بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
عن أبي الصلت الهرويّ قال: بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليه السلام، إذ قال لي: يا أبا الصلت ادخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون، وائتني بتراب من أربعة جوانبها"، قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال لي: "ناولني هذا التراب، وهو من عند الباب"، فناولته فأخذه وشمّه، ثمّ رمى به، ثمّ قال: "سيحفر لي ههنا، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها"، ثمّ قال في الذي عند الرِجل: والذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: "ناولني هذا التراب فهو من تربتي". ثمّ قال: "سيحفر لي في هذا الموضع، فتأمرهم أن يحفروا إلى سبع مراقي إلى أسفل، وأن تشقّ لي ضريحه، فإن أبوا إلّا أن يلحدوا، فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً، فإنّ الله تعالى سيوسعه ما يشاء"..
ثمّ قال عليه السلام: "يا أبا الصلت، غداً أدخُلُ على هذا الفاجر، فإنْ أنا خرجت مكشوف الرأس، فتكلَّمْ أكلِّمْك، وإنْ خرجتُ وأنا مغطَّى الرأس، فلا تكلّمني".
قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد، لبس ثيابه، وجلس فجعل في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام ومشى، وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه.
فلمّا أبصر الرضا عليه السلام، وثب إليه فعانقه، وقبّل ما بين عينيه، وأجلسه معه، ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا ابن رسول الله، ما رأيت عنباً أحسن من هذا، فقال له الرضا عليه السلام: "ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة "، فقال له: كُلْ منه، فقال له الرضا عليه السلام: "تعفيني عنه"، فقال: لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلّك تتّهمنا بشيء! فتناول العنقود، فأكل منه، ثمّ ناوله، فأكل منه الرضا عليه السلام ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام، فقال المأمون: إلى أين؟ فقال: "إلى حيث وجّهتني!".
وخرج مغطَّى الرأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب، فغلق، ثمّ نام على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً.
قال هرثمة: فلمّا قرب زوال الشمس، أحسست بسيّدي قد خرج من عنده، ورجع إلى داره، ثمّ رأيت الآمر قد خرج من عند المأمون بإحضار الأطباء والمترفّقين، قلت: ما هذا؟ فقيل لي: علّة عرضت لأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فكان الناس في شكّ وكنت على يقين، لما أعرف منه.
يقول ياسر الخادم: ..كان المأمون يأتيه في كلّ يوم مرّتين، فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه، كان ضعيفاً في ذاك اليوم، فقال لي، بعدما صلّى الظهر: "يا ياسر، أكل الناس شيئاً؟" قلت: يا سيّدي، من يأكل ههنا مع ما أنت فيه؟ فانتصب عليه السلام، ثمّ قال: "هاتوا المائدة"، ولم يدع من حشمه أحداً إلّا أقعده معه على المائدة، يتفقّد واحداً واحد، فلمّا أكلوا قال: "ابعثوا إلى النساء بالطعام"، فحمل الطعام إلى النساء، فلمّا فرغوا من الأكل، أُغمي عليه وضعف، فوقعت الصيحة، وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوجبة بطوس، وجاء المأمون حافياً حاسراً يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويتأسّف ويبكي، وتسيل دموعه على خدّيه، (متظاهراً بالحزن عليه)، فوقف على الرضا عليه السلام وقد أفاق، فقال: يا سيّدي، والله ما أدري أيّ المصيبتين أعظم عليّ؟ فقدي لك، وفراقي إيّاك؟ أو تهمة الناس لي، أنّي اغتلتك وقتلتك؟! قال: فرفع طرفه إليه، ثمّ قال: "أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر عليه السلام، فإنّ عمرك وعمره هكذا، وجمع بين سبّابتيه"..
إلى أن جاء الليل..
يقول أبو الصلت: .. دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر، أشبه الناس بالرضا عليه السلام، فبادرت إليه، وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: "الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق"، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: "أنا حجّة الله عليّك، يا أبا الصلت، أنا محمّد بن عليّ". ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام، فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا عليه السلام، وثب إليه فعانقه، وضمّه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً في فراشه، وأكبّ عليه محمّد بن عليّ عليه السلام يقبّله، ويسارّه بشيء لم أفهمه.
ثمّ امتدّ الرضا عليه السلام على المقعد، وغطّاه محمّد بالرداء، وصار إلى وسط الدار. فقال: "يا أبا الصلت". قلت: لبّيك يا ابن رسول الله. قال: "أعظم الله أجرك في الرضا، فقد مضى".
وا إماماه وا مسموماه وا مظلوماه.
أعظم الله اجوركم.
المصدر: عيون أخبار الرضا عليه السلام.