في تاريخ النهضة العربية وبداية الفكر النهضوي عادة ما يشار إلى الحملة النابلونية على مصر عام 1798 كنقطة محورية في العلاقات بين الشرق والغرب وبالضرورة بداية التفاعل الفكري بين الحضارة الغربية والشرق العربي. فالمطبعة والمسرح وكل ما سجله لنا مؤرخ الحملة الفرنسية على مصر عبدالرحمن الجبرتي يشير إلى وصول التفاعل الغربي- الشرقي مرحلة جديدة.
ومهما يكن من طريقة وصول الأفكار الغربية وتعامل الحاكم الفرنسي مع المكان الذي جاء إليه وما آلت إليه حملته من فشل بعد تدمير نيلسون اسطوله قرب أبو قير وهروب نابليون بعد فشله في فلسطين، إلا ان ما تركته الحملة على مصر والمشرق العربي يعتبر نقطة محورية في فكر النهضة. وأيا كانت طبيعة العلاقة والأفكار المتداولة يظل القرن التاسع عشر عصرا وصلت فيه الأساليب والأفكار الغربية إلى المشرق، سواء من خلال بعثات محمد علي باشا وطموحه لأن يبني دولة قوية وجيشا يوسع بناء هيمنته، أو عبر الإستعمار الذي بدأ يتقدم في مناطق السيطرة العثمانية من الجزائر في العقد الثالث من القرن التاسع وصولا إلى مصر نهاية القرن نفسه ليشمل كل مناطق السيادة العثمانية بداية القرن العشرين. وجاء هذا رغم ما بدأته الدولة العثمانية ولو متأخرة من عمليات تحديث ظلت غير مكتملة ومشوهة وتأثرت بضعف الدولة والأطماع الإستعمارية، وفي منطقة المشرق تأثرت بالعلاقة بين الأستانة ورعاياها العرب الذين بدأوا يعبرون عن مظاهر السخط والتململ ضد سياسات الدولة الضعيفة. ما أريد قوله هو أن الحملة الفرنسية جعلت من مصر مركزا للنهضة العربية ومآلات الحداثة في العالم العربي، بجهود محمد علي وأبنائه ووصلت الحداثة العمرانية ذروتها في عصر إسماعيل الذي كان يطمح أن يقيم «قطعة من أوروبا» في مصر. ونتيجة لهذا فقد ارتبط الفكر النهضوي في معظمه برموز دينية وليبرالية مصرية كما يشي كتاب المؤرخ المعروف ألبرت حوراني «الفكر العربي في العصر الليبرالي». مع أن حواضر عربية أسهمت بالتحولات الفكرية، لكن مركزية مصر جعلتها تقود «الحداثة» في العالم العربي. فقد شهدت ولايات عثمانية درجات متباينة من الحداثة. في العراق برز اسم داود باشا والي بغداد، وشهدت فلسطين خاصة القدس، عمليات تحديث بدرجة أو بأخرى ومختلفة وكذا يقال الأمر عن بيروت التي تطورت من قرية صغيرة إلى ميناء كوزموبوليتي. وتظل مسألة النهضة والحداثة والتحديث، التغريب والأصالة موضوعا ملحا ومغريا للباحثين، فالحداثة في العالم العربي ظلت مسألة غير محسومة ومجالا للسجال الثقافي وأسيرة للأنظمة السياسية. وظل البحث عن مشروع للأمة العربية وبناء نهضتها حلما يؤرق رجال النهضة في كل حواضر العالم العربي. ومع ولادة المدينة وتمددها كمركز ثقل للتمدين والتحضر برزت وأصبحت مركزا للأفكار المقبلة من الخارج ومركزا للمعارك بين المتمسكين بالتقاليد والأصالة والداعين للتحديث والحداثة. ومهما يكن فالعقود الأولى من القرن العشرين أو فترة ما بين الحربين العالميتين كانت فترة تخمير للأفكار التي ظلت تتصارع فيما بينها حول الهوية ـ المستقبل والماضي.
