بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السباب خُلُق مكروه، نهى الإسلام عنه، وحذّر مرتكبه، واعتبره مدخلاً لتسلّط الشيطان على العلاقات الحسنة وتحويلها إلى عداوة؛ لأنّه ليس من القول الحسن، والله تعالى يقول: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً﴾ (الإسراء: 53).
من هنا، على الإنسان المؤمن أن يراقب لسانه، ويتوخّى حسن الخطاب مع الآخر، خصوصاً في الموارد التي يقلّ فيها الانتباه، أو يتهاون فيها بمراعاة حدود اللياقة، أو يستولي الغضب فيصبح الخطاب تراشقاً بالسفاهة وقولاً بذيئاً.
•مواقف ونماذج يكثر فيها السباب
يكثر السباب في مواقف، منها:
1- بين العامل وربّ العمل: خصوصاً إذا كان العامل جديداً، ولم يعتد على مصطلحات العمل وأسماء الأدوات، أو كان العامل صغيراً في السنّ، أو ضعيف الشخصيّة؛ فحينئذٍ يستسهل بعض أرباب العمل شتمه والانتقاص منه، وكذلك سبّه وتوهينه.
2- أثناء قيادة السيّارة: خصوصاً في حالات الازدحام، أو عند مخالفة لأولويّة مرور، أو التسرّع في فعل ما مرتبط بالقيادة؛ ففي مثل هذه الموارد يكثر السباب والشتم لمن ارتكب ذلك الخطأ.
3- خلال المحاورات والنقاشات الحادّة: خصوصاً مع اختلاف المتحاورين في الرؤية السياسيّة أو الانتماء الحزبيّ والفكريّ، فعند شعور أحد الطرفين بالضعف أو الجرح، يجعل السباب وسيلة للدفاع وقلب الطاولة على خصمه.
4- في الخلافات الزوجيّة: أو النقاش العائليّ الحادّ؛ إذ كلّما اشتدّ النزاع كثُر الخروج عن اللياقات الخطابيّة، ولذلك عندما تصل الأمور إلى حدّ الطلاق ولم يكن -الطلاق- على أساس التسريح بالإحسان، يصبح السباب والقول الذي لا يليق بسنوات العِشرة الجميلة هو القول الغالب.
5- في بعض الأنشطة الرياضيّة: كمباراة كرة القدم ونحوها من الأنشطة القائمة على تكامل الفريق في الفوز؛ ففي مثل ذلك تصبح الأعصاب متوتّرة، ويسهل انتقاص أو سبّ أيّ فرد من الفريق في حال قصّر أو أخطأ، وهذا السُّباب قد يكون من المدرّب، أو الجهة الراعية للفريق، أو من بقيّة أعضاء الفريق، وأحياناً قد يصدر عن الجمهور المشجِّع والمتابع.
6- في الأسواق: والأماكن التي يكثر فيها التنافس التجاريّ؛ ففي مثل هذه المواضع تصبح حساسيّة التاجر أشدّ تجاه منافسه، بل قد تتعدّى ذلك لتتحوّل إلى نوع من الغضب على الزبائن أنفسهم. وهذا يؤدّي إلى جعل السباب ذريعةً للتعبير عن الشعور بالغيظ والغضب.
7- حين يستولي الشعور بالمظلوميّة على صاحبه: مثلاً أثناء توزيع التركة والميراث، فهذا الشعور قد يتحوّل إلى نار تحرق مشاعر الأخوّة وروابط الدم والرحم؛ وبالتالي، يصبح السُّباب أبرز أسلحته، وقد يتعدّى الأمر ليسبّ مورثه ولو كان أباه أو أمّه.
8- عند انفعال بعض المربّين: كانفعال بعض المعلّمين على تلامذتهم، أو بعض الأهل على أولادهم، ومثله انفعال بعض المديرين على موظفيهم، ففي مثل هذه الموارد إذا كان المربّي أو القيّم لا يمتلك وازعاً قويّاً، فقد يكثر منه السُّباب والشتم.
