آسيا الوسطى: قصة الإسلام في بلاد ما وراء النهر – الجزء الأول
لا ينفك تاريخ الإسلام وحضارته الماجدة يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بتاريخ وحضارة بلاد وسط آسيا، التي سجلت دورها كمركز الثقل العلمي والثقافي في العالم الإسلامي بل والعالم كله فيما بين القرن الثالث إلى الخامس الهجري (أي التاسع إلى الحادي عشر ميلادي) حيث ازدانت بمرحلة ذهبية سطعت خلالها شمس علوم الحديث والرياضيات والفلك والجغرافيا وشتى أنواع العلوم الأخرى، لكن الازدهار أعقبه صراع وجود وهوية انشغلت فيه البلاد بمقاومة غزو الإمبراطوريات المجاورة كان من أبرزه الغزو الشيوعي الروسي الذي امتد لقرابة ثلاثة أرباع قرن اضطهد خلالها المسلمون أشد الاضطهاد وعرفت البلاد تغييرات جذرية لمحاولة اقتلاع الإسلام من قلوب أبنائه، إلا أن تاريخًا امتدت جذوره برسوخ في عمق حواضر الإسلام: بخارى وسمرقند وترمذ وطشقند وخوارزم وكابل ومرو لا يمكن إلا أن يكون جزءًا من مستقبل هذه الأمة الإسلامية.
أعلام الإسلام من وسط آسيا
وكيف لا يرتبط مستقبل الإسلام بأرض خرج منها كبار أئمة الإسلام كالإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري، الذي ولد في بخارى من أوزبكستان في عام 194هـ وتوفي في عام 256هـ، ليسجل اسمه كأول من سنّ الرحلة في طلب الحديث ودراسة علم الرجال وتحديد الضوابط لتعديلهم أو تجريحهم وتصنيف أصح كتاب بعد كتاب الله -سبحانه وتعالى-. وكما قال بعض الباحثين:
لو لم يخرج من بخارى وأوزبكستان إلا الإمام البخاري لكفاها فخرًا وشرفًا.
فكيف إذا جمعنا مع هذا الإمام الكبير، تلميذه الإمام الترمذي صاحب كتاب جامع الترمذي وهو من كتب الصحاح الستة.
وولد الترمذي في عام 209هـ وتوفي في عام 279هـ، وكان شيخًا ضريرًا من ترمذ بخراسان، وهي الآن طاجيكستان، كما خرج من نفس الأرض الإمام النسائي أحمد ابن شعيب الذي ولد في عام 215هـ، وتوفي في عام 303هـ، وهو صاحب كتاب المجتبى في الحديث من الكتب الستة، ليكتمل العقد الفريد لأئمة علم الحديث بالإمام مسلم من نيسابور في إيران وأبو داود من سجستان وابن ماجه من قزوين والإمام أحمد بن حنبل والإمام مالك بن أنس من بلاد العرب.
وكذلك برز أئمة العلوم الأخرى كالخوارزمي محمد بن موسى في العلوم الرياضية، وهو من خوارزم بتركستان (تركمانستان اليوم) ولد في عام 164هـ وتوفي في عام 232هـ، ويعد أول من وضع الأساس الأول لعلم الجبر وألف كتاب الجبر والمقابلة الذي تمت ترجمته إلى لغات مختلفة في العالم كأول مرجع في هذا الاختصاص الذي برع في فنونه.
وبرز في هذه البلاد أيضًا البيروني الذي ولد في بيرون قريبًا من كاث عاصمة خوارزم عام 362هـ (973م)، ووافته المنية في عام 440هـ (1048م) وكان رائدًا في الرياضيات والفلك والجغرافيا وعرف كأول من استعمل الأصفار لمقام الخانات.
كما برزت أسماء أخرى منها الرازي والجرجاني والفارابي وابن سينا وغيرهم ممن كان لهم تأثير هام على تطور العلم في أوروبا في القرون اللاحقة.
يضاف لهذا الرصيد العلمي رصيد عسكري جهادي مبهر، حيث عرف المسلمون في منطقة وسط آسيا ببسالتهم وفروسيتهم وبراعتهم في فنون القتال مع ما يحملونه من غيرة شديدة على الإسلام الذي دافعوا عنه عقودًا مديدة، قادة وجندًا، يذكر آثارها جيدًا المغول والصليبيون والروس ليس فقط في موطنهم بوسط آسيا بل امتدت أمجادهم إلى قلب العالم الإسلامي في عصر المماليك حيث كان أغلب حكام هذه الدولة من بلاد آسيا الوسطى فحكموا مصر والشام والحجاز.
وكان تاريخ ظهور طبقة المماليك في هذه المنطقة بين عام 133هـ (750م) وعام 648هـ (1250م) ولكنه لم يكن ظهورًا عابرًا بل تمكنوا في نهاية المطاف من قيادة دولة تحمل اسمهم استمرت لقرابة 3 قرون، حيث امتد ملكها منذ عام 648هـ إلى عام 929هـ (1250م – 1517م) بسطت خلالها نفوذها على مصر والشام والحجاز واليمن.
وبقيت أسماء المماليك كقطز وبيبرس وأقطاي وقلاوون وشجرة الدر وأيبك وقايتباي وطومانباي وبرقوق، وغيرها جزءًا لا يتجزأ من شخصيات التاريخ الإسلامي.
وفي الواقع اكتشف المسلمون مهارات إخوانهم القتالية في وسط آسيا منذ أيام الخلافتين الأموية والعباسية حيث احتوت جيوش الدولتين الإسلاميتين فِرقًا من جنود وسط آسيا، ويقول البَلاذُري عن عصر الخليفة المعتصم (218-227هـ): “والمعتصم بالله جُلُّ شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر، من الصُّغْد والفراغنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم ببابه، وغلب الإسلام على ما هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون مَن وراءَهم مِن الترك، ففتح مواضع لم يَصِلْ إليها أحد من قبله”.[1]
تعريف بمنطقة وسط آسيا
أطلق المسلمون العرب خلال الفتوحات في القرن الأول الهجري اسم “بلاد ما وراء النهر” على منطقة آسيا الوسطى، شرقي بحر الخزر “قزوين” ومعناها البلاد الواقعة خلف نهر جيحون (أموردريا)، وسيحون (سيردريا)، وهي منطقة شاسعة عظيمة الاتِّساع تبلغ مساحتها نحو 8 مليون كم مربع وتمتد بين الصين شرقًا وإيران وبحر قزوين غربًا، وما بين الهند وباكستان جنوبًا إلى غاية حدود سيبيريا وجبال الأورال شمالًا، وتشمل تركستان الشرقية وعاصمتها أرومتشي، وقيرغيزستان وعاصمتها بيشكيك، وأوزبكستان وعاصمتها طشقند، وكازاخستان وعاصمتها آستانة (نور سلطان)، وتركمانستان وعاصمتها عشق آباد، وطاجيكستان وعاصمتها دوشانبي وباكستان وعاصمتها إسلام أباد، وأفغانستان وعاصمتها كابول، بالإضافة إلى أذربيجان (وعاصمتها باكو) والتي يشملها إقليم القوقاز مع دولتين ذات استقلال ذاتي هما أرمينيا وجورجيا.
