نهج البلاغة المنسوب إلى عليّ رضي الله عنه ليس نصًّا أريد له أن يكون أدبيًّا إبداعيًّا؛ وعلى الرغم من ذلك اتصف بمستوى بلاغيّ عالٍ جدًّا وبقوة إبلاغية عظيمة تجدها في جملة ما تضمنه من خطب ورسائل وعهود وحكم وكلمات قصار، ولعل هذا من بين ما أغرى ابنتنا كفاية بنت موسى الغدير الأستاذة القديرة النحوية المتمكنة أن تجعله موضوعًا لرسالة الدكتوراه التي تقدمت بها إلى قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود وعنوانها (بناء الجملة في نهج البلاغة: دراسة تركيبة دلالية)، سعت الباحثة في عملها إلى تحقيق هدفين كما قالت "أولهما: سبر أنواع الجمل في المدونة، وأنماطها التركيبية سبرًا يدعمه الإحصاء، ومعالجة ما يكتنف تلك البنى والأنماط من مسائل نحوية وظواهر تركيبية، ودلالية، وما يعتورها من مظاهر التنامي الأفقي والرأسي، وثانيهما: الكشف عن أنواع العلاقات الداخلية وإبراز تشكلاتها التعبيرية وطاقتها التعبيرية ومظاهر التنامي التركيبي التي تتجلى فيها، وبنيتها الدلالية".
جاءت الرسالة في تمهيد وفصلين، وأما التمهيد فكان مهادًا نظريًّا يعرف بطائفة من مصطلحات البحث، من أهمها الجملة التي حاولت فيه تحرير مفهوم لها خرجت به بعد استيعاب مقولات القدماء والمحدثين، وآثرت إخراج التراكيب الجامدة السبك كالتعجب والمدح والنداء من دائرة الجملة، وأما الفصل الأول فكان عن "تركيب الجمل ودلالاته"، عالجت في المبحث الأول الجملة البسيطة المجردة منها والموسعة، وعالجت في المبحث الثاني الجملة المركبة التي منها ما تركبه غير تلازميّ ومنها ما هو تلازميّ. وخصصت الباحثة الفصل الثاني لـلعلاقات بين الجمل، وهي علاقات داخلية شملت النعت والبدل والإضافة والحال والخبر والمفعول والزمان والمكان والسبب والاشتراك، وعلاقات خارجية منها لفظي يشمل أدوات الربط العطفي وغيره، ومنها معنوي تهبه وسائل التوكيد معنوية ولفظية والبدلية والاستئناف والتفسير.
أشادت لجنة مناقشة الرسالة بالباحثة بلغتها وبسعة معرفتها التراثية والحديثة، وبعمق معالجتها موضوعها، ولكنها أخذت عليها الإسراف في التفاصيل والوقوف عند نماذج عديدة كان يمكن الاجتزاء عنها ببعضها، وهو طول يلام عليه المشرف الذي أبدى اعتذاره عن ذلك بما أخذ به من جمال سبك نصوص المدونة، وأنه كان يقرأ العمل منجمًا، فما أحس طوله حتى استوى على سوقه، وكان أمر اختصاره مما قد يؤول بالعمل إلى شيء من الابتسار، ولعل الباحثة تُعمل عين صناعٍ في أمر تهذيب هذا العمل الجليل، ومن الأمور التي أُخذت على الباحثة غلبة النزعة النحوية التي جعلت انطلاقها من النحو ومفرداته باحثة عن تحققه في نصوص المدونة، وكان عليها في نظر أحد المناقشين أن تكون النصوص هي مبدأ انطلاقها لتحرر ما اتصفت به من نحو ناظم لأجزائها، وهي وجهة نظر في البحث مقدرة بلا شك وهو منهج جدير بالتطبيق، ولعل هذا المنهج لائق بمدونة متجانسة الوضع وليست مختلفة الأنواع لا يجمعها سوى نسبتها إلى صاحبها، وإن من أغراض الدرس النحوي هو تلمس مدى تحقق النظرية النحوية في الاستعمال ورفده بنصوص عالية لتكون زادًا تعليميًّا يتجاوز ما اعتاد الدارس تداوله في كتب النحويين. والباحثة إن احتفلت بالنحو فإنما لأنها اتخذت منه وسيلة كشفها لأغوار هذه المدونة لتكون على هدى طريق متلئب، وهو نحو استقرت له كثير من المقولات الأساسية، فحق لها من هذه الجهة ما انتهجت.
والمنتهى إليه آخر الأمر أن هذه الرسالة شهادة لنحوية واعدة يحق لنا الفخر بها لما ثقفته في النحو من كفاية.