9- التعرّض للرموز: ومنها التعرّض للشخصيّات القياديّة بسوء أو انتقاص؛ وذلك يولّد مزيداً من الإهانة والسُّباب من قبل مناصريهم.
10- خلافات الجيران والشركاء: المشاكل والخلافات التي قد تكون بين الجار وجاره، أو بين الصديق وصديقه، أو بين الشريك وشريكه الآخر، وكذلك المشاكل التي تحصل بين بلدة وأخرى، وبين عائلة وعائلة أخرى. وخطورة هذا النوع من المشاكل أنّه يولّد موجة عارمة من السُّباب والكراهيــــة، وقد يخرج السباب عن حدود ساحة الإشكال ليغزو وسائل التواصل الاجتماعيّ، ويتحوّل إلى حديث السهرات والجلسات؛ وهذا لا محالة يضاعف الإثم، ويزيد في مساحـــــة الفرقة والشقاق. والأخطر، عندما يتطوّر من الاعتداء اللفظيّ، إلى الاعتداء الجسديّ، وبعض تلك المشاكل الحادّة انتهت بجريمة.
•الأسباب
لا يخفى على المتأمّل في المواقف المتقدّمة كلِّها أنّ سبب الخروج عن دائرة القول الحسن ما يلي:
أ- الأسباب الفكريّة: من قبيل فقدان الحجّة والجواب، أو التعصّب للشخص والفكرة.
ب- الأسباب النفسيّة: كضعف الشخصيّة، الغضب، والحقد، والحسد الذي يتحوّل إلى سباب وشتائم تُجاه المحسود أو المحقود عليه؛ فعن أمير المؤمنين عليه السلام : "ما أضمر أحدٌ شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"(1).
ج- الأسباب الاجتماعيّة والاقتصاديّة: إنّ الضغط الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وارتفاع الأعباء الماليّة والمعيشيّة، مع قلّة فرص العمل وارتفاع الأسعار، كلّ ذلك قد يدفع بعض الناس إلى اعتماد لغة السُّباب كلغة يعبّر فيها عن سوء ما وصل إليه حاله.
د- ضعف الوازع الدينيّ: وهو ناشئٌ عن قلّة التديّن وعدم ممارسة الأخلاق أو الحرص عليها.
•كيف نعالج لساناً بذيئاً؟
1- نظريّاً: يبدأ علاج آفة السباب وبذاءة اللسان من التفكّر في قبح هذا السلوك وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة:
أ- على صعيد الدنيا
- السُباب يجرّ سباباً، ويعمّق الشرخ، ويباعد بين الأحبّة؛ لأنّ الشخص بسبابه الآخرين يحطّ من كرامتهم، ويتمادى في إذلالهم، والناس بطبيعتها تترفّع عن مصادقة من ينال من كرامتهم.
- أوّل من يتأذّى من السُباب هو الشاتم نفسه؛ لأنّه بسُبابه يختار العيش منعزلاً عن الطيّبين، الذين يهتمّون بصون كرامتهم من أن ينالها أذى وشتيمة.
- يُضيِّق رزقه بسُبابه؛ لأنّ سوء لسانه يصدّ عن معاملته إذا كان تاجراً، أو صاحب مهنة وحرفة؛ مضافاً إلى سوء السمعة التي يصنعها لنفسه ويكتبها بفحش لسانه.
- لا يستقيم الإيمان إلّا باللسان، فإنّ سلامة اللسان مقدّمة لصلاح الإيمان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيمَ قلبهُ، ولا يستقيم قلبهُ حتّى يستقيم لسانهُ، فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه، وهو نقيّ الرّاحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللِّسان من أعراضهم، فليفعل"(2).
ب- على صعيد الآخرة
- سبابه يُحرمه رفقة الصالحين والشهداء.
- يعرّضه إلى عذاب شديد، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "احفظ لسانك، وَيْحكَ وهل يَكُبُّ الناس على مناخرهم في النار إلّا حَصائِدُ ألسنتهم؟"(3)؛ فهذه الروايات صريحة في أنّ السباب يؤدّي بصاحبه إلى جهنّم إذا لم يتب ويتدارك ما بدر منه في الدنيا.
