التاريخ تسجيل أم تأويل؟
قد يبدو بديهيا القول إن السرد هو القالب الشكلي الذي فيه تصب المادة التاريخية، غير أن هذا القالب ليس مجرد صياغة كتابية، وإنما هو تمثيل أنطولوجي ومعرفي وأيديولوجي، به يصبح (ما حدث فعلا) محكيا تاريخيا لـ(ما حدث احتمالا) وبذلك يحل ما هو احتمالي محل ما هو حتمي وواقعي. والتاريخ منذ هيردوتس هو تاريخ لما هو محتمل الوقوع وليس لما هو تام الوقوع، إذ لا فصل فيه للوقائع عن الخيال، نظرا لوجود السرد الذي هو نظام كتابي به يصبح الوقائعي خطابا قصصيا، فيتحول التاريخ إلى تواريخ، وتتفتت عظمته كسردية تاريخية كبرى.
وواحدة من النظريات التي فيها يتعالق السرد بالتاريخ، حتى يوافق شكله محتواه هي نظرية (التاريخ بوصفه سردا) للأمريكي هايدن وايت. ومعلوم أن أي مادة أدبية هي عبارة عن شكل ومحتوى، لكن إضافة أحدهما إلى الآخر وليس عطفهما كـ(محتوى الشكل أو شكل المحتوى) هو الذي يجعل الشكل سردا والمحتوى تاريخا. وقصدية هايدن وايت تقوم على إلغاء ثنائية الشكل/ المحتوى، ليكون الشكل هو القالب الأسلوبي الذي لا توصيل فيه ما لم يقترن بمحتوى هو عبارة عن تمثيل للمضمون التاريخي.
وبهذا تغدو للتاريخ صفة شعرية بأشكال بلاغية هي (الاستعارة، الكناية، المجاز، السخرية) التي بها يكتب المؤرخون الأحداث والوقائع ضمن روابط سببية، لا تهدف إلى التوثيق فقط؛ بل التشويق أيضا بغية التوصيل. وهذا هو الذي يعطي للسرد قيمة فكرية في عملية تمثيل الوقائع تمثيلا تاريخيا من منطلق أن الواقع هو عبارة عن معطى إنساني كوني.
وقد اعترض هايدن وايت على نوعين من التمثيل التاريخي هما، الحوليات والإخباريات، على أساس أن التاريخ فيهما يفتقر إلى المكون السردي التام. وكان الفرنسيون قبله قد دعوا إلى تحويل الحوليات إلى ما سماه جاك لوغوف (التاريخ الجديد). وطبَّق وايت فكرته على كتاب «حوليات القديس غال» الذي وجد في جمله التاريخية تفككا بسبب خلوه من التحبيك، وما فيه من علاقات تمنح الأحداث ترابطا، متوصلا إلى أن الحوليات لا خلاصة لها لأنها ببساطة تنتهي بمتن هو (مات الإمبراطور هنري وخلفه في الحكم ابنه هنري). ولعل الذي أوحى لهايدن رؤيته التاريخية هذه، مثال فورستر (مات الملك ثم ماتت الملكة) كمتن حكائي لا يرتفع إلى درجة المبنى الحكائي؛ إلا بالسببية لنقول: (مات الملك ثم ماتت الملكة حزنا عليه) وهذا هو ما يتحقق في كتابة التاريخ؛ فالمؤرخون لا يريدون لعملهم أن يكون مفككا بفجوات وانقطاعات، لذا لا تغيب الروابط السببية عنهم، وهم ينسجون الأحداث مرتبين لها ترتيبا يرتفع بالتمثيل التاريخي للوقائع من العمل الحولي إلى العمل القصصي، وإلا فإن الحادثة التاريخية التي تُروى من دون تحبيك سردي هي مجرد محتوى لا ترابط شكليا فيه، وهو ما يمثل عليه وايت بحملات تشارلز ضد الساكسونيين.
إن الذي يدحض التاريخ بوصفه وثائق وحوليات هو النظام السببي الذي يتحقق بالتحبيك السردي، صحيح أن هذا يعد تدخلا إبداعيا في ما هو وقائعي كان قد حدث، لكنه مهم في توصيل القصدية التي تجعل النتائج بمسبباتها. وما دامت السببية حاضرة، فهذا يعني أن هناك نتيجة. بهذا تكون نظرة وايت للتاريخ نظرة محايثة تفترض السرد مهماً في تسجيل الأحداث التي تُقدم بوصفها المحتوى الشكلي للخطاب التاريخي.
