تفسير الربع الأول من سورة البقرة بأسلوب بسيط
الآية 1: ﴿ الم ﴾: هذه الحروف - وغيرها من الحروف المُقطَّعَة في أوائل السور - فيها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، فقد تحدى اللهُ به المشركين، فعجزوا عن مُعارضته، مع أنه مُرَكَّب من هذه الحروف التي تتكون منها لُغَتُهُم، فدَلَّ عَجْزُ العرب عن الإتيان بمثله - مع أنهم أفصحُ الناس - على أنّ القرآنَ وَحْيٌ من عند الله).
الآية 2: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾: أي لا شَكَّ في أنه حقٌ مِن عند الله، فلا يَصِحّ أن يرتابَ فيه أحدٌ لوضوحه، ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾: أي ينتفع به المتقون بالعلم النافع والعمل الصالح).
الآية 3: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾: أي الذين يُصَدِّقون بكل ما غابَ عن حَواسُّهم مِمَّا أخبرَ به الرُسُل، (واعلم أنّ الإيمان: هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدَر خيره وشره، وهذا التصديق يكونُ إقراراًبالقلب، وقولاً باللسان، وعَمَلاًبالجَوَارح)، ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾: يعني ويُحافظون علىأداء الصلاة في أوقاتها أداءً صحيحًا (وَفْقَ ما شرَعَ اللهُ لِنبيِّهِ محمد صلى اللهعليه وسلم)، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ - مِن أنواع المال - ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾: أي يُخرِجون صَدَقة أموالهم الواجبة والمستحبة.
الآية 4: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ أيها الرسول من القرآن والسُنَّة، ﴿ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾: أي ويؤمنون بالكتب التي أُنزِلَت على الرُسُل الذين مِن قبلك، كالتَوْراةوالإنجيل وغيرهما، ﴿ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾: أي ويُصَدِّقون - تصديقاً جازماً - بالحياة الآخرة وما فيها من الحسابوالجزاء، (وقد خَصَّ تعالى الإيمان بالآخرة، لأنَّه مِن أعظم المحفزات على فِعل الطاعات، واجتناب المُحَرَّمات، ومُحاسبةالنفس).
الآية 5: ﴿ أوْلَئِكَ عَلَى هُدًى من ربهم ﴾: أي على نورٍ من ربهم، وبتوفيقٍ مِن خالِقِهم وهادِيهم، ﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
الآية 6: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾: أي لا يقعُ الإيمان في قلوبهم لإصرارهِم وعنادِهِم مِن بعد ما تبين لهم الحق).
الآية 7: ﴿ خَتَمَ ﴾: أي طبعَ ﴿ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾: أي غطاء، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
الآية 8: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ﴾ بلسانه: ﴿ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾ ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾: يعني وهم في باطِنِهم كاذبونَ لم يُؤمنوا (وهؤلاء هم المنافقون الذين يُظهِرونَ الإيمانَ للناس، ويُخفونَ الكُفرَ في صدورهم).
الآية 9: ﴿ يُخَادِعُونَ ﴾: أي يعتقدون بجهلهم أنهم يُخادعونَ ﴿ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ ﴾ لأن عاقبة خِداعِهِم تعودُ عليهم، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾: أي وما يُحِسّون بذلك لفساد قلوبهم).
الآية 10: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾: أي شكٌّ وفسادٌ وشهوات، فابْتُلُوا بالمعاصي المُوجِبَة لعقوبتهم ﴿ فزادهم اللهُ مرضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) ﴾.
الآية 11: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ﴾ بالكفر والمعاصي، وإفشاء أسرار المؤمنين، ونُصرة الكافرين ومحبتهم ﴿ قَالُوا ﴾- جِدَالاً وكَذِباً -: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾.
الآية 12: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾ لأنَّ ما يَفعلونه - ويَزعُمون أنه إصلاح - هو بذاتِهِ عَينُ الفساد ﴿ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ بذلك لِجَهْلِهم وعِنادهم.
الآية 13: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ ﴾ أي آمِنُوا - مثل إيمان الصحابة (وهو الإيمان بالقلب واللسان والجَوارِح) -، ﴿ قَالُوا ﴾ - جِدالاً واستهزاءً -: ﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ أي ضِعاف العقل والرأي؟، فرَدَّ اللهُ عليهم بقوْلِه: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أنَّ ما هم فيه هو الضَلال والخُسران المُبِين.
الآية 14: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾: أي إلى زعمائهم الكفرة المتمردين، ﴿ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾: أي نستخِفُّ بهم، ونسخرُ منهم).
