بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
يَا حُجَّةَ اللهِ قَدْ ضَاقَ الْخِنَاقِ بِنَا فَأَيُّ هَوْلٍ مِنَ الدُّنْيَا نُقَاسِيْهِ؟!
أَكُلَّ يَوْمٍ لَكُمْ يَا بْنَ الزَّكِيِّ دَمٌ يُطَلُّ هَدْراً وَمَا مِنْ ثَائِرٍ فِيْهِ؟
فَمِنْ صَرِيْعٍ قَضَىْ تَحْتَ الظُّبَا عَطَشاً وَفَوْقَ عُجْفِ الْمَطَا سِيْقَتْ ذَرَارِيْهِ
وَبَيْنَ مَنْ مَاتَ صَبْراً بَعْدَمَا سُقِيَتْ بِالسُّمِّ أَحْشَاؤُهُ، وَيْلٌ لِسَاقَيْهِ!
أَفْدِي غَرِيْباً عَنِ الْأَوْطَانِ قَدْ شَحَطَتْ بِهِ النَّوَىْ عَنْ مَغَانِيْهِ وَأَهْلِيْهِ
الضَّامِنَ الْخُلْدَ فِيْ أَعْلَىْ الْجِنَانِ لِمَنْ يَزُوْرُ فِيْ طُوْسَ مَثْوَاهُ وَيَأْتِيْهِ
لَمْ أَنْسَ إِِذْ غَالَهُ الْمَأْمُوْنُ حَيْثُ غَدَا يُبْدِيْ لَهُ غَيْرَ مَا فِيْ الْقَلْبِ يُخْفِيْهِ
وَدَسَّ بِالْعِنَبِ السُّمَّ النَّقِيْعَ لَهُ فَبَاتَ مُضْطَهَداً مِمَّا يُعَانِيْهِ
حَتَّىْ إِذَا أَزِفَ الْمَقْدُوْرُ جَاءَ لَهُ الْجَوَادُ وَالدَّمْعُ يَجْرِيْ مِنْ مَآقِيْهِ
سُرْعَانَ مَا جَاءَهُ مِنْ طِيْبَةٍ فَغَدَا أَبُوْهُ يُدْنِيْهِ لِلنَّجْوَىْ وَيُوْصِيْهِ
لَكِنَّ جِسْمَ حُسَيْنٍ بِالطُّفُوْفِ ثَوَىْ عَارٍ ثَلَاثاً وَوَحْشُ الْقَفْرِ تَبْكِيْهِ
ظَمْآنُ لَمْ يَرْوِ عَذْبُ الْمَاءِ غُلَّتَهُ وَالسُّمْرُ تُرْوَى نَجِيْعاً مِنْ بَوَانِيْهِ
عَرْيَانُ بَاتَ بِلَا غُسْلٍ وَلَا كَفَنٍ وَمَا دَنَا أَحَدٌ مِنْهُ يُوَارِيْه1
شعبي:
اويلي اعلى الرضا من عدل رجليه
تشاهد ويل قلبي واسبل ايديه
روحه خلصت او ما ظل نفس بيه
أتاري مات اويلي اوفرّگ البين
نهض عنه الجواد او جذب ونّه
حزين او عقب أبوه النوح فنّه
بعد ما جفنه او من فرغ منّه
اجوه أهل البلد كلهم محزنين
يويلي اشلون ضجه صارت ابطوس
اجت الناس بس تلطم على الروس
الله اوياك آيا شمس الشموس
رحت واحنه بعد نورك مظلمين
نگول من العزه انگلبت خريسان
لفت له بالگبر بثياب الأحزان
بس احسين ظل مطروح عريان
ظل ابكربله واهله مظعنين
أبوذيّة:
زمانك يالرضا بآهات عمَّك
وصبح عام الحزن والنوح عمَّك
رحت مسموم مثل الحسن عمَّك
وغربتك من غريب الغاضرية
"أللهمّ صلّ على عليّ بن موسى الرضا المرتضى, الإمام التقيّ النقيّ, وحجّتك على من فوق الأرض ومن تحت الثرى, الصدّيق الشهيد, صلاة كثيرة تامّة زاكية متواصلة مترادفة, كأفضل ما صلّيت على أحدٍ من أوليائك".