وتعتبر هذه المنطقة مركزًا إسلاميًا تاريخيًا ومعاصرًا هامًا حيث يقطنها ما يزيد عن 200 مليون نسمة من المسلمين السنة الأحناف [2]. ويزيد من أهمية هذه المنطقة إستراتيجيًا موقعها الجغرافي الذي يصل الصين بشرق آسيا وبحار الجنوب بالمنافذ والممرات المائية الهامة فضلًا عن الثروات الطبيعية التي تمتلكها ومكانتها الجيوسياسية بتاريخها وحاضرها ومستقبلها.
وقد كانت هذه المنطقة تُعرف في الماضي ببلاد تركستان الكبرى، ثم انقسمت إلى تركستان الشرقيَّة وتركستان الغربيَّة، حيث تخضع منطقة تركستان الشرقيَّة الآن للاحتلال الصيني الغاشم، والذي يُمَارِسُ مع سكانها كل أنواع التعذيب والقتل والتنكيل وما يدور في فلك الإبادة العرقية، بينما خاضت منطقة تركستان الغربية صراع وجود لا تزال فصوله تدور إلى الآن.
قبل الفتح الإسلامي
كان سكان آسيا الوسطى في جملتهم قبائل من الترك الرحل، يتحركون على طول المساحات الشاسعة، شغلهم الأساسي الرعي، بينهم الأتراك الغُزيّة والصُّغد والأوزبك والأتراك القفجاق، والأتراك البلغار، والأتراك الخزر، والتركمان.
وعن تاريخ هذه المنطقة كتب المستشرق والمؤرخ والباحث اللغوي الروسي الشهير فاسيلي فلاديمير بارتولد قائلًا: “من العسير أن نقطع بوجود مصنفات تاريخية في آسيا الوسطى قبل الفتح الإسلامي، وتشير كلمات الرحالة الصيني هيون تسانغ (في القرن السابع) إلى وجود أدب من هذا القبيل، غير أنه لم يصل إلى أيدينا منه حتى مجرد عناوين لمصنفات ناهيك عن شيء آخر.
وفي القرن الحادي عشر الميلادي قال البيروني (الآثار الباقية): “إن الغزاة العرب وفي مقدمتهم قتيبة بن مسلم الباهلي (في بداية القرن الثامن)، قد قضوا على طبقة الكهنوت في إيران وبلاد الصُّغد وخوارزم، أي: على حملة الثقافة المحلية كما قضوا أيضًا على مدوناتهم، ولكن المصادر المبكرة لا تذكر شيئًا عن هذا على الإطلاق، ويبدو ذلك بعيد الاحتمال أضف إلى هذا أن الروايات التي وصلتنا متعلقة بالفتح العربي لا تشير إلى وجود طبقة من الكهنوت كانت تعمل على إذكاء روح المقاومة الشعبية ضد الغزاة العرب وأغلب الظن أنه لم تظهر بآسيا الوسطى، شأنها في هذا شأن إيران إلى عهد الساسانيين، أية مرويات تاريخية بالمعنى الدقيق لهذا اللفظ، بل وجدت فقط مأثورات شعبية، تناقلها الخلف عن السلف ولم تلبث أن فقدت قيمتها حين دخل السكان المحليون في حظيرة الإسلام ثم طوتها يد النسيان دون أن يكون للغزاة في ذلك أدنى نصيب”.
وبهذا فإن بارتولد رد على البيروني وأكد على حقيقة أن المسلمين الفاتحين لم ينشروا الإسلام بقوة الإكراه بل بحكمة وبصيرة لاقت قبول السكان، وهو ما حدث بالفعل، كما لا يوجد مصادر لتاريخ وسط آسيا قبل الفتح الإسلامي، ويمكن القول إن تاريخها المسجل بدأ بفتح المسلمين لها وضمها لسلطان دولة الإسلام.
وبحسب أطلس تاريخ الإسلام (ص 231): “بسط المسلمون نفوذهم إلى جميع بلاد إيران من الحدود الشرقية للعراق إلى حوض السند وإلى فرغانة، وامتد إلى بلاد ما وراء النهر وإلى ما يليه شمالًا إلى بلاد الترك القرخانية في التركستان الصينية في حوض التاريم وبحيرة بلكاش، حيث المواطن الأولى للأتراك الغزية وهم أكبر وأكثر الأتراك أثرًا في تاريخ الإسلام.
فكان منهم الأوزبك والسلاجقة والعثمانيون ومعظم المماليك، وكان منهم الهياطلة أصحاب طخارستان، الذين دخلت بلادهم دولة الإسلام فدخلوا فيه، وكانت هضبة إيران قبل الإسلام قسمة بينهم وبين الإيرانيين فكانت تعرف باسم بلاد توران وإيران، وكان الإسلام هو الذي أزال الحواجز بين العنصرين كما وأن الإسلام هو الذي أدخلهم التاريخ وعالم الحضارة.
وأول دولة كانت لهم كانت دولة الغزنويين (القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي)، ويليهم في الأهمية الأوزبك الذين استقروا في بلاد ما وراء النهر، ثم الغوريون في جنوب شرق الهضبة وفي موضع أفغانستان اليوم.
ويلي الأتراك الغزية من جهة الغرب شمال تركستان منازل الأتراك القفجاق، ثم الترك الخزر شمالي البحر الأسود وفي جزيرة القرم ويليهم الأتراك البلغار جنوبي حوض نهر الطونة، وإلى شمالهم البشناق ثم الأتراك الإيغور (الأويراتية).
أما المغول فكانت منازلهم من حوض التاريم وبحيرة بلكاش إلى صحراء جوبي وصحراء منغوليا حتى سور الصين، وكانوا قطعانًا ضخمة تعيش في خيام من شعر الماعز، ويلي ذلك شرقًا شعوب الصين إلى المحيط الهادي.
وراحت هذه الشعوب التركية تدخل بلاد الإسلام وتتحضر ولكن جماعات المغول كانت تدفعها شرقًا وكانوا يعيشون في سلام حتى قيام دولة خوارزم شاه فاستثارت جنكيز خان فسار بالمغول غربًا وغزا بلاد الأتراك والإيرانيين والعرب وقضى على الخلافة العباسية في بغداد عام 656 هـ (1218م)”.
