مرّت على سدّة الحكم في المنطقة العربية، وتحديدًا في بلاد الشام، العديد من الدول والأمم، إلا أن القليل منها من أثرى بإنجازاته الفيض الفكري والحضاري والاجتماعي وحتى العسكري فيها. ومن المعروف أن منطقة بلاد الشام، المعروفة في وقتنا الحاضر عمومًا بسوريا، كانت تشكّل آنذاك منطقة نزاعٍ مستمرٍ بحدودها المُتاخمة للروم من جهةٍ والفرس من جهةٍ أخرى.

فكان لابُدّ من قبضة حكمٍ قويةٍ تستطيع المحافظة على أمن هذه المنطقة، وهذا ما تحقق في العصر الايوبي وبشكلٍ مُذهلٍ.
سنتطرّق إلى مُجريات الأحداث التاريخية في فترة حكم الأيوبيين لمنطقة سوريا، مستعرضين تفاصيلٍ ومقتطفاتٍ من أهم الإنجازات المدنية والعسكرية للعصر الأيوبي في تلك المنطقة.

نشأة الدولة الايوبية وامتدادها إلى سوريا
كانت النهضة الأولى التي شهدها العصر الايوبي على يد صلاح الدين الايوبي ، المؤسّس الأول لها، وذلك على إثر تصدّيه للغزو الصليبي (عام 1160م)، والذي اجتاح بلاد الشام بأكملها حتى وصل إلى قلب مصر حصن الدولة الفاطمية. وكانت دولة الفاطميين الحاكمة لمصر آنذاك في سنواتها الأخيرة، إذ وصل بها الضعف لدرجةٍ استطاع معها الصليبيون غزو نصف مصر والوصول إلى عاصمة دولتهم، القاهرة. وبعد نجاح صلاح الدين الايوبي في التصدي للصليبين ودحرهم عن أراضي مصر، أعلن إثر ذلك ( عام 1171م) انتهاء حكم الفاطميين في مصر وابتداء حكم الأيوبيين لها.


لتتالى بعدها انتصارات الدولة الايوبية على يد صلاح الدين، حيث استطاع مد نفوذ الدولة لتشمل مناطق واسعةً من بلاد الشام (1180م). إلا أن الصراع مع الصليبين استمرّ طيلة فترة حكم صلاح الدين ولا سيّما في مناطق سوريا وفلسطين، وبلغ ذلك الصراع أشدّه مع تمكّن الأيوبيين من تحرير بيت المقدس من قبضة الاحتلال الصليبي (عام 1187م) في معركة حطين المشهورة.


بلاد الشام قبيل العصر الايوبي
كان الشرق الأدنى الاسلامي قد قطع شوطًا طويلًا في مضمار التوحيد السياسي على مستوى الأمة الإسلامية في الشرق الأوسط، وتحديدًا في منطقة سوريا. وذلك بفضل الجهود الجهيدة التي بذلها عماد الدين الزنكي وابنه نور الدين محمود، المؤسّسين للدولة الزنكية (1127-1250) التي شملت في عهدهما منطقة العراق وبلاد الشام والجزيرة الفراتية.


وتنازعت في المنطقة آنذاك قوتان رئيسيّتان، إذا استثنينا الدولة الفاطمية، التي كانت في سنواتها الأخيرة. أما القوة الأولى فهي قوة المسلمين المتزايدة في سوريا بعد تحقيق وحدتهم على يد نور الدين محمود، والقوة الثانية تمثّلت بقوة ممكلة بيت المقدس الصليبية بزعامة عموري الأول.
ولقد استطاع الزنكييون تحقيق العديد من الانتصارات في منطقة بلاد الشام إلّا أنهم لم يتمكّنوا من التوغّل في مناطق الاحتلال الصليبي بسبب الامدادات المستمرّة من أوروبا الغربية.