كان الإمام الرضا عليه السلام ، يعلم بما يصير إليه أمره, وما يجري عليه على يد المأمون العبّاسيّ, ويحدّث بعض أصحابه بذلك, ولهذا لمّا أراد المأمون حمله إلى خراسان, أخذ الإمام يودّع المدينة, مدينة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , لأنّه يعلم أنّه لا يعود إليها أبداً, وسيدفن غريباً عنها بعد أن يقضي مسموماً شهيداً.
فعن مخول السجستانيّ قال: لمّا ورد البريد بإشخاص الرضا عليه السلام إلى خراسان كنت أنا بالمدينة, فدخل المسجد ليودِّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فودَّعه مراراً كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب, فتقدّمت إليه وسلّمت عليه فردَّ السلام, وهنَّأته, فقال: "زرني, فإنّي أخرج من جوار جدّي صلى الله عليه وآله وسلم فأموت في غربة, وأُدفن في جنب هارون", قال: فخرجت متَّبعاً لطريقه حتّى مات بطوس ودفن إلى جنب هارون.
وعن الإمام الرضا عليه السلام ، أنّه قال: "إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة جمعت عيالي, فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتّى أسمع, ثمّ فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار, ثمّ قلت: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً".
وبعد أن أشخصه المأمون إلى خراسان ووصل إلى سناباد، دخل إلى دار حميد بن قحطبة الطائيّ والقبّة التي فيها قبر هارون الرشيد, ثمّ خطّ بيده إلى جانبه, ثمّ قال: "هذه تربتي, وفيها أدفن, وسيجعل الله هذا المكان مختلف شيعتي وأهل محبّتي, والله ما يزورني منهم زائر, ولا يسلّم عليّ منهم مسلّم, إلّا وجب له غفران الله ورحمته بشفاعتنا أهل البيت".
ولمّا دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ على مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام ، في خراسان وأنشده قصيدته المعروفة:
مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ
وانتهى إلى قوله:
وَقَبْرٍ بِبَغْدَادَ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ تَضَمَّنَهَا الرَّحْمَنُ فِيْ الْغُرُفَاتِ
قال له الرضا عليه السلام: "أفلا أُلحق لك بهذا الموضع بيتين, بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا بن رسول الله, فقال عليه السلام:
وَقَبْرٍ بِطُوْسٍ يَا لَهَا مِنْ مُصِيْبَةٍ أَلَحَّتْ عَلَىْ الْأَحْشَاءِ بِالْحُرُقَاتِ
إِلَىْ الْحَشْرِ حَتَّىْ يَبْعَثَ اللهُ قَائِماً يُفَرِّجُ عَنَّا الهَمَّ وَالْكَرَبَاتِ
فقال دعبل: يا بن رسول الله, هذا القبر الذي بطوس, قبر من هو؟ فقال الرضا عليه السلام: "قبري! ولا تنقضي الأيّام والليالي حتّى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري, ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له".
نعم, وهكذا كان, فبعد أن باءت كلّ مخطّطات المأمون من التنازل عن الخلافة وولاية العهد بالفشل ولم تحقّق أهدافها, قام بتشديد الخناق عليه..
ولم يزل الإمام عليه السلام مغموماً مكروباً إلى أن قُبض صلوات الله عليه, حتّى إنّه كان يدعو الله تعالى أحياناً: "أللّهمّ، إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت, فعجِّل لي الساعة".
ورأى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض لياليه, فقال لمسافر- أحد أصحابه-: أما إنّي رأيت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ، البارحة, وهو يقول: يا عليّ، ما عندنا خير لك.
وأعيا المأمونَ أمرُ الإمام عليه السلام , فعزم على قتله واغتياله بالسمّ.. فعن شخص يُقال له هرثمة أنّه قال له الرضا عليه السلام: إسمع وَعِهْ, يا هرثمة، هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدّي وآبائي عليهم السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط بالعنب, وأمّا الرمّان فإنّه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويفرك الرمّان بيده ليتلطّخ حَبَّه ذلك السمّ, وإنّه سيدعوني في اليوم المقبل ويقرِّب إليَّ الرمّان والعنب، ويسألني أكلها فآكلها, ثمّ ينفذ الحكم ويحضر القضاء..
