تنبع أهمية علم الآثار من كونه علماً لمعرفة القديم والوثائق القديمة، إذ إن الآثار هي سجل الحضارة الذي يسجله باطن الأرض وسطحها، والذي يدل على هوية قاطني المكان ويلقي بعض الضوء على أساليب معيشتهم ونظامهم السياسي والاجتماعي الذي كان سائداً، وهي في والوقت نفسه إثبات للهوية وإثبات للانتماء وسند ملكية ووثيقة تعطي الوجود شرعيته، والآثار هي إثبات عراقة وإثبات أصالة، وهي سجل فكر وسجل تطور حضاري.

مواقع أثرية متعددة وهوية مشتركة:
لقد كان علم الآثار ميداناً لعلاقات الصراع والهيمنة التي ميزت موقف الغرب من الأرض العربية في فلسطين في سعيه لتحقيق أهدافه الاستعمارية بما فيها زرع كيان غريب لتحقيقها، خالقاً له تاريخاً موهوماً في المنطقة، وكثيرة هي الآثار المكتشفة في فلسطين التي تحمل دلالات قاطعة على أن أجدادنا العرب الكنعانيين هم أول من سكن هذه الأرض وتجذر وأسس فيها حضارته المميزة، فقد كشفت الحفريات في "وادي قدرون" عن وجود آبار في الطبقة الحادية والعشرين من طبقات القدس الحضارية، وشكلت هذه الآبار الحلقة الأولى التي تربط ما بين القدس كموقع وجذور حضارتها الضاربة عميقاً في التاريخ، وتعود هذه المكتشفات الأثرية على العصر الحجري المتأخر، حيث تطابقت مع الموجودات الأثرية المكتشفة في أريحا ونابلس ولاخيش، وكذلك في تل العجول (في غزة)، ونتيجة ذلك، وبأعلى درجات الدقة، حصلت البعثة التي تقوم بالحفريات على المعلومات التي حددت تاريخ القدس بستة آلاف عام من الحضارة، وأثبتت بذلك زيف وبطلان مقولة إنها مدينة داوود وبأن بدايتها كانت في عصره.
وفي الموقع الذي كانت تلتقي فيه وديان القدس، وعند نقطة التقاء وادي الجوز مع وادي قدرون، تم اكتشاف المدينة التي تعود للعصر البرونزي الأول (3200 ق.م) والمصنفة باعتبارها الطبقة العشرين من طبقات القدس الحضارية والتي تميزت بالتخطيط المعماري الدائري في شكل البيوت، وفي إدخال الشكل المربع في الأحواش وحفر الآبار فيها وبالاعتماد على الأعمدة الكبيرة وسط البيوت، وبالشكل الدائري للأسوار، وقد عثر فيما بعد على قواعد الأعمدة التي كانت تحمل سقوف الأبنية، إضافة إلى الموجودات الفخارية الدالة على حضارة تلك الحقبة، كما دلت المكتشفات الأثرية على اهتمام الإنسان بالزراعة، حيث وجدت المواد والأدوات الزراعية الدالة على أن هذه المنطقة كانت صالحة للزراعة، ودلت الموجودات الأثرية التي تعود للقرن الثامن عشر ق.م على توسع المدينة نحو الشرق، وأهم هذه الموجودات هي السور وبوابته الكبيرة وبقايا الأبراج التي اكتشفت بالقرب من عين سلوان، وهذا يعني أن العين كانت داخل حدود المدينة في القرن الثامن عشر ق.م، وحسب سجلات المدينة فإن البوابة المكتشفة كانت تدعى "بوابة النبع".
ومن أهم الأثار التاريخية التي وثقت للعصر البرونزي المتأخر (1550 – 1200 ق.م) رسائل "تل العمارنة" المتبادلة آنذاك بين ملك القدس (عبده حيبه) والفراعنة، والتي كتبت باللغة الأكادية، ويشتمل هذا العصر أيضاً على الاتفاقات السياسية والعسكرية والتجارية التي جمعت بين مدن فلسطينية ثلاث هي شكيم (نابلس) ولاخيش (وهي تل أثري قرب مدينة الخليل) وكيلة (القدس)، ولعلّ الأهمّ في ذلك أنّ تلك الرسائل الست التي وجدت في العمارنة وتحمل الأرقام (289 إلى 294) تنفي الوجود اليهودي في هذا العصر، وقد دلت الأساسات والبقايا المعمارية التي اكتشفت في الأعوام (1961 – 1963 م) على وجود أسوار بلغ ارتفاعها نحو عشرة أمتار. كما يدل الكثير من الأبنية المكتشفة على وجود قصور وقلاع وحصون كانت قائمة في المدينة في تلك الحقبة. ومن أعظم المواقع المكتشفة وأبدعها في ذلك العصر دار الحكومة في الجهة الجنوبية، كما أن الكهوف التي اكتشفت في منحدرات جبل الزيتون قد ساعدت في التعرف على كثير من التماثيل والمواد الأثرية التي لم يتم نشرها، بل حفظت في مجموعات توجد الآن في متحف لندن.