ولكن الغزو المغولي انعطف انعطافة أخرى بفضل الإسلام بعد أن أسلم قسم كبير من المغول وتحولت سمرقند في عهد تيمور لنك -حفيد جنكيز خان- لعاصمة لهم.
ويرجع الفضل للإسلام أيضًا في انتقال الأتراك والمغول من حياة البداوة إلى الحضر. وبفضل قوة هذا الدين وجاذبيته للشعوب انتشر الإسلام شرقًا في غرب الصين وفي الهند وفي آسيا الوسطى وروسيا وسيبيريا.
وبقي التتار وهم قبيلة من المغول، بدوًا لم يتحضر منهم إلا من دخل الإسلام وقد انتقلوا إلى الغرب وبلاد سيبيريا.
الفتوح الإسلامية في منطقة وسط آسيا
يرجع تاريخ دخول الإسلام لوسط آسيا لحركة الفتوحات منذ عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، إلى عهد الخليفة ذي النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ثم على يد القادة والفاتحين في صدر وزمان الدولة الأموية، ولم تدخل المنطقة بشكل كامل تحت حكم الإسلام إلا في عهد الفاتح الكبير قتيبة بن مسلم الباهلي، لتنطلق رحلة ازدهار الحضارة الإسلامية في وسط آسيا في مرحلتها الذهبية.
وقد وطأت حوافر خيل المسلمين الفاتحين وسط آسيا من أواخر القرن الأول إلى أوائل القرن السابع هجري. كجزء من خطة الفتح الإسلامى في المنطقة. ولم تكن فتوح تلك البلاد بالأمر الهين فقد كان على المسلمين تجاوز ميراث الدولة الساسانية، ولم تكن فارس آنذاك دولة ذات حدود ثابتة، بل كانت تتقلص وتتمدد بحسب قوة ملوكها، إلى أن انتهى نفوذها بعد أن حسمت الفتوحات الإسلامية مصير هذه الدولة.
وكان لافتًا بشدة توجيه دفة الفتوحات الإسلامية في عصر الصحابة نحو أذربيجان قبل المغرب والأندلس بنصف قرن، وكان ذلك بعد النجاح في فتح العراق وفارس حيث سطرت أمجاد البويب والجسر والسقاطية والقادسية العظيمة ثم نهاوند فتح الفتوح، على يد الصحابة خالد بن الوليد وأبو عبيد الثقفي والمثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم-، وتوجت هذه الإنجازات الكبرى بتأسيس قواعد جديدة للفتوحات، كان أبرزها قاعدتين عسكريتين في ولايتي الكوفة والبصرة، يتركز دور قاعدة الكوفة في فتوح الشمال وهو الشمال الغربي لإيران وأرمينيا وأذربيجان، مع بعض المساعدات لعمليات قاعدة البصرة، بينما تركز دور البصرة على فتوح الشرق بما فيها كرمان ومكران وسجستان والشمال الشرقي بما فيه خراسان وبلاد ما وراء النهر.
وكانت أذربيجان حينذاك تشمل جمهورية أذربيجان الحالية ومحافظات أذربيجان في شمال إيران وجمهورية أرمينية ومناطق أقصى شرق تركيا حتى بحيرة فان.
ويعود السر في تركيز اهتمام المسلمين الفاتحين على هذه المناطق الشاسعة، لكونها أصبحت إحدى قلاع الديانة الزرادشتية الرئيسة، ويتواجد بها مسقط رأس زرادشت، وتحوي عددًا كبيرًا من معابد الفرس المقدسة، فشكلت مأوى لمعظم الفرس والأذر والأرمن الفارين من وجه الجيوش الإسلامية بعد هزائمهم في العراق وفارس.
فقضت الحنكة العسكرية للفاتحين آنذاك بتطهير هذه المنطقة وضمها لسلطان المسلمين لمنع أي هجمات معاكسة ضد قوات المسلمين المتمركزة في الجنوب.
معركة واج روذ
وسجلت هذه الحقبة أحد أهم معارك المسلمين في المنطقة وهي معركة “واج روذ” حيث تواجهت جنود المسلمين بقيادة نعيم بن مقرن مع جنود حاكم أذربيجان إسفنديار في منطقة واج روذ السهلية والتي تقع بين همذان والدينور.
ويقول المؤرخ الطبري في ذلك: “وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالًا شديدًا، وكانت وقعة عظيمة تعدِل نهاوند، ولم تكن دونها، وقُتل من القوم مقتلة عظيمة لا يُحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار، وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتم بحربها، وتوقّع ما يأتيه عنهم، فلم يفجَأه إلا البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة، فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير، فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البُشرى بالفتح والنصر، وأخبره الخبر، فحمد اللَّه، وأمر بالكتاب فقُرئ على الناس، فحمدوا اللَّه”.
وشكلت هذه المعركة نقطة الانعطاف نحو بلاد ما وراء النهر وفتوحات آسيا والشمال.
فتح أذربيجان
وبعد النصر العظيم في معركة واج روذ طوّق المسلمون الفاتحون أقاليم أذربيجان عبر جبهتين فوقعت بين فكي كماشة، الأول بجيش تحت قيادة بكير بن عبد الله والذي عبر جنوب أذربيجان، وطهرها من جيوب المقاومة الفارسية رغم شراستها، أما الجيش الثاني فكان قادمًا من الجبهة الشامية بقيادة عتبة بن فرقد، وهو صحابي جليل استطاع وجيشه التوغل في القرى والمدن الجنوبية الغربية لأذربيجان، وهزيمة جيش إسفنديار، ووصل المسلمون إلى منطقة قريبة من العاصمة أردبيل.
حيث وقعت فيها معركة شرسة، انتهت بانتصار المسلمين الذين أطلقوا سراح مرزبان [3] أذربيجان، وكان أحد كبار الزعماء الذين سجنهم إسفنديار، وعقدوا معه اتفاق صلح على الطاعة والجزية والأمان، وكان مما جاء في نص الأمان لأهل أذربيجان، وهي الوثيقة التي لا تزال محفوظة في متحف التاريخ في مدينة باكو عاصمة أذربيجان:
“بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أهل أذربيجان -سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها- كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يومًا وليلة ودلالته ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه وكتب جندب، وشهد بكير بْن عبد اللَّه الليثي وسماك بْن خرشة الأنصاري وكتب في سنة ثمان عشرة …”.