عمّ في منطقة سوريا في عهد عماد الدين الزنكي وابنه نور الدين نوع من الاستقرار الاقتصادي بسبب الجهود الكبيرة التي بذلها الزنكييون في تدعيم أسس دولتهم في تلك المنطقة بالرغم من الحروب والمناوشات المستمرة من مختلف جهات الدولة.
إلا أنّه وبعد وفاة نور الدين ظهرت مشكلة تقسيم الدولة الواسعة للزنكيين بين ورثته، الأمر الذي هدد الوحدة الإسلامية في المنطقة. واتفق الأمراء في دمشق بعد مناقشاتٍ طويلةٍ على تنصيب ولده اسماعيل خلفًا له. إلا أن اسماعيل بسبب صغر سنّه كان قاصرًا عن إدارة أمور الدولة مما أدى إلى خلافاتٍ كثيرةٍ بين صفوف المسلمين، وانقسمت على إثر ذلك إلى ثلاث دويلاتٍ في موصل وودمشق وحلب. في حين ظلّت مصر تحت حكم صلاح الدين معزولةً عن بلاد الشام.


وصول الأيوبيين إلى الحكم في سوريا
على خلفيّة الخلافات والنزاعات التي قامت عقب وفاة نور الدين في بلاد الشام، بدأ صلاح الدين الأيوبي يعد العدّة للتدخل الفعلي لوضع حد لتلك المهزلة التي قامت في بلادٍ قائده نور الدين، الذي عيّنه خليفةً له على مصر قبل وفاته.
وبعد تمكّن صلاح الدين من ارساء قواعد الدولة الايوبية في مصر والتخلص من المتاعب الداخلية، عمد إلى بسط سلطانه على بلاد الشام في محاولة لتشكيل جبهةٍ مصريةٍ شاميةٍ إسلاميةٍ موّحدةٍ بُغية مواجهة خطر الصليبيين المتزايد.


وبعد دخول صلاح الدين لدمشق، وبالرغم من الترحيب الحار الذي قابله أهلها به، إلا أن جهات من الدولة الزنكية القديمة كانت معارضةً لقدومه، وتمثّلت هذه الجهة المُعارضة بالملك ناصر وسعد الدين أمراء حلب وسيف الدين غازي في الموصل. وبعد نزاعاتٍ ومعاركٍ كثيرةٍ، أبرزها المعركة التي دارت بين المتحالفين ضد صلاح الدين والقائد الأيوبي مدعومًا بإمدادات من أخيه العادل في مصر، مُني الزنكييون على إثرها بخسارةٍ فادحةٍ وتنازلو له بعدها عن حق الحكم في المنطقة وتمكّن بذلك من إرساء دعائم الدولة الايوبية في سوريا.


نهاية العصر الايوبي
كما هو معروفٌ فقد كانت الفترة الذهبية للعصر الأيوبي في خضمّ حكم صلاح الدين، ومع وفاته سنة 1193م بُعيد توقيع معاهدة الصلح مع الصليبيين على إثر الحملة الصليبية الثالثة، بدأت أركان الدولة الايوبية بالضعف والاضمحلال، ولكن وبالرّغم من ذلك برز في العصر الايوبي خلاف صلاح الدين مع العديد من القادة البارزين، كان منهم العادل سيف الدين الأيوبي، شقيق صلاح الدين، والذي حكم مصر بين العامين 1200-1218م وكان له دور بارز في المصالحات بين الولاة الأيوبيين في الشام ومصر، وساهم في توحيد الدولة الأيوبية بعد شتات أمرها إثر وفاة صلاح الدين، بالإضافة الى التصدي للحركات الانفصالية شمال الشام.
ولكن ومع وفاة الكامل ناصر الدين عام 1238م، الابن الأكبر للعادل سيف الدين، والذي حذا حذو أبيه في توحيد صفوف الأمة وجمع شتاتها، مع وفاته بدأت النزاعات والصراعات على الحكم تتوالى وتنهش في دعائم الدولة الأيوبية، لتأتي بعدها الضربة القاضية للعصر الأيوبي على يد المماليك على إثر مقتل الجنرال عز الدين أيبك المملوكي آخر القادة الأيوبيين في مصر توران شاه، مستوليًا على الحكم في مصر ومعلنًا بهذا الفعل انتهاء حكم الأيوبيين فيها وبداية العصر المملوكي عام 1250م