- يتعرّض لعذاب لآفات ونتائج أخرى، فقد تخرج من شخص تكون سبباً في سفك دمٍ، أو هتك عرض، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يعذِّب الله اللِّسان بعذاب لا يعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربِّ، عذَّبتني بعذاب لم تعذِّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدَّم الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام، وعزَّتي وجلالي، لأعذِّبنَّك بعذاب لا أعذِّب به شيئاً من جوارحك"(4)، والسباب مصداق لهذه الكلمة؛ لأنّها قد تصل إلى أهلها في لحظة غضبٍ وحميّة، فتولّد ما لا يحمد عقباه من النتائج.
2- عمليّاً: بعد الانطلاق ممّا تقدّم، يأتي دور السلوك العمليّ المتمثّل بالآتي:
- التروّي والتأمّل قبل الكلام؛ كي لا تخرج من المتكلّم كلمة سوء.
- تذكُّر -قبل الاستسلام لثورة الغضب- جميل اللحظات والساعات التي قضاها مع مَن يخاصمه ويجادله، ويستحضر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ (سورة البقرة: 237)، فعدم نسيان الفضل يصون الأهل والأقارب من التعدّي والتفريط في الحقوق.
- على ربّ العمل أن ينطلق من ضعف العامل وجهله ليكون ذلك سبباً لرحمته لا لتعذيبه بالسباب والشتيمة.
- أنّ يدرك أنّ زحمة السير، وضغوط الحياة، لا تبرّر للإنسان المؤمن أن يتخلّى عن قيمه وحسن حديثه، خصوصاً أنّ الضغوط تنال الجميع، وهموم الناس مشتركة.
- أن يبادر بالعفو والإحسان إذا تمَّ شتمه، لا أن يتجاوب مع ذلك، فإنّ السّاب غير معصوم عن الخطأ الذي لأجله سبّ الآخرين وأهانهم، وما أجمل قوله تعالى في هذا المجال: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34).
- أمّا في ما يتعلق بالرموز والشخصيّات، فإنّ التعرّض لها بغير النقاش البرهانيّ، والحجّة الواضحة، لا يزيد إلّا شرخاً وفرقة، ويجرّ الإهانة إلى الرموز المقدّسة والمحترمة، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم:
﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108). وقد رُوِيَ عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية قال: "كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون، فنهى الله عن سبِّ آلهتهم لكي لا يسبّ الكفّار إله المؤمنين"(5)، ونظير ذلك ما ورد أنّ من حقوق الأبوَين: "أن لا تستسبّهما؛ بأن تسبّ أبا غيرك وأمّه؛ فيسبّ أباك وأمّك"(6).
•هكذا أدّبنا عليّ عليه السلام
في الختام، لا بدّ للمؤمن من تطبيق قول أمير المؤمنين عليه السلام : "أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد"(7). ولكي نعينه يجب فهم تعاليمه والسير على طبقها، ومن تلك التعاليم ما صدر عنه في معركة صفّين عندما سمع بعض أصحابه يسبّ أهل الشام، فوقف ليصدح بين الجميع أنّ القيمة تبقى قيمةً في حالتَي الحرب والسِّلم، والكلمة الطيّبة ليس لها موسم، ولهذا أرسل لأصحابه: "كفّوا عمّا بلغني عنكم من الشتم والأذى، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألسنا مُحقّين؟ قال عليه السلام : بلى، قالوا: ومَنْ خالفنا مبطلين؟ قال عليه السلام : بلى، قالوا: فلِمَ منعتنا من شتمهم؟ فقال عليه السلام : كرهت أن تكونوا سبّابين"(8).
------------------------------------------------------------
1.نهج البلاغة، الشريف الرضيّ، ج4، ص7.
2.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج68، ص292.
3.(م.ن).
4.الكافي، الكليني، ج2، ص115.
5.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص255.
6.شرح أصول الكافي، المازندراني، ج1، ص267.
7.نهج البلاغة، (م.س)، من كلام له عليه السلام، (136).
8.المعيار والموازنة، الإسكافي، ص137.