وكانت فلسطين قد شهدت في العصر البرونزي الوسيط (1950 – 1550 ق.م) – وتمثل هذه الفترة جزءاً من التاريخ الكنعاني في فلسطين – انتعاشاً حضارياً ملموساً، وعودة حضارة التمدن في المراكز المدينية التي هجرت في الفترة الانتقالية بين العصر البرونزي المبكر والعصر البرونزي الوسيط، وتدل آثار المدن الكبيرة، وبتحصيناتها القوية المكتشفة في تل القدح (خربة وقاص) و أريحا ومجدو وتعنك وتل دوثان وتل بلاطة وبتين والقدس وتل الدوير على حدوث هذا الانتقال النوعي. وشهد العصر البرونزي المتأخر (1550 – 1200 ق.م) استمراراً لحضارة العصر البرونزي الوسيط، وتميزت هذه الفترة بانتعاش التجارة الدولية، وتشهد على ذلك كثافة المواد الحضارية المكتشفة في السياقات الأثرية الفلسطينية في هذه الفترة، بما في ذلك الجرار الكنعانية المكتشفة في المواقع المصرية، وهي الجرار التي حملت الزيت والنبيذ إلى مصر. وأظهرت التنقيبات في تل المتسلم (مجدو) بأن مجدو هذه كانت مدينة محصنة في العصر البرونزي المبكر الوسيط (في الألفين الثالث والثاني ق.م) وأنها ذات أهمية كبيرة، رغم أن أول ذكر لها يعود للقرن الثامن عشر ق.م، حين قادت المدينة تحالفاً من المدن الكنعانية للإطاحة بالنفوذ المصري في كنعان في المعركة التي جرت عند وادي اللجون بالقرب من مجدو. ودلت التنقيبات الأثرية في تل المتسلم (مجدو) على بقايا بنائية لمدينة كبيرة تأسست في العصر البرونزي المبكر (الألف الثالث ق.م) ممثلة بالمباني وسور المدينة والمعبد والقصر على أسس مخطط مدينة كواحدة من أقدم المدن في فلسطين، وأظهرت التنقيبات دلائل من الفترات المتعاقبة لمدينة العصر البرونزي المبكر، الثاني والثالث، وهي بقايا مدينة مسورة ذات مبانٍ عامة كالقصور والمعابد، ومع نهاية العصر البرونزي المبكر تعرضت المدنية للتدمير، لتعقبها دلائل الفترة الانتقالية، وأعيد مع بداية العصر البرونزي الوسيط الثالث تأسيس المدينة ذات التحصينات والبوابة والعديد من المباني العامة وبيوت السكن، وتمثل هذه الفترة أوج ازدهار المدينة، كما تم الكشف عن النظام المائي للمدينة والمقابر التي تحيط بها.
وأقدم الاكتشافات الأثرية التي عثر عليها في "جبل القفزة (جنوب الناصرة) في فلسطين، وفي سفح الرمل (قرب طبريا)، والتي تعود إلى الفترة بين عامي 7500 و 3100 ق.م، تؤكد أن أهم حدث شهدته تلك المنطقة كان تأسيس مدينة أريحا، التي يعتبرها المؤرخون أقدم مدينة في التاريخ، وقد وجدت آثارها قرب بلدة عين السلطان، وفي أواخر الألف الرابعة قبل الميلاد بدأ سكان المنطقة يتعرفون على النحاس ويستخدمونه في بعض الصناعات، ولذا أطلق المؤرخون على تلك الفترة اسم "العصر الحجري النحاسي"، وقبل بضعة أعوام من الآن، عثر على مقبرة كنعانية ضخمة غربي مدينة القدس وآثار ذلك اهتمام الآثاريين والمتابعين، في حين أن سلطة الآثار الصهيونية التي تحتكر التنقيب في المكان، تتلكأ في نشر المعلومات الكاملة عن هذا الكشف المهم، ووافقت على إقامة بناء على أجزاء من هذه المقبرة، وقد اعتبرت هذه المقبرة التي اكتشفت بالقرب من قرية المالحة المحتلة عام 1948م، من أكبر المقابر الكنعانية التي كشف عنها في فلسطين، ويعود تاريخها إلى نحو أربعة آلاف عام، ومن شأن هذا الاكتشاف تسليط الضوء على الأوضاع المعيشية والعادات الغذائية لسكان ريف القدس في العصر الكنعاني، وتعود هذه المقبرة تحديداً إلى أوائل العصر البرونزي الرابع (2200 – 2000) قبل الميلاد، وتمتد على مساحة أكثر من دونمين، وقد بيّنت الحفريات أنها استخدمت كمقبرة من قبل أجيال عديدة خصوصاً في العصر البرونزي (بين عامي 2200 – 2000) قبل الميلاد و (1700 – 1600) قبل الميلاد، ويعلو كل قبر من القبور المحفورة في الصخور ثقب دائري قطره متران يؤدي إلى غرفة بيضاوية الشكل حفرة تحت الأرض التي وضعت فيها الجثامين.
