تنجح كل من “أيريس” و”أماندا” في إيجاد الحب والصُحبة، أيريس تنجح في التخلص من ذلك الرجل الذي طالما كانت واقعة في حبه بينما كان هو فقط يستغل ذلك الحب وتدرك أن ما تبحث عنه ليس مع هذا الشخص، بينما “أماندا” تجد الرجل الذي يتقبل اختلافها ويراه شيًا جميلًا.
رحلة الفتاتين في فيلم “العطلة” هي رحلة انتماء للنفس قبل أن تكون رحلة لإيجاد الحب، فكان على كلا منهما أن يشعران بالانتماء لنفسيهما قبل أن ينتميان للاخرين، أن يجدان نفسهما قبل أن يقعوا في الحب وتلك هي الرحلة الأصعب والتي تستلزم القوة الأكبر.
4- خرج ولم يعد
رابع فيلم تضمه هذه القائمة هو الفيلم المصري “خرج ولم يعد” للمخرج “محمد خان” الذي صدر عام 1984 من بطولة “يحيى الفخراني“، “فريد شوقي”، و”ليلى علوي” وهو ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية ويُعد واحد من أجمل الأفلام التي صورت الريف المصري.
يبدأ الفيلم ب “عطية” الشاب الذي يسكن منزل آيل للسقوط في أحدى حواري القاهرة الفقيرة وبسبب أزمة الإسكان يؤجل زواجه من خطيبته لمدة 7 سنوات، تلك الأزمة هي التي دفعته للذهاب إلى الريف ليبيع قطعة أرض ملك عائلته ليستطيع إيجاد شقة مناسبة.. ولكن تلك الزيارة القصيرة استحالت إلى مدة طويلة تعرّف فيها على جوانب من الريف لم يراها من قبل.
قد يمكن النظر إلى الفيلم على أنه رحلة للبطل يجد في نهايتها حب حياته متمثلًا في “خيرية”.. لكن مع نظرة أعمق للفيلم نجد أن عطية لم يجد الحب فقط، فقبل أن يجد الحب قد وجد نفسه هناك، في الريف، وجد شيئًا لم يكن يعلم أنه يبحث عنه.
في المشاهد الأولية للفيلم نجد عطية وهو يستعد للذهاب إلى عمله في الصباح، يأخذ خان لقطات واسعة من الأعلى يظهر فيها عطية وهو صغير الحجم وسط المنازل العالية من حوله كأنه في وسط متاهة يحاول الخروج منها، المدينة تبتلعه هذا ما نشعر به في الدقائق الأولى من الفيلم.. إنه غريبًا عن هذا المكان لا ينتمي إليه بأي شكل من الأشكال.
وعند بداية رحلة عطية داخل الريف، تلك الرحلة التي أثراها خان بالكثير من المعاني والطعام والمشاهد التي تتمتع بخفة ظل تبعث الابتسام على وجوه المشاهدين.. مشهد تلو الآخر نرى عطية وهو ينغمس داخل الريف أكتر، بعد حالة نفور شديدة يبدأ في اعتياد شكل الحياة.. ويأخذه الحب الذي عثر عليه بشكل مفاجىء من يديه ليريه الجمال الحقيقي للريف، ويريه جزء من نفسه لم يعلم بوجوده.
تتوسع كادرات الكاميرا لتضم عطية وهو ملتحم بداخل الريف وبجانيه خيرية ترى الريف من خلال عيون عطية وترى في عطية حبها الجديد.
ينتهي الفيلم بانتصار الريف على المدينة بعد صراع داخلي دار لدى عطية، ويبدأ حياته هناك مع خيرية وأسرتها.. فهو لم يجد فقط الحب هناك، لكنه وجد نفسه أيضًا وإلى أي أرض حقًا ينتمي.
5- It’s A Wonderful Life
فيلم “إنها حياة رائعة” من إخراج “فرانك كابرا” وبطولة “جيمس ستيورت” و”دونا ريد” صدر عام 1946 وهو أحد أجمل أفلام عيد الميلاد وقد حاز على جائزة الجولدن جلوب لأفضل مخرج.
الفيلم يدور حول “جورج بيلي” الرجل الذي يعاني من مشاكل عديدة في حياته مما يدفعه إلى الرغبة في إنهائها تمامًا، ويخطط للقفز من أعلى جسر في ليلة عيد الميلاد.. ولكن بدلًا من ذلك ينتهي به الأمر لينقذ ملاكه الحارس ويمر بتجربة رؤية العالم بدونه، كأنه لم يأتي أبدًا.
يبدأ الفيلم برسم مفصل عن حياة “جورج” سواء كانت العملية أو الزوجية وكيف تحاوطه المشاكل حتى دفعته إلى فقدان الأمل من كل ما حوله وشعوره بعدم انتماءه مرة أخرى لتلك الحياة.