قصة الحداثة
لكل هذا فالمشروع الذي تقوم برصده الباحثة العراقية فاطمة المحسن «تمثلات الحداثة في ثقافة العراق» مهم في قراءة تطور الحداثة في العالم العربي وفي العراق تحديدا. ويأتي الكتاب في وقت يمر فيه العراق بحالة من الفوضى ويشهد صراعا للإرادات بين مختلف القوى التي أسهمت في مرحلة ما ببناء ما تراه حداثة وتمثلاتها. وهو مهم لأن العراق لعب دورا مهما في معركة الحداثة العربية وأسهم مثقفوه بتقديم أفكار ريادية وكانوا أول من تجرأ على كسر الحالة الشعرية التقليدية وبنوا نموذجا للشعر يعتبر صورة عن الواقع العربي الحديث، وانتشر النموذج في العالم العربي ويتفوق في بعض المراكز على الشعر المقفى بأوزان خليلية. والعراقيون هم من حاولوا صناعة حداثة عراقية «أصيلة» متحررة بدرجة أو بأخرى من النموذج الأصلي. ولم يكن العراقيون قادرين على ذلك بدون جيل مؤسس حرص على نقل إبداعات الغرب ومدارسه إلى العراق. ونمت «الحداثة» العراقية أن صح لنا تسميتها بهذا ومقاربتها بالحداثة الأوروبية من خلال جهود هؤلاء وتخمرت في فترة الحرب العالمية الثانية وبداية الخمسينيات، وشهدت تحولا بعد ثورة 14 تموز 1958 التي وضعت العراق أمام مرحلة جديدة. وما يميز التجربة العراقية جدها وطموحها. فقد كتب الفنان العراقي المعروف جواد سليم العائد من روما بسبب الحرب هناك «خلال الأربع سنوات التي وقفت فيها باريس وأوروبا عن العمل الجميل، لم تقف بغداد عن العمل، كانت تعمل ببطء وصمت، كانت فقيرة وجاهلة، ولكنها كانت تشتغل خلال هذه الفترة». تحمل عبارات سليم الشاب العائد شحنة كبيرة من التفاؤل، وفيها يعقد مقارنة بين مهد الحداثة الأوروبية وبغداد مركز الحضارة الإسلامية، التي أفلت عنها منذ زمن. ومن هنا ترى المحسن أن وعي سليم وجيله بأهمية المكان، كان ضروريا وعنى في مرحلة لاحقة استمرارية في بناء الطموح الجديد.
رموز الحداثة
وكما يشير تحليل المحسن، فمع تطور أفكار جيل الحداثة تطور المكان، فهو وإن لم يعد ذلك المكان «الفقير» إلا أنه أضحى وعبر رؤية الجيل «ماض» لديه الإمكانيات على التناسق مع أوروبا الحديثة. وكأن هذا الجيل أراد كما يوحي تحليل المحسن، القول لنا أن الحداثة لا تعني بالضرورة التخلي عن الهوية والإغتراب عن المكان. ولهذا فرغم تمثل الجيل كل ما تحمله الحداثة من «طليعية» و «اغتراب» عن المدينة ومعضلة في «الهوية» وبحث في الأصالة تماما كما بحثت أوروبا في مرحلة التنوير والنهضة والحداثة الصناعية والفكرية عن عمق حضاري لها في التراث اليوناني القديم، كان لدى الحداثي العراقي الكثير من الأدوات التي يقولب فيها زمنه وواقعه الثقافي، فقد كانت لديه حضارة الرافدين الضاربة في عمق التاريخ، وما تبقى من مجد قديم للحضارة الإسلامية، كتب وزخارف، وأضاف لكل هذا ما تعلمه الباحث والمثقف العراقي من أفكار وأدوات تعبير من الغرب. مما يعني أن العراق