الآية 15: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، ويَمُدُّهُم في طغيانهم يعمهون ﴾: أي يُمْهِلُهُم ليزدادوا ضلالاً وحِيرَةً وترَدُّداً).
الآية 16: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ المنافقون هم ﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُا ﴾ أي استبدلوا ﴿ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ ﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ﴾ لأنهم باعوا أنفسهم في صفقةٍ خاسرة، حيثُ استبدلوا النعيمَ المقيم بالعذاب الأليم، ﴿ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ إلى الرُّشد والصواب.
الآية 17: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾: وهذه النار - في نورها - مِثلُ رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾: أي فلما أضاءت هذه الرسالة الدنيا بنورها، آمنوا بها، ثم كفروا فـ ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ﴾: وهي ظلمات ضلالهم ﴿ لا يُبْصِرُونَ ﴾.
الآية 18: ﴿ صُمّ ﴾ عن سماع الحَق، ﴿ بُكْمٌ ﴾ خُرْسٌ عن النطق به، ﴿ عُمْيٌ ﴾ عن إبصار نور الهداية، ﴿ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾: أي لذلك فهم لا يستطيعون أن يرجعوا إلى الإيمان الذي تركوه - بعد أن عرفوا أنه الحق -، واستبدلوه بالضلال).
الآية 19: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ ﴾: أو مَثَلُهُم كَمَطَرٍ شديدٍ نازلٌ مِنْ السَّمَاءِ، ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾: وهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمات المطر،﴿ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ ﴾ المُحرقة والرعد القاصِف، ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾: أي خوفًاً من الهلاك، وهذا هو حال المنافقين إذا سمعوا القرآن، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه وَوَعدِهِ وَوَعِيدِه، فهم يُعرضون عنه غاية ما يُمكنهم، ويكرهون سماعه مثل كراهة الذي يسمع الرعد ويخاف منه، ﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ فهُم لا يَفوتونه، ولا يُعجزونه).
الآية 20: ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ ﴾ مِن شدة لمعانه ﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾، ومع ذلك ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾: أي مشَوْا في ضوءِه، ﴿ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ﴾: أي وقفوا في أماكنهم متحيرين، وهذا هو حال بعض المنافقين، يظهر لهم الحق أحياناً، ثم يَشُكُّون فيه أحياناً أخرى، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾: أي ولولا إمهال الله لهم لَسَلَبَ سمعَهم وأبصارَهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ لا يُعجِزُهُ شيء، ومِن قدرتِهِ تعالى أنه إذا شاءَ شيئاً فعَلهُ مِن غير مُمانعٍ ولا مُعارض).
الآية 21: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾: أي وخلق الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
الآية 22: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾: أي بساطًا لِتَسهُلَ حياتكم عليها، ﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾: أي مُحكمة البناء، ﴿ وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فلا تجعلوا لله أنداداً ﴾: أي نُظَرَاء له في العبادة، ﴿وأنتم تعلمون﴾ أنه وحده الخالق الرازق المستحق للعبادة).
الآية 23: ﴿ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ﴾: أي مَن تقدرون عليه مِن أعوانكم ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فإذا عجزتم عن ذلك - وأنتم أهلُ البَراعة في الفصَاحة والبَلاغة - فقد عَلِمتم أنَّ غيرَكم أعْجَزُ مِنكم عن الإتيان بذلك.
الآية 24: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ - وفي هذا إثارةٌ لِهِمَمِهِم، وتحريكٌ لِنُفوسِهم، ليكونَ عَجْزُهُم بعدَ ذلكَ أبدَع - ، وهذا مِن الغيوب التي أخبرَ بها القرآن قبلَ وقوعِها، ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ وذلك بالإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبطاعة الله،وهذه النارُ ﴿ الَّتِي وَقُودُهَا ﴾: أي حَطَبُها ﴿ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾.
الآية 25: ﴿ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جناتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾: أي حدائق عجيبة، تجري الأنهارُ مِن تحت قصورها العالية وأشجارها الظليلة، ﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾: أي قد رَزَقَنا الله هذا النوع مِن قبل في الدنيا، ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾: أي ورغم أنه متشابه مع سابقِهِ في اللون والمنظر والاسم، ولكنهم إذا ذاقوهُ وجدوهُ شيئًا جديدًا في طعمه ولذته، ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ من كل أنواع الدَنَس الحِسِيِّ كالبَول والحَيض، وكذلك مِن الدَنس المعنوي كالكذب وسُوء الخُلُق، ﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