تلك الرحلة القصيرة التي يخوضها “جورج” يرى فيها كيف أن كل شيء لم يعد كما كان قبل اختفائه، فهو لم يظن أن وجوده قد يكون بتلك الأهمية، أن انتمائه الشديد للحياة الذي فقده قد أثر على كل ما حوله.
كل الأبنية التي قامت شركته ببناءها لم تعد موجودة، وبالتالي تشرد كل من كان من المفترض أن يعيش فيها.
كما أنه وجد أن أخوه، الذي نراه ينقذه من الموت في بداية الفيلم، قد مات بالفعل من أثر تلك الحادثة لأنه لم يجد من ينقذه.
“الحياة رائعة” فيلم ينتهي برغبة البطل في العودة مرة أخرى للحياة ولعائلته وأصدقائه، وكيف يجد أن كل من يعرفه سعيد بعودته مرة أخرى ويساعده في حل مشاكله المالية التي كانت أطاحت بسعادته. إنه يعود مرة أخرى إلى المكان الذي ينتمي إليه وهو يثق تمامًا أنه لا يريد أي شيء آخر عداه.
6- Paris I Love You
الوضع في فيلم “باريس..أحبك” مختلف قليلًا عن الأفلام السابقة، فالفيلم الفرنسي الذي صدر عام 2006 للمخرج “ألفونسوا كوارون” يضم الكثير من الحكايات حول الكثير من الشخصيات. شخصيات تعيش حياة تعيسة وشخصيات أخرى تعيش أوقات سعيدة.. شخصيات تواجه تجارب جديدة عليها بينما شخصيات أخرى تدور في نفس الدائرة دون مخرج.
ولكن العامل المشترك بين كل أبطال الفيلم هي “باريس” المدينة التي تدور فيها كل أحداث الفيلم.. حيث يقع فيها الناس في الحب ويقعون خارج الحب، يجدون الأمان مرة مع من ينتمون إليهم، ومرة أخرى يتخلون عن ذلك الأمان بأيديهم.
هنا الكل ينتمي إلى باريس، هي بطلة القصة. في شوارعها وداخل منازلها تدور الحكايات كلها، وتتشابك معًا بشكل متناغم يليق بشاعرية مدينة الحب والفن.
7- Dead Poet Society
سأنهي هذه القائمة بأحد أكثر الأفلام رقة وخفة على الإطلاق.. فيلم “مجتمع الشعراء الأموات” الذي صدر عام 1989 من بطولة “روبن ويليامز“، “روبرت شين”، و”إيثان هوك” وتدور قصته حول “جون كيتينج” مُعلّم الإنجليزي الذي ينضم إلى مدرسة صارمة ويحاول إلى حريتهم وتمردهم ضد الحياة الرتيبة.
منذ بداية الفيلم وحتى آخره، نشاهد الشخصيات وهي تقع بالتدريج في حب الفن، الفن بكل أشكاله وصوره، ذلك الفن الذي يسمح لهم بالغوص داخل أغوار النفس البشرية ولمس تلك المناطق التي تجعلهم يدركون ما معنى أن تكون إنسانًا.
المعلم يأخذ طلابه ويفتح أعينهم على معنى الفن، ماهو الشعر.. كيف يكون المسرح.. لماذا السينما هي أكثر الفنون اكتمالًا، في
حضرة الفن يتلاشى كل شيء آخر ويصبح مجتمع الشعراء الأموات هو الشيء الوحيد الذي على قيد الحياة.
جميع الشخصيات تنتمي للفن بشكل أو بآخر، وأكثرهم “نيل” الشاب الذي يعشق التمثيل ومُجبر على الدخول لكلية الطب تحت رغبة والده، تلك الرغبة النابعة من رغبة أكبر وهي إنقاذ عائلته من الإفلاس التام.
نيل وجد نفسه في التمثيل، رغب فيه كمن يرغب من حبيبته الزواج به لآخر العمر.. وحارب أهله ليتمكن من تقديم آداء واحد فقط على مسرح المدرسة.
يمكن التساؤل هنا أيعقل أن يضحي الإنسان بحياته في سبيل لحظة واحدة يشعر فيها في أعماقه بانتمائه الشديد لشيء واحد فقط على الأقل؟ ذلك الانتماء الذي يبدد وحشية الحياة ويُكسبها لونًا ساطعًا ولو للحظة واحدة حتى وإن كانت تلك الحياة على وشك الإنتهاء، أو لنقل، حتى وإن كان يعلم من داخله أنه سيتخلص من تلك الحياة تمامًا، فقط، عندما تلمس قدميه تلك اللحظة ؟
يعرف “نيل” الإجابة على ذلك السؤال جيدًا، فالفيلم لا ينتهي قبل أن يمنحه شرف الوصول للحظة الوحيدة التي يستحقها حتى وإن كان كل ما يليها قد يكون غير منصفًا.. هو لا يعبء على الإطلاق.
نهلة احمد مصطفى - أراجيك