مثل مصر كان مهيئا لتشكيل هويته الحداثية المتميزة. ولم تكن الحداثة العراقية شعرية، بل كانت فنية ومعمارية وأكاديمية، وشكلت الجامعة أو دور المعلمين الأولى وكليات الفن محاضن للمشروع الحداثي العراقي. ولم تقتصر الحداثة على طبقة متعلمة تعليما غربيا، سافرت إلى أوروبا ودرست في أكاديمياتها بل وأسهم فيها متعلمون من بيئات اجتماعية مختلفة وطبقات ومن مدن العراق الأخرى بشكل أضحت فيه بغداد بأحيائها الجديدة وعماراتها الحديثة ومقاهيها صورة عن مدينة «حديثة». ونرى في التحليل أن الإحزاب السياسية التي تعبر عن الإقطاع وأحزاب اليسار والأحزاب القومية بدرجة معينة تبنت رؤية حداثية وبشرت بها وأصبحت حاملة لها. وإن تسيد اليسار المعروف بدفاعه عن البروليتاريا والطبقات الشعبية ملامح التغير الحداثي العراقي، فالأصوات التي تجلى فيها الخروج والتمرد على المسلمات الثقافية العراقية جاءت في مجملها منه ولكن الأخير لم يكن هو وحده من بنى زمن الحداثة العراقية. ومثلما كانت الرواية الأوروبية نتاجا للحداثة الصناعية وتعبيرا عن قلق المثقف في فضاء كوزموبوليتي واسع وغربة في مجتمع فردي، عبرت الرواية والقصة العراقية بدرجات متفاوتة عن ملامح حداثية، ففي قصص الرائد ذو النوب أيوب، وعبدالملك النوري وروايات فؤاد التكرلي وغيرهم نرى الشخصيات التي تعبرعن الرجل الحداثي، الفنان، والسياسي/النائب في البرلمان والمحامي وهم من عبروا عن صور من الحداثة. يكشف تحليل المحسن عن الطريقة التي تعامل فيها المثقف العراقي وعن دوره في بناء الحداثة الوطنية وعلاقته بالفكرة الغربية، فالمؤسسة الأكاديمية وإن لعبت دورا مهما في تأكيد ملامح البحث العلمي وتأصيلها، إلا أن الكثير من مثقفي هذه الفترة ـ الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي- كانوا على قدر كبير من المعرفة باللغات الأجنبية وكانوا متفاعلين بدرجة أو بأخرى مع الثقافة الغربية، ترجمة وقراءة باللغة الأصلية، كما كان المثقف العراقي قريبا من الدوائر الثقافية والفنية الغربية التي جاءت للبحث في تاريخ بلاده أو هربا من الحرب في أوروبا وأسهمت هذه العوامل ـ الجامعة ـ المثقف الأجنبي ـ المعرفة اللغوية، ببناء أسس لزمن عصري، صحيح أنه تركز في البداية حول مقاه بعينها وكان مجتمعا للخاصة أو أبناء النخبة، لكنه سرعان ما تمدد وأعلن عن نفسه.
ثورة الشعر الحر
ومع تقدم جرعات التعليم وتوسع مجال القراءة ونشوء حركات فنية والثورات التي أشعلها الشعراء العراقيون خاصة الثلاثي نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي الذين كانوا يتنازعون «إمارة» الشعر الحر وهم على مقاعد الدراسة الجامعية، وظهور أصوات شعرية ريادية مثل بلند الحيدري وغيره. وكما قلنا فلم يقتصر تمثل الحداثة في العراق على الشعر والقصة بل تغير هوية المكان وولادة حركات فنية مثل جماعة بغداد للفن الحديث.