وقد حاول المرزبان لاحقًا عند انشغال المسلمين بالتوغل في مناطق وسط آسيا التمرد والعصيان المسلح، فعاجله الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بإرسال حذيفة بن اليمان على رأس جيش سحق تمرد المرزبان قبل استفحاله، ودفعت أذربيجان الجزية السنوية.
ثم تكفل الصحابي سُراقة بن عمرو مع جيش العراق بقيادة عبد الرحمن بن ربيعة، بتأمين السيطرة على المناطق المحيطة بأردبيل، ثم مدينة باب الأبواب إحدى المدن الرئيسية التي تسيطر على الطريق المؤدي إلى أردبيل في دولة داغستان بالقوقاز اليوم، فطلب حاكمها شهربراز الأمان، وتعاون مع المسلمين فكان جزاءه الإعفاء من الجزية. وذلك في شهور سنة 22هـ/642م.
وفي عصر خلافته أصدر الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قرارًا بتعيين الأشعث بن قيس الكندي واليًا على أذربيجان بعد نجاحه في ضبط السيطرة على البلاد واستتباب الأمن والاستقرار.
واستمر الأشعث بن قيس الكندي واليًا على أذربيجان في عصر الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (35-40هـ/656-661م) وبفضل همته المبهرة تحولت أذربيجان لمركز حضاري علمي، استنار بتعليم القرآن الكريم والعربية والعلوم الإسلامية الأخرى، وساعد في هذه النهضة نزوح عدد كبير من عرب البصرة والكوفة إلى أذربيجان.
وازدهرت أذربيجان أكثر في عصر الأمويين وارتفع العمران الإسلامي والذي بقيت آثاره إلى اليوم.
استمرار الفتوحات
وفتحت المناطق تلو المناطق صلحًا في وسط آسيا، ومنذ تولى عبد الله بن عامر بن كريز ولاية البصرة عام 29هـ، إبان خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فتحت جميع خراسان فتحًا إلى غاية نهر المرغاب الذي كان الحد الفاصل بين الإيرانيين والترك، ثم عبر المسلمون نهر المرغاب والتقوا بالترك، وكانت مراكزهم في الجوزجان، والفارياب والطالقان والصغانيان.
وفي عام 53هـ (673م) عُيّن عبيد الله بن زياد بن أبيه واليًا على الكوفة والبصرة معًا، فعبر بجيوشه نهر جيحون عام 54هـ (674) م، وغزا بيكندا وبخارى من بلاد الصغد، وقبل منهم الجزية وعاد إلى البصرة. وخلفه على ولاية خراسان سعيد بن عثمان بن عفان في عام 55هـ فقاد حملة كبيرة داخل بلاد الصغد واجتاز باب الحديد وفتح ترمذ وكانت مدينة حصينة على نهر جيحون فسيطر على الطريق الرئيس من خراسان إلى ما وراء النهر.
وفي عهد يزيد بن معاوية أقام سالم بن زياد واليًا على خراسان وسجستان 61هـ (681م)، ففتح بخارى وسمرقند، ثم تعطلت الفتوحات بسبب الأزمة الداخلية التي عرفها المسلمون بين الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- والأمويين لكن الفتوحات ما لبثت أن انطلقت من جديد في عهد عبد الملك بن مروان وابنه الوليد بن عبد الملك حيث اعتمد الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق على المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقتيبة بن مسلم الباهلي ومحمد بن القاسم الثقفي، فكان المهلب عاملًا للحجاج على خراسان عام 78هـ – 697م عرفت خلال ولايته الفتوحات الواسعة فيما وراء النهر، وقاد حملة سيطر بها على مدينة كش في إقليم الصغد، وفتح ابنه يزيد قلعة نيزك بإقليم بادغيس، واضطر ملك الختل إلى دفع الجزية، واستمر المهلب فاتحًا حتى فتح خوارزم ثم وافته المنية في عام 82ه (701م).
ومما يجدر ذكره في هذا المقام تلك العبقرية التي تميزت بها خطط الفتوحات الإسلامية والتي كانت تمضي بانتظام عجيب وتتخلص من العقبات ببصيرة فذة، وكان من مشاهد هذه العبقرية التي مكنت المسلمين من فتح بلاد وسط آسيا، معركة طلاس في 751 بين الخلافة العباسية وأسرة تانغ الصينية والتي أجهضت مشروع سيطرة الصينيين على بلاد ما وراء النهر، وشكلت نقطة تحول في التغير الشامل للإسلام في المنطقة.
الفاتح الكبير واستراتيجية الأربع مراحل
التراث الإسلامي في مدينة بخارى.
وفي عام 86هـ (705م)، ولي قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان حتى عام 99هـ (717م)، فوضع خطة ذكية لفتوحاته في المنطقة، ارتكزت على 4 مراحل ينشط فيها خلال الربيع والصيف ويكنّ خلال الخريف والشتاء فكانت ثمار اجتهاده في المرحلة الأولى فتح طخارستان السفلى وهي أفغانستان اليوم وذلك في عام 86هـ (705م) ثم قاد في المرحلة الثانية حملة كبيرة على بخارى فأتم فتح بيكمد ثم تومشكت وراميثه من نواحي بخارى وأخيرًا جميع إقليم بخارى بشكل كامل في عام 87هـ – 90هـ (706- 708م).
وفي المرحلة الثالثة فتح وادي جيحون كله (نهر أموداريا) في عام 91هـ (709م)، وجميع سجتسان في العام التالي 92هـ (710م)، ثم إقليم خوارزم في عام 93هـ (711م)، وتحولت سمرقند إلى سلطان الإسلام.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة ففتح حوض نهر سيحون (سرداريا) بما فيه من مدن إلى نهاية فرغانة وذلك من 94 إلى 96هـ (712 إلى 714م)، ثم دخل أرض الصين في عام 96هـ عبر مقاطعة سنكيانج، وأصبحت كاشغر قاعدة إسلامية وآخر نقطة وصلت لها جيوش المسلمين الفاتحة شرقًا.
ولا شك أن شخصية قتيبة القيادية المزدانة بهمة مبهرة، وفضائل ومزايا متفردة جذبت لها الأتراك فأصبح محط ثقتهم واهتمامهم، وتجاوب معه السكان بقبول ورضى، وليس أدلُّ على ذلك من ترحيب أهل بلخ به وأيضًا دخول عدد كبير من أهل بخارى في الإسلام عن إيمان بعد أن انتصر على ملكتهم (خاتون)، وبقي صدى كلماته يتردد حين قال لخاتون أثناء عقد الصلح معها بأن المسلمين لم يأتوا لاحتلال “بُخَارَى”، وإنما أَتَوْا لنشر شريعة الإسلام، وتبليغ دين الله -تعالى-.
