شعرية الغزل عند ابي تمام
.......................................
تُعد الشعرية من اكثر المناهج النقدية النصية جِدة واثارة، وهي شديدة الصلة بالحداثة لما لها من تقنيات تعمل على ابراز جمالية النص، اذ تحاول الكشف عن العلائق بين البنيتين العميقة والسطحية بوصفها كشافاً ((عن كيفية نجاح النص في تحقيق الوظيفة الشعرية عبر مجموعة من الاجراءات)) كما يصفها الدكتور صلاح فضل، وهي بذلك تحاول تحديد الفاصل بين الاثر الفني الابداعي الذي يحتفي بكل مظاهر الجمال اللغوي وبين الاثر العادي، بعبارة اخرى مقاربة الجمال في النص واختلافه عن لغة التخاطب اليومي وهو ما يجعل الرسالة اللفظية اثراً فنياً، فهي تتقصى التمايز اللغوي واختلافه عن غيره من الفنون الاخرى من جانب، وعما سواه من الفنون القولية من جانب اخر، وهذا ما يجعل النص شاعرياً على ان هذه الشاعرية التي تتوخاها الشعرية هي في الاصل بناء لغوي يعتمد على طريقة صياغة التراكيب اللغوية في بنية النص وكيفية تشكيلها بشكل مختلف عما يتشكل سواه من النصوص.
والتضاد بوصفه ملمحاً شعرياً يفتح امام الشاعر مساحات تعبيرية جمالية تمكنه من استثمار مسافة التوتر والتعاقب بين الاضداد، اذ يعرف التضاد في الدراسات الادبية بانه الجمع بين لفظ الشيء ونقيضه، او المعنى ونقضيه، وقد يكون في الافعال او الاسماء ، وهو ما يدفع المتلقي الى ملاحقة هذا التوتر وتمثيله له ذهنياً لفهم السياق الشعري والمشاركة في انتاج معناه، اذ يأخذ التضاد تمظهرات عديدة في النص تجعل منه مرآة للاحتمالات الممكنة فيغدو عنصراً تشكيلياً يخرق الاساليب المكرورة، فالتضاد الذي يقوم على علاقات الكلمة ضمن النص يشكل عنصراً من عناصر الشعرية التي تجمع بين الشاعر والكلمة المفعمة بالمشاعر والاحاسيس، وبين المتلقي الباحث عن جمالية التعبير.
وباستقراء بسيط لنصوص الغزل في شعر ابي تمام نلحظ هذا قيمة التضاد في حشد المعنى وتصويره واعتماده ملمحاً تعبيرياً جمالياً يمكنه دهشة المتلقي بهدف تحفيزه واشراكه في تمثل المعنى والتأثر به، وهذا يتضح في قول ابي تمام:
نشـــرت فيك رسيساً كنت اطويه .......... واظهرت لــــوعتي ما كنت اخفيه
ان كــان وجهك لي تترى محـاسنه .......... فــــــان فعلك بي تترى مساويه
مرتجة في تهـــــــاديه اســافله .......... مهتزة فـــي تثنيّه اعــــاليه
تــاهت على صورة الاشياء صورته .......... حتى اذا اكملت تـــاهت على التيه
ما استجمعت فرق الحسن التي افترقت .......... عن يوسف الحسن حتى استجمعت فيه
اعتمد ابو تمام في النص على بنية التضاد التي جاءت اساسية فيه، وتبدو هذه البنية جلية في قوله(نشرت/اطويه)(اظهرت/اخفيه)(كنت/ماكنت)(محاسنه/مساويه)(اسافله/اعاليه)(استجمعت/افتر)، وهو ينتقل هنا بين التضاد الفعلي والتضاد الاسمي، وبين التضاد بالإيجاب والتضاد بالسلب، اذ جعل المعنى متقابلاً بين شطري البيت الواحد في النص، فتكرار المعنى المتضاد في نسيج صورة الاضداد المتشابكة يجعل النص الشعري حيوياً، وبهذا يستدعي المتلقي ما يقابل صدر البيت، مشتركاً في انتاج المعنى بتوقع ما سيكون في عجز البيت، ولعل هذا شعرية بحد ذاته وهو ان يكون المتلقي جزءاً من كتابة النص سيما اذا رأينا ان ابا تمام لم يكتفِ بالتضاد كبنية في هذا النص، بل عمد الى استخدام الترادف كبنية اخرى موازية، وهذا ما يتضح في قوله (نشرتُ/اظهرتُ)(اطويه/اخفيه)(رسيساً/لوعتي)(مرتجة/مهتزة) (تهاديه/تثنيه)، وقد تعاضدت هاتان البنيّتان في انتاج المعنى كصورة من صور الشعرية التي يقرأها المتلقي ويتأثر بها.
وعلى مستوى اخر من تعاضد الاساليب الادبية بغية تحقيق شعرية النص، ما نجده في قوله:
يصدني عن كلامك الشفق ...... فالرسل بيني وبينك الحدق
حديثنا في الضمير متفق .......... وامرنا في الجميع مفترق
توحي باسرارنا حواجبنا .......... واعين بالوصال ترتشق
فعلاوة على التضاد الوارد في البيت الثاني (متفق/مفترق) فهناك بنية اخرى ساهمت في انتاج الشعرية في هذه المقطع، وهي بنية التوازي بين شطري البيت الشعري، اذ حقق التوازي التركيبي بين قوله (حديثنا في الضمير متفق) وبين قوله (وامرنا في الجميع مفترق) وهو ما يجعل من تساوي البنى اللفظية امراً كاشفاً عن مدى براعة ابي تمام في تساوق المعنى بمسارات متوازية يستقصي حدود الصورة الشعرية التي يجهد في رسمها وتمثيلها للمتلقي، فهو لا يعتني بالصورة فقط وانما يعتني باتساق الهندسة الشعرية للبيت، فهو يوازي بين السري والمعلن، بينما نجده في البيت الثالث يعتمد ذات التوازي مع اختلاف هندسة البيت بالتقديم والتأخير والمعاقبة بين التعريف والتنكير، ولعل هذا ما يوحي بان الشطر الثاني كان مقابلاً للشطر الاول وليس امتداداً له وهذا ما ستضح في مخطط البيت، وهذا نمط من انماط الشعرية التي تمنح النص قدرته التعبيرية في التأثير بالمتلقي وتحفيزه للمشاركة في انتاج المعنى من خلال ممارسة المقاربة والقراءة، واذا امكن لنا ان نتمثل هذا البين بمخطط فسيكون كالآتي :
يمثل قوله (بالضمير/في الجميع) بؤرة النص، فعلاقة الضمير بالسري/المخفي هي علاقة بالأسرار واللغة المرمزة للعيون والايحاء، بينما علاقة الجميع بالمعلن/الظاهر هي علاقة بالارتشاق والوصال والاعين، وهذا ما وفرته بنية التضاد من علاقات بين الالفاظ كنمط من انماط الشعرية في هذا المقطع.
لقد حقق الغزل شعريته بالاعتماد على انساق التضاد التي اتخذها ابو تمام كأداة جمالية تساهم في اغناء النص الشعري عنده بقوة التعبير واستدعاء الدلالات المتأرجحة بين البينة السطحية والعميقة للنص، وهو ما يجعل المتلقي مساهماً في انتاج المعنى من خلال تحفيز ذهنه في توليد المعنى واستقرائه، ناهيك عن ان بنية التضاد تساهم في اثراء السياق الشعري على المستويات التركيبية والدلالية والصوتية، وهذا ما يجعل النص نصاً شعرياً حيوياً يمارس سلطة التأثير في المتلقي.