وعن أبي الصلت الهرويّ أنّه قال له: يا أبا الصلت، غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن أنا خرجت مكشوف الرأس فتكلَّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني, قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه، وجلس فجعل في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام ومشى وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه. فلمّا أبصر الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وقبَّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا بن رسول الله، ما رأيت عنباً أحسن من هذا، فقال له الرضا عليه السلام: ربما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة, فقال له: كل منه، فقال له الرضا عليه السلام: تعفيني عنه، فقال: لا والله فإنّك تسرّني إذا أكلت منه, لا بدّ من ذلك, وما يمنعك منه، لعلّك تتّهمنا بشيء؟! (فاستعفاه ثلاث مرّات، وهو يسأله بمحمّد وعليّ أن يأكل منه), فتناول العنقود فأكل منه، ثمّ ناوله فأكل منه الرضا عليه السلام ، ثلاث حبّات, ثمّ رمى به وقام, فقال المأمون: إلى أين؟ فقال عليه السلام: إلى حيث وجّهتني. وخرج مغطّى الرأس, فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب, فَأُغْلِقَ, ثمّ نام على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً.
فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر، أشبه الناس بالرضا عليه السلام فبادرت إليه وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت، هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: أنا حجّة الله عليك، يا أبا الصلت, أنا محمّد بن عليّ. ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام ، فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره، وقبَّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً في فراشه وأكبَّ عليه محمّد بن عليّ عليهما السلام يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه.
يقول أبو الصلت:..ثمّ امتدّ الرضا عليه السلام ، على المقعد, وغطّاه محمّد بالرداء وصار إلى وسط الدار، وقال: يا أبا الصلت, فقلت: لبّيك يا بن رسول الله, فقال: عظّم الله أجرك في الرضا فقد مضى!
وا إماماه, واسيّداه, واغريباه..
فَاغْتَالَهُ بِالْعِنَبِ الْمَسْمُوْمِ وَيْلٌ لِذَاكَ الظَّالِمِ الْغَشُوْمِ
وَمَادَتِ الْأَرْضُ بِلَابِثِيْهَا وَسَاخَتِ الْأَرْضُ بِمَنْ عَلَيْهَا
قَضَىْ شَهِيْداً صَابِراً مُحْتَسِبَا وَهُوَ غَرِيْبٌ بَلْ غَرِيْبُ الْغُرَبَا
تَقَطَّعَتْ أَمْعَاؤُهُ بِالسُّمِّ فِدَاهُ نَفْسِيْ وَأَبِيْ وَأُمِّيْ
وضجّت طوس ضجّة واحدة، وعلا الصياح, وأسرع الناس من
كلّ حدب وصوب ليستعلموا الخبر..وهم يقولون: هذا قتله واغتاله- يَعْنُوْنَ المأمون- قُتل ابن رسول الله..
يا عين على الرضا صبي الدمع دم
عزيز الروح بفراش المرض تم
خلص قلبه بونينه وفتته السم
سقط من ساعته ومدّد الرجلين
وقام ولده الإمام الجواد عليه السلام ، بتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه من حيث يخفى على الناس أمره..
سيّدي يا أبا محمّد الجواد, عندما جئت إلى أبيك وجدته على فراشه, ضمّك إلى صدره وقبّلك وناجاك, ثمّ فارقت روحه الدنيا..
ولكن ما حال جدّك زين العابدين عليه السلام ، مع أبيه الحسين عليه السلام ؟! لم يتمكّن أن يكون إلى جانبه في لحظاته الأخيرة, ولكنّه نظر إليه، بعد ذلك، من بعيد..ولكن كيف كانت حالته عندها؟!
يُروى عنه عليه السلام أنّه قال: "..لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا وقُتل أبي عليه السلام ، وقُتل من كان معه من وُلْده وإخوته وسائر أهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يوارَوْا، فعظم ذلك في صدري واشتدّ لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبري بنت عليّ عليه السلام ، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وأخوتي؟! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيّدي وأخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مضرّجين بدمائهم، مرمّلين بالعرى، مسلّبين، لا يكفّنون ولا يوارَوْن، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!
إِنْ يَبْقَ مُلْقىً بِلَا دَفْنٍ فَإِنَّ لَهُ قَبْراً بِقَلْبِ الَّذِي وَالَاهُ مَحْفُوْرَا
* * *
هوامش
1- القصيدة للخطيب الأستاذ الشيخ محمّد عليّ اليعقوبيّ.