وكانت سياسة الفاتحين مع من أسلم المعاملة بحق الأخوة، وأما من لم يسلم فوجبت عليه الجزية وله حقوقها، فأقبلت رؤوس الأتراك في هذه المناطق على الإسلام نتيجة المعاملة الحسنة للمسلمين الفاتحين وعدالتهم. وعاش الناس في استقرار وأمان تحت حكم الشريعة الإسلامية، بعد أن زالت الأديان الشركية والوثنية السابقة. وبنى أول مسجد في بخارى عام 94هـ في عصر قتيبة بن مسلم، وتعد منارته من أهم الآثار الإسلامية حتى الآن.
دور التجار المسلمين
هناك جانب قلما تسلط الأقلام الضوء عليه مع حركة الفتوحات ألا وهو حركة التجار المسلمين الذين يمثلون القوة الاقتصادية للدولة الإسلامية آنذاك، والقوة الدعوية الناعمة التي كانت تخترق الشعوب بسلاسة وتحقق نتائج مبهرة في نشر رسالة الإسلام بحسن صنيع حامليها.
وهذا ما يفسر كيف بلغ الإسلام آفاق الدنيا بفضل حركة التجار المسلمين والدعاة المسابقين الذين لم تخمد همتهم أمام المسافات البعيدة ولا عقبات الأسفار ولا وسائل النقل البطيئة ولا مخاطر المضي في سبيل مجهول في البحار والصحاري والجبال والوديان والغابات والتضاريس الوعرة.
وقد لعب طريق الحرير دورًا مهمًا في نشر الإسلام في وسط آسيا، حيث كان هذا الطريق يربط بين حضارتين: الصينية في الشرق والرومانية في الغرب. فكان ينتقل مع الحرير والصوف والذهب والفضة وأنواع البضائع، العقائد والأفكار. وكان طريق الحرير يبدأ من شيان في الصين ثم يمتد غربًا مسافة 6400 كم فيبدأ من شيان إلى لانشو ثم وووي ويساير سور الصين العظيم مسافة ويتجه إلى دونهانغ ثم يعبر صحراء تكلا مكان ويصعد مرتفعات البامير ويعبر أفغانستان إلى الشرق الأدنى.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الأتراك الغزية والقرلوق والكومان، قد اعتنقوا الإسلام منذ النصف الثاني من القرن الرابع هجري (10م) على أيدي التجار والدعاة والصوفية.
وانتشر الإسلام في حوض الفولغا، عن طريق التجارة، ثم عن طريق الدعوة، وعن طريقهم أسلم جماعة من البلغار، فطلبوا من الخليفة العباسي في بغداد أن يرسل إليهم من يفقههم في الدين. وبالفعل أرسل إليهم الخليفة العباسي المقتدر قائده أحمد بن عباس المعروف بابن فضلان.
وأسلم البلغار على يد التتار، بعد أن أسلم أميرها بركة خان فأصبح حوض الفولغا كله إسلاميًا لكنهم لم يستطيعوا جذب الروس إلى الإسلام بسبب تخوف هؤلاء من تحريم الخمر وأيضًا بسبب سطوة دعاة القسطنطينية الذين تمكنوا منهم.
وبعد رحلة الفتوحات استقرت السلطة للمسلمين حتى حوض السند جنوبًا وفرغانة شمالًا وإلى ما وراء النهر وحتى بلاد الترك القرخانية، في التركستان الصينية بما فيها حوض نهر التاريم وبحيرة بلكاش، وهذه البلاد هي المواطن الأولى للأتراك الغزية ومن بعدهم كانت منازل المغول من حوض التاريم وبلكاش وتمتد شرقًا حتى سور الصين وذلك إلى أن تمكن جنكيز خان من اجتيازه وغزو الصين.
الدول الإسلامية في وسط آسيا
الدولة السامانية
بقيت مناطق وسط آسيا بعد الفتوحات تابعة لسلطان المسلمين في عهد الدولة الأموية ثم العباسية. وتحت السلطان العباسي قامت أول دولة إسلامية في المنطقة هي الدولة السامانية، (261هـ ـ389ه) (874م- 999م) وامتد ملكها في خراسان وبلاد ما وراء النهر على أنقاض الدولة الصفارية.
ويرجع أصل السامانيين إلى إحدى الأسر الفارسية العريقة التي كانت تدين بالديانة الزرادشتية، ثم أسلم جدهم سامان في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، واستقل السامانيون بحكم إقليم ما وراء النهر وحكموه باسم الخلافة العباسية مباشرة. وعرفت خلالها بخارى وسمرقند وبلاد الصُّغد، والصغانيان، وبلاد ما وراء النهر حركة عمرانية باهرة، عمرت فيها المساجد وبنيت فيها الآثار الإسلامية الراقية كما نشطت قطاعات التجارة والاقتصاد واستقوت البلاد بنهضة لافتة حيث تمثل فترة حكمهم العصر الذهبي لتاريخ آسيا الوسطى الإسلامية وذلك قبل قيام الدولة الغزنوية.
ثم انتظمت إدارة البلاد في خانيات مثل بخارى وسمرقند وخيوة في بلاد خوازم، والتي كانت آنذاك أكبر تلك الخانيات نظرًا لقوة الأوزبك. وكان ملك كل خانية يسمى الخان.
الدولة الغزنوية
صورة تعبيرية لمحمود بن سبكتكين الغزنوي.
ثم قامت دولة الغزنوين ما بين (367 – 545هـ) (977 – 1156م)، والتي أخذت اسمها من عاصمتهم غزنة (في أراضي أفغانستان الآن) فسيطر الغزنويون على جميع أراضي الدولة السامانية التي كانت تحكم خراسان وبلاد ما وراء النهر، كما ضموا إليها جميع أراضي البويهين قبل ذلك، فحكموا خراسان وأغلب أراضي إيران الحالية وباكستان والشمال الهندي وجميع أراضي ما وراء النهر قرابة قرنين من الزمان.
وورد في “تاريخ ابن خلدون” المجلد الرابع: “هذه الدولة من فروع دولة بني سامان وناشئة عنها. وبلغت من الاستطالة والعزّ المبالغ العظيمة، واستولت على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون وما وراء النهر وخراسان وعراق العجم وبلاد الترك، وزيادة بلاد الهند”.