وما الوقوف عند أهم الوقائع الفجائعية في التاريخ البشري سيكون مجديا إذا حاولنا أن نعرف هل كان التأويل التاريخي والكتابة السياسية لهذه الوقائع قد ساهما في نقل الوقائع بوصفها أحداثا وقعت بالفعل وانتهت، أو نقلاها بوصفها سرودا كتبت كما تخيل المؤرخون أنها تحدث؟
وهذا هو الفرق بين النظرية التاريخية التقليدية والنظرية التاريخية المعاصرة، فالأولى تقول بأن المؤرخ يروي ما حدث فعلا، وهذا ما يسميه هايدن وايت (النمط الأطروحي في الخطاب التاريخي) ويرفضه لأنه يتناسى السرد الذي به يتشكل هذا الخطاب، ممثلا بمقولة بنديتو كوتشه (حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ) التي تمثل لب النظرية المعاصرة في التاريخ.
وطرح وايت في كتابه «مدارات الخطاب مقالات في النقد الثقافي» وهو كتاب لم يترجم بعد إلى اللغة العربية، مصطلح Tropology والتربولوجي هو علم مدارات الكلام، واجدا أن منظري التاريخ يتفقون على أن الكتابة التاريخية بعامة تحتوي على عنصر التفسير الذي يجعلها غير قابلة للاختزال، وغير قابلة للاسترداد، متأثرا بمارتن هايدجر ومصطلحه ( المعاودة petition) بوصفها «هي الشكل المحدد لوجود الأحداث في نطاق التاريخية، على عكس وجودها في الزمان» وبهذا لا يكون الحبك السردي إقحاما وإنما هو تطوير وسيرورة لا تخلو من ميتافيزيقية سردية من ناحية (أن السرد هو شكل الخطاب الشائع للثقافات التاريخية وغير التاريخية، وأنه هو المهيمن في الخطاب الأسطوري والتخييلي على حد سواء). وتغدو مسألة السرد عند هايدن وايت عبارة عن شكل المحتوى للخطاب التاريخي، وهذا هو التميز الذي جاءت به نظرية هايدن وايت، مخالفة ما كان سائدا في الخطاب التاريخي عند أغلب مؤرخي القرن التاسع عشر، الذين ظل التاريخ عندهم مرتبطا بالأيديولوجيا، ومن هؤلاء هيغل الذي اهتم بالتاريخ السياسي، ولاسيما في كتابه «محاضرات حول فلسفة التاريخ» الذي فيه تتلاقى الخاصية التاريخية بالنظام السياسي والاجتماعي.
ولا يخفى أن واحدة من سمات التاريخ السياسي أنه موجه فكريا بإطار فني، غايته تقليص المسافة بين الواقع والخيال، مع جعل الواقعي هو الغالب، تدعيما لبطولة إنسانية، أو توكيدا لفعل ملحمي يصعَّد فيه العنصر الواقعــــي تصعـــيدا دراماتيكيا.
وكأن كل ما في التاريخ هو حقيقي وأن ما دون ذلك لا يطاله شك، لأنه وقع وانتهى وصار ماضيا، وهذا ما ترفضه نظرية التاريخ الهايدنية التي ترى التاريخ ليس ما وقع ماضيا، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه إلى المستقبل، فنصوص التاريخ المدون لم تقل كل ما مضى، إذ ما زال هناك مغيب ومسكوت عنه كثير في بطون التاريخ، وهو ما يسهم التخييل التاريخي في كشفه وإظهاره.
والجميل أن هايدن أشار في كتابه أعلاه إلى مسألة (الانضباط ونزع التسامي) سياسات التأويل التاريخي التي تتصل بكتابات ماكس فيبر، رافضا العلاقة بين التفكير التاريخي والتفكير السياسي، مرجحا ما ذهبت إليه حنة أردنت في نزعتها الإنسانوية للشمولية التي ترى أن السياسة تتردى في النظرة المصاحبة لفلسفة التاريخ. لكن السؤال المطروح هنا هو ما علاقة التاريخ السياسي بالملحمية؟ وهل أن التأويل التاريخي يصنع ملاحم؟ عموما نقول أن لا دراسة بريئة للتاريخ على الإطلاق، والتاريخ هو الإنسان، فالتاريخ كما يصفه جمال الغيطاني هو الزمان، والزمان ليس مفصولا عن الإنسان والإنسان بمفرده تاريخ ما دام له في جوهره له بداية ونهاية.
وما الوقوف عند أهم الوقائع الفجائعية في التاريخ البشري سيكون مجديا إذا حاولنا أن نعرف هل كان التأويل التاريخي والكتابة السياسية لهذه الوقائع قد ساهما في نقل الوقائع بوصفها أحداثا وقعت بالفعل وانتهت، أو نقلاها بوصفها سرودا كتبت كما تخيل المؤرخون أنها تحدث؟