ثورية وداندية
ليس غريبا ان ينتج الجو الثقافي في هذه الفترة ظواهر أدبية عبرت عن تمرد وتأثر بالمدارس الأدبية الغربية مثل الوجودية والواقعية الإشتراكية. وبهذه المثابة سجل الزمن هذا شخصيات استثنائية في نتاجها الأدبي وحياتها كحالة حسين مردان الذي ترى فيه الكاتبة تمثيلا للشخصية الداندية بما فيها من تمرد على القيم المحلية واستعلاء ولكنه ظل في حياته وشعريته «دانديا محليا». وفي السياق نفسه كانت الفردية باعتبارها تمثلا من تمثلات الحداثة، مدعاة للخروج والثورية ولهذا لم تخل الثقافة إن لم تكن في معناها العام، من الثورية. وتقدم الكاتبة تحليلا لنصوص وأدبيات المرحلة في محاولة للتأكيد على أن الحداثة الثورية لم تأت بالطبيعة بسبب انتساب الكثير من أفراد النخبة المثقفة للتيار اليساري، بل جاءت الثورية من أبعاد وملامح أخرى لها تتعلق بحلم التغير والتفاؤل وتحقيق الحرية التي تحققت مع ثورة 14 تموز وهي الثورة التي تبدو في كتابة المحسن محورية في تغيير معالم الحداثة وتمثلاتهاـ ورؤية المثقف لنفسه فهي كما تقول منحت المثقف والعراق عامة فرصة لتصفية آثار الإستعمار وبناء حداثة جديدة ثورية الطابع وعراقية بكل المقاييس. ومن هنا ترى في الثورة مرحلة مفصلية أدت لرؤية جديدة في الثقافة وولادة جيل ستيني تعايش أو عايش مرحلة البعث وانقلاباته. وترى في المرحلة انها وضعت المثقف الثوري في مرحلة ما قبل الثورة، أمام امتحان جديد بما فيه من سجن وتشرد. ولكن أهم ما ميز المرحلة الستينية هو ذلك التداخل ما بين الثقافة الشعبية والطبيعة النخبوبة. ويلحظ أن لغة الجيل الستيني تميزت ونتيجة للواقع السياسي بالثقة والحس بالعدمية ورغبة بالرحيل عن العراق. فقد كان هذا البلد يشهد ثقافة جديدة تنهض وتكتمل وكأنها تمثل لحظة التخلي عن رعاية المثقف الطليعي. وقد ارتبط هذا الواقع بزيادة معدلات المتعلمين والجامعات، وأصبح المثقف أكثر نزوعا للفردية. طبعا هذا ملمح واحد من ثقافة جيل الستينيات أو حداثتهم. وكما بدأنا بكلام جواد سليم نذكر حالة الصدمة التي اعترت الفلسطيني القادم من بيت لحم، المدينة القرية جبرا ابراهيم جبرا، عندما حل في عام 1948 في بغداد ليصبح أحد أعمدة الثقافة الحداثية في العراق ويعيش ما تبقى من حياته فيها « فقد كتب «منذ اللحظة الأولى التي وصلت فيها إلى بغداد رأيت هذا التجديد، ليس في الشعر فقط كما اعتدنا أن نتحدث لأن اهتمامنا منصرف إلى الشعر أساسا أو القصة أو الفن وإنما كان في العمارة أيضا..فالتجديد المعماري بدأ في أوائل الخمسينيات وقد بدأ المهندسون المعماريون الشباب يعــــودون من دراستهم في الخارج..جميعهم جاؤوا وهم عازمون على تجديد مدينتهم… كنت أشعر بأنني بصلاتي المتشابكة بهم جميعا جزء من هذه العملية التي أكدت أنني باختياري هذه المدينة، كنت محقا في أننا نجدد الأمة». لسوء الحظ لم تعد بغداد منطقة التغيير بل الإنقسام. ومن هنا تأتي أهمية قراءة المحسن لهذه الفترة المهمة من تاريخ العراق الثقافي.
فاطمة المحسن: «تمثلات الحداثة في ثقافة العراق»
2015 دار الجمل، بيروت
423 ص