وكان مبدأ أمرهم من غزنة، حيث ظهرت بوادر قيام هذه الدولة عندما وصل القائد التركي البتكين إلى منصب حاجب الحجاب في الدولة السامانية، ومن ثم ارتفع شأنه وازداد نفوذه، فاستولى على غزنة التي كانت تابعة للسامانيين وأقام بها إمارة مستقلة. وبعد وفاة البتكين في سنة 352هـ (963م) خلفه في حكم إمارة غزنة ابنه أبو إسحاق إبراهيم، ثم توفي ولم يكن له ذرية تخلفه، فحكمها بلكاتكين أحد مماليكه سنة 359هـ (969م)، ولكن أهل غزنة خلعوه وعينوا بدله محمود بن سبكتكين الغزنوي وهو من الترك لما عرفوه من عقله ودينه وصرامته، وكان سبكتكين أحد موالي البتكين، استلم الحكم سنة 366هـ (976م).
وترجع المصادر التاريخية تأسيس الدولة الغزنوية إلى محمود بن سبكتكين الغزنوي وذلك بعد أن أسقط الدولة السامانية في عام 389هـ (999م)، ورفع راية الإسلام في كل مكان حكمه ثم اتجه شرقًا فأخضع الأتراك الغزية في منطقة بخارى لسلطانه عام 420هـ (1029م). واستطاع سبكتكين بحسن سياسته وهمته كسب محبة الرعية وأمراء البلاد المجاورة، فحاز على اعتراف الخليفة العباسي بدولته فأصبح سبكتكين المؤسس الحقيقي للدولة الغزنوية، وعلى الرغم من استقلاله الفعلي إلا أنه ظل يظهر الولاء للسامانيين، ويشن الحروب ويفتح البلاد باسمهم، وامتطى جواد همته فأخذ يوسع ممتلكاته ويوسع من نفوذ دولته حتى امتد سلطانه إلى ناحية الهند وسيطر على الكثير من المعاقل والحصون هناك، وبعد ملك دام عشرين سنة تقريبًا توفي سبكتكين في سنة 387هـ ( 997م). وكان قد قضى فترة ملكه الأولى في تثبيت أركان دولته وتوسيع رقعتها، ونشر الإسلام في الأراضي الجديدة التي كان يفتحها، فعظمت هيبة دولته.
وخلفه سلاطين تولوا حكم الدولة الغزنوية، ولكن تناحرهم فيما بينهم أضعفهم وجعل البلاد التي فتحوها تتمرد عليهم، وطمع فيهم من حولهم، فأخذت عوامل الانحلال والضعف تنال من الدولة حتى أنهكت قواها، وسقطت في سنة 555هـ (1160م) وورث سلطانهم السلاجقة في خراسان فأقاموا على أنقاض الدولة الغزنوية الدولة السلجوقية، والغوريون في الهند حيث أقاموا على أنقاضها الدولة الغورية.
الدولة السلجوقية
وسقطت الدولة الغزنوية أمام السلاجقة الأتراك على أثر هزيمة السلطان مسعود الغزنوي أمامهم قريبًا من مرو (432هـ) 1040م. واعترف الخليفة العباسي بقيام دولة السلاجقة في نفس العام، مما أضفى الشرعية على دولتهم الجديدة، واستطاعوا توسيع حدود مملكتهم بسرعة هائلة، وأخذوا في التوسع على حساب القوى الإسلامية المحيطة، وكذلك على حساب الدولة البيزنطية التي بدأ الضعف ينخر في هيكلها، وسيطرت دولة السلاجقة على مساحات واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينيا وآسيا الصغرى.
وازدادت شوكة الدولة ولعبت دورًا مهمًا في توجيه سير الأحداث، لتصبح من أهم الدول التي ظهرت على مسرح التاريخ الإسلامي. في وقت كان العالم الإسلامي تتنازعه الخلافة العباسية السنية في بغداد، والدولة الفاطمية الشيعية في مصر والشام، والدولة الأموية في قرطبة بالأندلس وكانت جميعها تعيش مرحلة اضطراب واحتقان.
ويجدر الذكر أن أحد أبرز قادة الدولة السلجوقية عبر التاريخ هو السلطان ألب أرسلان وعمه طغرل بك مؤسس الدولة السلجوقية، حيث كان ألب أرسلان بطلًا قويًا ذكيًا، يتلهف للجهاد في سبيل الله ونشر دعوة الإسلام، فغيَّر كثيرًا من سياسة دولة السلاجقة في آسيا الصغرى، وكان سببًا في توسع ملك دولته بعد الانتصارات المبهرة التي سطرها ضد أعدائه في الداخل والخارج، على رأسها هزيمته الساحقة للدولة البيزنطية في معركة ملاذكرد الشهيرة في عام 463هـ (1071م)، بجيش قوامه عشرون ألفًا فقط مقابل الجيش البيزنطي المكوَّن من أكثر من مائتي ألف جندي بقيادة رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية، وقد سحق ألب أرسلان وجيشه الصغير، الجيش البيزنطي الكبير في هذه المعركة، وقُتل منه عشرات الآلاف، وأسر رومانوس الرابع نفسه، وتمَّ فداؤه بألف ألف دينار.
وسجل التاريخ معركة ملاذ كرد كواحدة من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين، بل كانت نقطة تحول في التاريخ الإسلامي بصفة عامة، ولكن السلطان ألب أرسلان قُتل في أحد معاركه على يد أحد الثائرين بعد عام وبضعة أشهر من هذا الفوز الكبير، وذلك في عام 465هـ (1072م)، بعد أن قاد في التاريخ زمام أهم عصر من عصور الدولة السلجوقية قوة وثقلًا في خريطة العالم.
وفي ظل تلك الظروف ازداد إقبال القبائل على الإسلام وتمسكوا به، ودخلت في دين الله قبائل تمتد مساكنها حتى البحر الأبيض الشمالي، وعن طريقهم أيضًا وصل الإسلام إلى فنلندا.
واستمرت الدولة السلجوقية في صعودها ولكن على الرغم من قوتها العظيمة التي وصلت إليها إلا أنها في عهد السلطان ملكشاه انفرط عقدها وتمزقت ووحدتها بموته في عام 485هـ (1092م)، وانتهت أمجادها لتدخل مرحلة الضعف بسبب النزاعات والصراعات الداخلية بين أبناء البيت السلجوقي، الذين ثارت بينهم الحروب الداخلية على حساب وحدة البلاد وقوتها.
فانقسمت دولة السلاجقة إلى عدة دول وإمارات صغيرة انتهت على أيدي جحافل المغول القادمين من الشرق وتوالت هزائم السلاجقة أمام المغول.
وفي عام 646هـ قسّم المغول دولة سلاجقة الروم بين الأخوين عز الدين كيكاؤس الثاني فأخذ “قونية واقسراي وأنقرة وأنطاكية وباقي الولايات الغربية”. ولأخيه ركن الدين قلج أرسلان الرابع “قيسارية وسيواس وملطية وارزنكان وأرض الروم وغيرها من الولايات الشرقية”. وبقي لأخيهما الصغير علاء الدين كيقباذ الثاني “من الأملاك الخاصة ما يكفيه”.