ودلت الحفريات بأن الموقع عرف كمقبرة في عصور لاحقة بعد الفترة الكنعانية وأنّه تم استخراج ما بداخلها خلال الفترة الرومانية، ويتضح هذا من أساليب الحفر التي تتطابق مع تلك التي استخدمها الرومان، وعدد القبور التي تمّ اكتشافها في المقبرة التي تقع على مرتفع من الأرض، نحو مئة، وعثروا داخلها على عظام وخرز ومجوهرات وتمائم وضعت في تلك القبور وأغراض معدنية كالأسلحة والأدوات والمجوهرات ونوع فاخر من الفخار، وتوجد تقديرات بأن النحاس الموجود في جنوب الأردن، وبالإضافة إلى ذلك عثر على إسفلت أخضر على الأرجح أنه من البحر الميت، ومن بين الموجودات علبة قد تكون للطعام، وأدوات صخرية استخدمت لتقسيم قطع الفخار، وتم العثور على عظام أغنام وماعز وخنازير، وأدلة على أن السكان مارسوا زراعة الحبوب في محيط المباني التي عاشوا فيها، وتم العثور على زي كامل لأحد المحاربين يتضمن خنجراً وحزاماً معدنياً، مما يشير إلى أن بعض السكان كانوا مقاتلين بينما عمل آخرون في الحقول، وربما يؤكّد هذا بأن مستوطنة كنعانية من المحتمل أنه كان لديها فريق أمني لردع أية أعمال عدوانية ومواجهة من يغزون المستوطنة، وقد وافقت سلطة الآثار الصهيونية على تدمير أجزاء من المقبرة وإبقاء أخرى وإعطاء تصريح لإقامة بناء في المكان يتبع أحد الفنادق الشهيرة التي عثر على المقبرة بجواره.
ومن المعالم الأثرية الكنعانية في فلسطين، تل "تعنك" الكائن في الطرف الغربي لقرية تعنك، وهو عبارة عن تل ومدينة كنعانية ويبعد 8 كم تقريباً شمال غرب مدينة جنين و 2 كم شمال بلدة اليامون، وهذا المعلم عبارة عن تل مثير للإعجاب يرتفع أكثر من 4 متراً عن مستوى سطح مرج ابن عامر. ويستدل من الحفريات والآثار التي تم اكتشافها على أن المنازل والمنشآت العديدة الموجودة في المعلم الأثري ترجع إلى القرن الثاني ق.م (العصر الحديدي). وهناك تل الحفيرة (المعروف باسم تل دوثان) الواقع بين سبسطية ومدينة جنين (على بعد 6 كم تقريباً جنوب مدينة جنين)، وهو عبارة عن تل ومدينة كنعانية، وهناك خربة بلعمة وهي يبلعام الكنعانية، حيث عثر على نفق مائي، وهو مدينة كنعانية، ويقع فوق تل يبعد نحو 2 كم عن المدخل الجنوبي لمدينة جنين، ويوجد فيه نفق مائي منحوت في الصخر الجيري لمنحدر التل، وتشير المكتشفات الفخارية التي عثر عليها خلال عملية مسح أثري قام بها "كوتشيف" في عام 1997 – 1998م إلى وجود مستوطنات تعود إلى العصر البرونزي القديم والمتوسط والحديث والعصر الحديدي، ويعد مدخل النفق أبرز معالم بلعمة، وقد تم حفر النفق الجنوبي خلال العصر البرونزي الحديث، حيث بني فوقه مدخل القلعة وبوابتها.
