الحرب العُظمى: قصة الحرب العالمية الأولى
في شهر أكتوبر من عام 1918، تعرّض شابٌّ في الجبهة الغربية لِعمًى مُؤقّتٍ ونُقل على إثره إلى المستشفى. لأربع سنواتٍ حارقة، خدم هذا الشاب في الجيش الألماني رُفقة إحدى عشرة مليون جنديٍّ آخر.
لم يحسم المؤرخون بعد ما إذا كان هذا الشاب قد عمي بسبب قنابل الغاز أو بسبب نوبةٍ عصبية مُفاجئة، لكن الأمر الوحيد المؤكد هو أن تجربته في ساحات الوغى قد شكّلت بقية حياته، مثله مثل الملايين من الجنود الذين شاركوا في هذه الحرب العُظمى.
عُرفِت هذه الحرب بالحرب العالمية الأولى، الحدث الأساس الذي بُنِي فوق رُكامِه القرن العشرين بكامل عُنفه ودمويته، وعُرف هذا الشاب بــ أدولف هتلر.
مالذي حدث؟
اندلعت شرارة الحرب الأولى في البلقان، نتيجةً للنزاعات القومية والنزعات الإمبريالية الأوروبية، بدأت في يوليو 1914 وانتهت مع هدنة 11 نوفمبر 1918. قاتل الحُلفاء بقيادة الإمبراطورية الفرنسية والإمبراطورية البريطانية بالإضافة إلى الإمبراطورية الروسية بــ 48 مليون جندي، ضد 26 مليون جندي لدول المركز بقيادة الإمبراطورية الألمانية المتحالفة مع الإمبراطورية العثمانية الإسلامية والإمبراطورية النمساوية المجرية.
وانتهت الحربُ بانتصار الحُلفاء.
لقد كان صراعًا عسكريًّا عالميًّا حقيقيًّا، وصل إلى جميع أنحاء العالم تقريبا، ووصل أيضا إلى الجبهات الداخلية، فقد خِيض القتال في البيوت وفي غرف المعيشة، وفي الحقول والمصانع.
مُخلّفات مُرعبة لحربٍ عُظمى
على مدى أربع سنوات كاملة، خاض العالم أكبر حربٍ صناعيّةٍ آنذاك وانهار على إثرها. قُتل في هذا الصراع أكثر من 10 ملايين جندي، و6 ملايين مدني.
أُصيب أكثر من 20 مليون إنسان، جسديا وعقليا، مما جعلهم غير قادرين على عيش حياةٍ مدنية عادية بعد الحرب. إضافة إلى ذلك، سهّلت الحرب انتشار وباء الإنفلونزا الإسبانية؛ الذي أودى بحياة 50 مليون إنسانٍ على الأقل في عام 1918 – 1919.
ومن أجل ماذا؟
كان يُفترض بهذه الحرب أن تكون “الحرب التي ستُنهي كل الحروب”.. ولكنها لم تكن. لم يُنتج انتصار الحُلفاء في هذه الحرب عالمًا أفضل وأكثر أمانًا، فقد احتدم الصراع في الشرق الأوسط وفي المناطق المستعمرة الأخرى في شمال أفريقيا وجنوبها. بالنسبة للكثيرين؛ الحرب أبدًا لم تنتهي. في الواقع، بالنظر إلى حجم الدمار الذي خلّفته الحرب في جميع أنحاء أوروبا، ليس من الواضح من فاز على من، وفاز بِمَ.
المنتصر في هذه الحرب أو المنهزم، كلاهما خرج من حمام الدماء هذا مشلولًا اقتصاديا، وبعضهم خرج مشلولًا سياسيًّا أيضا. صحيحٌ أنه بالنسبة للبعض كانت هناك بعض المكاسب الهامشية هنا وهناك، ولكن كِلَا المُعسكران عانى من خسائر جسيمةٍ في الموارد وفي البنية التحتية، وكلاهما عانى من خسائر بشرية مُرعبة.
ومع ذلك، ربما كان هناك فائزٌ واحدٌ من هذا الصراع؛ الولايات المتحدة الأمريكية.
استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الأمريكية الحرب في بيع المواد الخام وفي إقراض الأموال للحلفاء بفوائد ربوية بالغة. ونتيجة لذلك، جمعت احتياطات الذهب التي عززت هيمنتها الاقتصادية على العالم بعد الحرب، في حين أن دولًا أخرى كانت تُعانى من كابوس التضخمية.
استفادت اليابان من النزاع كذلك، وإن كانت بدرجةٍ أقل من أميركا. فقد غذّى القتال في صف الحُلفاء عَسْكَرة البلاد وطموحاتها الإمبريالية التوسعية في آسيا.
ومن نتائج الحرب تفكك إمبراطورياتٍ كان لها دورٌ في المشهد العالمي دام قُرون، تفككت الإمبراطورية العُثمانية التي امتد حُكمها مشارق الأرض ومغاربها فشمل القارّات الثلاث، وانهارت الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية، إلى جانب الإمبراطورية الألمانية التي كانت قد تشكلت حديثًا. وبهذا، تحوّل المشهد السياسي في العالم إلى الأبد.
كما كان للحرب العالمية الأولى دورٌ في اندلاع الثورة الروسية التي غيرت مسار القرن العشرين.
ولم يكن “المنتصرون” في مأمنٍ من الاضطرابات. فقد واجهت فرنسا وبريطانيا تحدّياتٍ مختلفةٍ في مستعمراتها، المستعمرات التي جنّدت منها جُيوشًا مُجندلة. في أفريقيا والهند على سبيل المثال، طالب المُستعمَرون بالاستقلال أو الحكم الذاتي على الأقل، ومنهم من تمرّد بالقوة ضد السيد المستعمر.
عالمٌ جديدٌ بعد الحرب العُظمى
كان العالم الجديد الذي انبثق من هذا الصراع العالمي مليءٌ بالأمل، لكنه مُزِّق بالاضطرابات والثورات والصراعات العرقية.
سعى قادة العالم من خلال سلسلة من معاهدات السلام، وأبرزها معاهدة فرساي في يونيو 1919، إلى تحقيق السلام والأمن العالمي، كم عملوا على تأسيس مؤسسات دولية جديدة مثل عُصبة الأمم؛ والتي كان دورها منع حروبٍ مستقبلية، كالتي خرج منها العالم لتوه، من خلال حل النزاعات بالسياسة والدبلوماسية. لكن المعاهدة نصت أيضا على تجريد ألمانيا من السلاح، وطالبت بأن تعترف ألمانيا بمسؤوليتها في التسبب بالحرب، وطالبتها بتقديم تعويضاتٍ مالية جسيمة.
كما جلبت نهاية القتال المزيد من التحديات، فقد تم تسريح عشرات الملايين من الجنود، وصعُب على الدول تحمّل تداعيات ما بعد الحرب فانتشرت البطالة، كما انتشرت ظواهر العُنف المنزلي وتدهور الصحة العامة. وعلى سبيل المثال، عاد هتلر إلى ميونخ دون عائلة تؤويه، ودون عملٍ أو مكانٍ للإقامة. ومن أجل هذا كان يحتقر معاهدة فرساي بشدة، وادعى طوال حياته أن ألمانيا لم تُهزم في ساحة المعركة، بل طعنها في الظهر أعداءٌ من الداخل؛ هم اليهود، اليسار والجمهوريون.
ولكن لا ينبغى أن يُقال إن الحرب العالمية الأولى تسببت في الثانية، أو أن يُقال أنها جعلت هتلر الرجل الذي أصبح عليه في ما بعد. في الواقع، كانت ألمانيا تسير بشكل جيّدٍ في أواخر العشرينيات من القرن الماضي تحت حكم جمهورية فايمر، حتى أن هذه الفترة أُطلق عليها “العصر الذهبي لألمانيا”. كانت النزعة نحو السلم حاضرةً وبقوة، كما بدا أن لفرنسا، بريطانيا وبلجيكا مُستقبل آخر، مستقبل مختلف، مستقبل أفضل.
وفي عالم ما بين الحرب العُظمى والحرب العالمية الثانية، ظلّت تداعيات الصراع موجودةً في كل مكان.
تركت الإمبراطوريات القديمة فراغًا لدول جديدة مثل بولندا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا في أوروبا، كما تركت الإمبراطورية العثمانية مكانها لِتقسيمات سايكس بيكو، وسُرعان ما بدأ التنازع على حدود هذه الدُويلات الجديدة.