ومع تآكل سلطان الدولة السلجوقية وضعوا أنفسهم رسميًا تحت حكم دولة المغول الإيلخانية سنة 678هـ، فجعلها المغول ولاية خاصة بهم منذ عام 704هـ، وتزامن ذلك مع بداية صعود نجم العثمانيين الذين أقطعهم سلاجقة الروم منذ الثلث الأول من القرن السابع الهجري المناطق الحدودية مع العدو البيزنطي في الغرب فبدأ العثمانيون يعملون لمجدهم حتى انتهت جهودهم بتوحيد آسيا الصغرى وصناعة الفتوحات نحو القارة الأوربية لبناء دولة جديدة.
يذكر أن من بين أشهر قادة الدولة السلجوقية علاء الدين كيكوبات، أو علاء الدين كيقباد وصفه ابن كثير بأنّه “كان من أعدل الملوك وأحسنهم سيرةً، وقد زوّجه العادل ابنته وأولدها”.
الدولة الخوارزمية
الآثار الإسلامية في مدينة نيسابور، التي أطلق عليه ابن بطوطة مسمى دمشق الصغيرة.
دخل إقليم خوارزم (وهو الآن موزع بين الجمهوريتين الإسلاميتين أوزبكستان وتركستان) تحت الحكم الإسلامي على يد الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، واستمر حكمه تحت سلطان الخلافة الأموية ثم العباسية وتناوبت عليه دول المنطقة، كالدولة الطاهرية والصفارية ثم أصبحت تحت سلطات الدولة السامانية ثم الغزنوية إلى أن سقط في أيدي السلاجقة منذ عام (432هـ) 1041م.
وفي عهد السلاجقة برز عبد تركي ويُدعى أنوشتكين في منصب ساقي للسلطان السلجوقي ملكشاه، وقادته كفاءته إلى منصب والي خوارزم في عام (471هـ) 1077م، وبعد وفاته خلفه ابنه قطب الدين محمد الذي أطلق عليه السلطان السلجوقي لقب خوارزم شاه، أي ملك خوارزم.
وخلف قطب الدين محمد ابنه علاء الدين أتسز لكنه كان يحمل طموح الاستقلال عن الدولة السلجوقية، أورثه لابنه إيل أرسلان، الذي استغل النزاعات على الحكم بين السلاجقة وضعف دولتهم فسيطر على بعض بلاد خراسان وما وراء النهر، ثم توفي في سنة 568هـ (1172م)، ليستولي على الحكم من بعده علاء الدين تكش الذي عمد إلى توسيع سلطان الدولة الخوارزمية، فاستولى على كل ما كان يملكه السلاجقة من مدن وقرى وقلاع.
وبعد وفاته خلفه ابنه علاء المعروف بمحمد خوارزم شاه، وبطموحاته التوسعية وقع في صراع مع جيرانه الدولة الغورية ودولة القراخطائية، ولكنه تمكن من هزيمة الدولتين والسيطرة على مناطق نفوذهما، وبلغت الدولة الخوارزمية أقصى اتساع لها في عهد محمد خوارزم شاه، ووصلت حدودها مع حدود دولة جنكيز خان التي وقعت خلافات بينها وبين الدولة الخوارزمية فغزاها المغول فيما عد أول غزوات جنكيز خان على البلاد الخوارزمية عام 616هـ بعد أن استمر ملكها من (490هـ- 1097م/ 628هـ= 1231م).
الغزو المغولي
بدأ إذًا اجتياح التتار بقيادة جنكيز خان للمنطقة وسقطت على إثره الدولة الخوارزمية التي كانت تحكم المنطقة آنذاك. فنكل المغول بالخوارزميين وأفسدوا في الأرض أيما إفساد وسقطت بخارى في يدهم مدمرة عام 616هـ، 1219م، ثم سمرقند عام 617هـ، 1220م، وسقطت أطرار بعدها في عام 618هـ، 1221م، ودمرت البلاد تدميرًا مريعًا، وأقام جنكيز خان ابنه جوجي أميرًا على خوارزم بينما واصلت جيوشه فسادها في الأرض حتى بلغت بحر الخزر (قزوين) من جانبه استقر جنكيزخان في سمرقند، وأرسل عشرين ألف فارس من جنده لمطاردة محمد خوارزم شاه الذي نجح في الهروب إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، وأقام بها يعاني المرض واليأس والإحباط حتى وافته المنية سنة 617هـ (1220م).
أما التتار فقد فتحت شهيتهم على الدمار وانطلقوا في عام 617هـ في اجتياح أقاليم ومدن الدولة الخوارزمية، فاجتاحوا أذربيجان وخراسان وخوارزم وبلخ ومرو ونيسابور وهراة والري وسطروا المجازر المروعة التي أثقلت ذاكرة التاريخ.
ويجدر الإشارة إلى أن محمد خوارزم شاه قد أوصى بولاية الحكم من بعده لابنه جلال الدين منكبرتي، فجمع جيشًا والتقى مع قوات جنكيز خان في معركة شرسة في مدينة غَزنة انتصر فيها جلال الدين وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين، وأعاد الكرة في معركة كابول الأشد ضراوة فانتصر الخوارزميون على المغول للمرة الثانية وأخذوا غنائم كثيرة.
لكن الخوارزميين لم يحسنوا استغلال النصر الذي حققوه واختلفوا في تقسيم الغنيمة، فتقهقر الجيش حتى تمكن جنكيز خان منه وفر جلال الدين في سفينة في نهر السند إلى بلاد الهند.
وبعد وفاة جنكيز خان سنة 624هـ، 1227م، عاد جلال الدين إلى البلاد الخوارزمية لكنه بدل تضميد جراحات المسلمين في المنطقة بعد مصيبة المغول سار على سياسة توسيع نفوذه على حساب القوى والإمارات الإسلامية الأخرى، فاختلف مع أخيه غياث الدين وكثرت مشاكله فتشتتْ قواته وانفض القادة والأمراء من حوله وضعف جيشه أمام المغول الذين لم يكلوا من ملاحقته لعشر سنوات، ففر منهم مرة أخرى إلى إحدى القرى بشمال العراق فقتله أحد الفلاحين الأكراد انتقامًا لأخيه الذي قتلته جنود الخوارزمية سنة 628هـ، 1231م، وبوفاته انتهت الدولة الخوارزمية.
واستمر تمدد المغول في وسط آسيا وقد شهد هذا التمدد تحالفًا مع الصليبيين كما كان في الشام وفلسطين ولكن بالرغم من ذلك تأثر المغول بتعاليم الإسلام وأسلم جزء منهم وخرج منهم القبيلة الذهبية من مغول القفجاق، حيث أسلم القائد المغولي الكبير بركة خان ويقال منذ كان صغيرًا وأسلمت قبيلته تحت قيادته في عام 650 هجرية 1252م وصارت الإيلخانية دولة إسلامية فحكمت المنطقة من 654هـ – 665هـ.
وتولت زمام نشر الإسلام في غرب الصين وآسيا الوسطى وروسيا وسيبريا. وحارب بركة خان هولاكو الذي تحالف مع نصارى المشرق، وكان دوره محوريًا في القضاء على دولة المغول وهزيمتها، إضافة لبطولات وتضحيات المسلمين في مصر والشام والأناضول.
ويذكر التاريخ العلاقة الوطيدة بين بركة خان والظاهر بيبرس والتعاون بينهما في قتال المغول إضافة للغازي أرطغرل بن سليمان شاه في الأناضول. وقد سمى بيبرس ولده الأكبر بركة خان حبًا في شخصية القائد بركة خان الذي توفي في عام 665هـ / 1266م في طريقه لقتال جيش المغول.
وأصبحت وسط آسيا آنذاك على امتداد نهر الفولجا من منبعه إلى مصبه تدين بالإسلام بشكل كامل، وامتد انتشار الإسلام إلى سيبيريا شمالًا وشرقًا، وفنلندا غربًا.. يحمي حدود دولة الإسلام أبناؤها من وسط آسيا.
الدولة التيمورية
واصل المغول تمددهم في وسط آسيا خاصة بعد موت بركة خان، وتمكن تيمورلنك الذي بالرغم من مسيرته بالفساد كان يعلن الإسلام، تمكن من السيطرة على العديد من المناطق، إلى أن أصبح منذ 761هـ 1360م أميرًا على “كش” (جنوبي سمرقند-أوزبكستان).
ومع مواصلته الزحف، سقطت حواضر بلاد ما وراء النهر تباعًا كسمرقند في 1366م، وبلخ في عام 1369م. وأخضع بعد ذلك منغوليا وخوارزم.
وقد توفي تيمورلنك سنة 1405م أثناء إعداده حملة لغزو الصين. بعد أن بسط إمبراطوريته في آسيا والشام والعراق والأناضول، وجعل سمرقند أكبر حواضر العالم. حتى783هـ، 1405م، ثم انتقلت بعدها إلى هراة.
بعد تيمورلنك تنازع أحفاده على مملكته وتمكن شاه رخ من أن يفرض نفسه بعد نزاع مع أخوته باشي وجان وآق وآلب على عرش المملكة الذين خافوا على حياتهم من الموت فلجؤوا إلى السلطان العثماني محمد الأول فرحب بهم.
وعاشت دولة التيموريين آخر أمجادها في هراة تحت حكم حسين بايقرا 873 – 911هـ، (1469م = 1506) وانتهى حكم التيموريين عندما دخل الشيبانيون هراة في عام 912هـ، وورث العهد التيموري أحد أحفاد تيمورلنك وهو بابر، الذي قام بتأسيس دولة جديدة للمغول في الهند.
ومما يجدر تسجيله أن عهد تيمورلنك عرف صراعًا محتدمًا مع العثمانيين ولعل أبرز محطاته كانت معركة أنقرة التي دارت أحداثها بين تيمورلنك نفسه والسلطان بايزيد الأول العثماني فيما وصفت أكبر معركة عرفتها العصور الوسطى، انتصر فيها تيمورلنك في عام (1402م= 804هـ)، وتلقت الدولة العثمانية ضربة قاصمة أسر فيها سلطانها وأدت تداعياتها إلى تأخير الدولة كثيرًا عن تحقيق إنجازاتها اللاحقة ومنها فتح القسطنطينية.
ومع حجم البطش والفساد الذي سار به تيمورلنك إلا أن الإسلام في عصره في وسط آسيا انتعش واستقوى وانتشر خاصة بقضاء تيمورلنك على جميع الديانات الأخرى.
الدولة العثمانية
وعاشت دولة التيموريين آخر أمجادها في هراة لينتهي حكمهم سنة 912 هـ= 1507م حين ظهرت قوة قبائل الأوزبك التركمان فحكمت بلاد ما وراء النهر وانقسمت دولة التيموريين إلى خانيات مستقلة هي أستراخان وقازان والقرم وحبير ثم سقطت في أيدي الأتراك العثمانيين.
وتوسع العثمانيون تجاه الشرق، وبسطوا سيطرتهم على المناطق، فخضعت بعض ممالك آسيا الوسطى للنفوذ العثماني المباشر، مثل مناطق القرم، وقفقاسيا، وغربي القوقاز. وأخرى لم تخضع بالمفهوم السياسي لكنها خضعت دينيًا، وخاضت صراع العثمانيين مع الدولة الصفوية في إيران والدولة الروسيَّة في الشمال.
ومع بروز نجم الدولة العثمانية كثّف العثمانيون خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريَّيْن جهودهم لنشر الإسلام في القوقاز وجورجيا، وعلى تقوية الإسلام بين الشعوب والقبائل تحت سلطانهم، فأرسلوا الدعاة والفاتحين، واستمر نشاطهم حتى أصبح الإسلام هو المهيمن في البلاد وتحول أهلها إلى دعاة.
لكن بعد موت سليمان القانوني، والاضطراب الذي عرفته الدولة العثمانية وظهور إمارة موسكو في أوكرانيا شمالي البحر الأسود، ودعم البابا لها في روما، الذي حرص على دفع روسيا القيصريَّة لحمل راية الصليب ضدَّ العالم الإسلامي كوريثة للدولة البيزنطية، توجه الاهتمام الروسي صوب الممالك الإسلاميَّة في الجنوب.
وباحتلال إمارة موسكو لأسترخان (جنوب غربي روسيا اليوم)، تمكنت القيصرية من قطع اتِّصالات ممالك آسيا الوسطى ببقيَّة العالم الإسلامي، وبخاصَّة الدولة العثمانيَّة، وساعدها في ذلك تعاونها مع الدولة الصفوية التي كانت تتحالف مع الصليبيين لمواجهة أهل السنة المسلمين في بلاد ما وراء النهر والممالك العثمانية.
ويتفق المؤرخون على أن اجتماع الأسباب التي أدت إلى ضعف الدولة العثمانية، كان وراء امتداد أيدي الروس بالبطش بمسلمي دول وسط آسيا بدايةً من عهد إيفان الثالث.
إلى هنا نحط الرحال مع قصة الإسلام في وسط آسيا ونكمل المسيرة مع جزء ثاني قريب نتناول فيه حقبة الاحتلال الروسي وما بعدها.