وفي قرية بلاطة البلد، وفي المنطقة الشمالية منها، توجد أنقاض وآثار السور وبوابة شرقية وغربية، وقد أثبتت الحفريات التي قامت بها البعثة الهولندية عام 1913م برئاسة أرنس سلن أن هذا التل هو شكيم (نابلس) القديمة. وقد استمرت هذه الحفريات حتى بداية الحرب العالمية الأولى، حيث تم إيقافها، لتستأنف عام 1926م، واتسعت المساحة المحصورة وعثروا فيها على بقايا معبد وقصر وغيرهما. وفي الأعوام 1934 و 1956 و 1957م أعيد التنقيب في التل المذكور فعثروا في حفرياتهم بإشراف الدكتور رايت الأمريكي على آثار كنعانية ترجع إلى عام 3500 ق.م وعلى بقايا سور بني في القرن السابع عشر قبل الميلاد وكان ارتفاعه ثلاثة أمتار ونسف وكان يطوق المدينة من الجهات الثلاث بأبراجه، وأبواب وثكنات الحرس التي وجدت مصاطبها مقصورة بالكلس، ووجت عليها ستة هياكل بشرية على عمق ثلاثة أمتار تحت اللبن، كما عثروا على فخار يعود إلى العام 1600 ق.م .
ومؤخراً قالت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية إنها تمكنت من الكشف على أحد أقدم القبور الأثرية على مقربة من كنيسة المهد في بيت لحم، وفي السفوح الشرقية المطلة على بيت ساحور.. وتبين أن القبر المكتشف يعود إلى العصر البرونزي المبكر وهي الفترة الممتدة ما بين 2200 و 1900 قبل الميلاد وهذ الفترة انتقالية مهمة ما بين العصر البرونزي المبكر والعصر البرونزي الوسيط الذي يتميز بنمط حياة شبه رعوي وهي فترة تعرف من قبل المؤرخين وعلماء الآثار بالفترة الكنعانية، وهذا الاكتشاف هو أقدم دليل في هذه المنطقة التي يعود تاريخها إلى نحو أربعة آلاف عام.
وقد كشفت عمليات الحفر والتنقيب التي تجريها سلطة الآثار الصهيونية في مفترق بركائي" (على المحور الرئيسي في منطقة وادي عارة) عن كمية مدهشة تتكون من عشرات آلاف القطع الأثرية التي يعود تاريخها إلى ما قبل 5000 سنة (العصر النحاسي). وقد عثر في المقابر على عشرات الآلاف من الأدوات التي تستخدم في طقوس العبادة، بينها أوانٍ فخارية مميزة، سهام، خرز، أحجار ثمينة، أقراط، خواتم، وغير ذلك.
البقايا الجنائزية الكنعانية:
من خلال دراسة البقايا الجنائزية في فلسطين كظاهرة أثرية وسوسيولوجية، نجد أن الدفن في المدافن العامة في مقابر خارج أسوار المدينة، هو شكل الدفن السائد في العصر البرونزي المبكر الأول في فلسطين، وقد يعود ظهور المدافن العامة الخارجية إلى الوعي الصحي المتزايد بضرورة الفصل ما بين المسكن والمدفن في الفترة المدينية. وبعض المدافن مزودٌ بمنصة حجرية أو تحويطة ترمز، ربما، إلى المكانة الاجتماعية العالية لبعض الأفراد في القبيلة. وفي العصر البرونزي المبكر، دفن الأطفال واليافعون والبالغون مع بعضهم البعض في إشارة إلى المكانة المتساوية.
ويتكون الأثاث الجنائزي من الأواني الفخارية والزينة الشخصية وبعض الأدوات الأخرى. أما أكثر الأغراض الدالة على المكانة الاجتماعية والتي يمكن النظر إليها كمؤشر على المكانة الاجتماعية العالية في هذه المدافن العامة، فتتكون من الأغراض المعدنية (الذهب والنحاس) وبعض الأواني.
وتمثل الفترة الانتقالية من العصر البرونزي المبكر إلى العصر البرونزي الوسيط، واحدة من إشكاليات علم الآثار الفلسطيني. وتوصف هذه الفترة عموماً كفترة ساد فيها نمط حياة رعوي شبيه بحياة البداوة، وغياب كلي لمظاهر الحياة المدينية التي ميزت الفترة التي سبقتها وتلتها. ولذلك فإن البقايا الجنائزية تشكل في أغلب الحوال الصنف الوحيد للبقايا الأثرية المتوفرة من هذه الفترة.