وحتى الانهيار المالي عام 1929 كان مرتبطًا جزئيا بالحرب العالمية الأولى، وذلك لأن مديونية الدول تراكمت زمن الصراع، وتزايدت بعد الصراع؛ فقد اضطرت الدول التي شاركت في الصراع للاقتراض من جديد لبناء ما هدّمته الحرب. وقد ساهم هذا في التضخم المالي وانعدام الأمن المالي، وهما عاملان أساسيان في انهيار 1929.
الحرب العالمية الأولى، أو بالأحرى نتائجها، بدت بلا نهاية.
وهذه النتائج كانت – بلا شك – من العوامل الأساسية التي أوجدت بعض الشروط التي أشعلت الصراع العالمي الثاني؛ كالسباق نحو التسلح، وظهور أنواع جديدة من الدبابات والطائرات والغواصات والأسلحة الكيماوية، والتي لعبت كلها دورا مهما في الحرب العالمية الثانية.
ولكن الحرب العالمية الثانية كانت لها أسبابها الجوهرية التي لا ترتبط بالضرورة بالحرب العالمية الأولى؛ مثل ظهور أيديولوجيات شمولية جديدة، الانفجار الإعلامي ومُعاداة السامية، وفشل عُصبة الأمم المتحدة في إِحلال الدبلوماسية مكان الصراع العسكري.
ومن المثير للاهتمام أن بعض المؤرخين يرَوْن أن الحربين العالميتين الأولى والثانية لا يمكن فصلهما، وأنها يُشكّلان في الواقع حربًا واحدة عُمرها ثلاثون عامًا.
آثار حربٍ ما زالت ظاهرة
وحتى يوم الناس هذا ما زالت تداعيات الحرب العالمية الأولى محسوسةً، ما زالت الأجيال تُشارك في الاحتفالات السنوية أو السياحة التذكارية حيث تزور العائلات التي تضرر أفرادُها من الحرب ساحات القتال السابقة.
الأرض، أيضا، لا تزال متأثرة بعمق؛ في بلجيكا وفرنسا، على سبيل المثال، لا تزال الألغام التي وُضِعت أيام الحرب تقتل الناس، وستظل موجودة لسنواتٍ قادمات. وفي أماكن أخرى، لا تزال الأرض مُلوّثةً كيميائيا من الحرب العالمية الأولى إلى درجة تجعل نمو أي نبتةٍ فيها أمرًا مستحيلا.
كما تعود الكثير من النزاعات الجيوسياسية في العصر الحديث إلى الحرب العالمية الأولى، الشرق الأوسط مثالٌ على هذا. وضعت القرارات التي اتُخذت أثناء الحرب وبعدها أساسًا للصراعات القائمة بسبب الحدود ومناطق التأثير في المنطقة.
لم تكن نهاية الحرب هي “النصر” كما ادّعى الحلفاء، لقد كانت الحرب مجرد حمام دماءٍ خسِر فيه الجميع. لكن كان على السياسيين والقادة العسكريين تبرير القتلى والتضحيات الهائلة التي طلبوها من شعوبهم. وإذا نظرنا إلى الوراء، فإن ما قد تقشعر له الأبدان غرابةً هو أن مواطني الدول المتحاربة دعموا الحرب، وبعضهم آثر التضحية حتى آخر نَفَس.
إن الحرب العالمية الأولى نُقطة تحول في التاريخ، لأنها أدّت إلى تحوّلٍ عميق في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تحوّلٌ يصعُب جدا العودة منه.
ولا تزال الدراسات التاريخية التي تضع الحرب العالمية الأولى موضوع البحث الأساسي واحدة من أكثر مجالات البحث التاريخي نشاطًا، وهذا بسبب ارتباطها ارتباطًا وثيقًا بالصراعات التي دارت في القرن العشرين والتي ما زالت تدور في عصرنا هذا.
إن محاولة فهم الحرب العالمية الأولى هو تمرينٌ لفهم عمق الالتزام البشري نحو العنف والتدمير على نطاق لم يسبق له مثيلٌ قبل عام 1914، كما أنها حدثٌ يُذكِّرنا بهشاشة السلام!