طرق مواجهة الحرب النفسية على الأمة الإسلامية

تعتبر الحرب النفسية عامل مهم في المنافسات والحروب ولذا تحرص الدول دومًا على كسبها وذلك من خلال إظهار قوتها العلمية و الاقتصادية و العسكرية ورفع معنويات رعاياها وحلفائها.. إلخ.
وللحرب النفسية أثر كبير على معنويات الناس لدرجة قد تؤدي لهزيمتهم ميدانيًا هزيمة تشتت شملهم وتفرق جماعتهم وتُذهب دولتهم، حتى أن الله تعالى لما وصف نفسيات المسلمين في المدينة حين أطبقت عليهم الأحزاب من كل حدب وصوب، قال:
” إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا “
نعم زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر من شدة الخوف والفزع وهذا دليل على مدى تردي حالة المسلمين النفسية حينها، حتى بات المسلمون يظنون بالله الظنونا، قال ابن جرير في تفسيره: ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك.
وقوله تعالى: “هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا ” دليل واضح جلي على حجم الخطر الذي أدى إلى هذا الفزع والرعب والذي زلزل قلوب المسلمين.
وبرز المنافقون وبدأوا بترويج الدعايات المغرضة وتثبيط المسلمين وتخذيلهم وبث روح الهزيمة بين المسلمين، وفي ذلك قال ربنا تعالى: “وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا “.
حتى استأذن بعض المسلمين النبي ليرجعوا إلى بيوتهم بدعوى أنها عورة مكشوفة للعدو ولا يوجد ما يحجبها، وفي هذا قال الله تعالى:” وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا”.
أثر تدخل القائد
وبينما الناس بين مؤمن ثابت ومسلم خائف ومنافق يثير الرعب في صفوف المسلمين ويخذلهم، تدخل القائد الحكيم محمد صلى الله عليه وسلم، في الأمر وبدأ برفع معنويات المسلمين، حتى أنه وبالرغم من الخوف الذي يحيطهم من كل جانب وحالتهم النفسية التي تردت إلى أبعد الحدود، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم بنصر يتلوه نصر يتلوه نصر حتى أنهم ليبلُغن أقصى درجات القوة والتمكين، وهكذا عالج عليه الصلاة والسلام نفسيات الناس ورفع معنوياتهم، وهيأهم للتحمل والصبر أكثر، وطمأنهم بأن صبرهم وتضحياتهم لن تذهب سدى، وذلك من خلال البشريات التي وعدهم بها في هذا الحديث وغيره كذلك، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ” أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ ، لاَ تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ ، قَالَ : فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَر، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا . ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا”.
مشاركة النبي صلى الله عيه وسلم في حفر الخندق
ومن الأمور التي عالج بها النبي صلى الله عليه وسلم نفسيات المسلمين ورفع بها معنوياتهم أنه بذل من الجهد وتحمل من المشقة أكثر ما تحملونه هم، وإن لهذا الفعل أثر عظيم في نفوس الناس عمومًا، فحين يرى الناس أن قيادتهم تعيش كما يعيشون وتعاني كما يعانون وتبذل من الجهد أكثر ما يبذلون وتضحي أكثر مما يضحون فإن عزائم الناس تشتد ومعنوياتهم ترتفع ونفسياتهم تصبح فولاذية لا تكسرها العواصف ولا تهزها الرياح، فهذا جابر رضي الله عنه يحدث عما لاقوه من عناء وشدة أثناء حفر الخندق فيقول: مشيرًا إلى أيام الخندق، “وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا”.
ولكنه لم ينس ذلك القائد المعطاء الذي سبقهم بالتضحية والفداء، فكان لذلك الأثر العظيم في الحفاظ على نفسيات المسلمين ورفع معنوياتهم وتثبيتهم حتى أخذ بأيديهم إلى النصر المؤزر والرفعة والسيادة، فقال واصفًا حال قائدهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا”.
ولقد بلغ منه صلى الله عليه وسلم الجوع مبلغًا عظيمًا يوم الخندق، حتى ربط على بطنه ليقاوم الجوع، قال أبو طلحة رضي الله عنه: “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين”.
رفع الروح المعنوية
حتى أنه صلى الله عليه وسلم وبالرغم من قلة ما في يده من زاد، إلا أنه كان يطمئنهم بالكلم الطيب والوعود المبشرة، فكانت كلماته تنزل على صدور المسلمين بردًا وسلاما، وهذا كان يشجعهم و يدفعهم للبذل و العطاء أكثر وأكثر، فعن أنس رضي الله عنه قال : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخرة.. فَاغْفِرْ للأنصار والمهاجرة” فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا.. عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
فكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ”.
وعلى ما سبق فإن القيادة التي تعيش مع شعبها في خندق واحد وبمعاناة واحدة وتقاسمه التضحيات، وتشاركه الأفراح والأحزان، وتجوع قبل أن يجوع، وتصبر قبل أن تطالبه بالصبر، فإنها حتمًا ستصنع شعبًا معطاءً أبيًا، يصبر على البلاء ويتحلى بالعطاء والوفاء، ولا يخاف أحدًا إلّا الله رب العالمين، وسيكون هو الشعب الذي قال فيه ربنا تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم