قولُهم : (( اللّهم إني داع فأمِّنوا ))
اجتمَعَ في العبارة خطابانِ لمُخاطَبَيْن مختلفيْن : نداءٌ و أمرٌ نداء ودعاءٌ لله عزّ وجلّ ، وأمرٌ للحاضرين بالتأمين على الدّعاء : يا ألله إنّي داعٍ و يا أيها الناسُ أمّنوا ، ولولا السياق المتصوَّرُ والمعهودُ ذهناً وعُرْفاً لتعذّرَ فهمُ العبارة . و إذا استقريْنا العبارات العربية الفصحى التي صُدِّرَت بمناداة الله عزّ وجلّ ، وجدْنا فيها انقطاعاً إلى المنادى دون توجّهٍ إلى منادىً آخَر
عن أنس بن مالك أن عمه غاب عن قتال بدر فقال : غبت عن أول قتال قاتله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والله لان أراني الله قتالَ المشركين ليرينَّ الله ما أصنعُ؟ فلما كان يومُ أحُد انكشفَ المسلمون فقال: اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، يعني المشركين [انظر مصنف ابن أبي شيبةَ]
والأمثلة كثيرةٌ جدا لا تكادُ تُصحى ، ولكي تصحّ العبارةُ و تُوافقَ المَقيسَ نقول: إنّي داعٍ فأمّنوا، أو إنّي داعٍ ربّي فأمّنوا ، أو قريبٌ من هذه العبارات
و لكن ألا يحقُّ لنا أن نقولَ : تجوزُ هذه العبارةُ على أنّ فيها التفاتاً ؟
و الجواب : لا يُعدّ هذا الضّربُ من الكَلام التفاتاً ؛ إذ الالتفاتُ يُنتقَل فيه عن صيغة إلى صيغَة، كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك. فالانتقال من الغيبة إلى الخطاب مثلاً قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم استُعمِل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعُلِم حينئذ أن الغرضَ الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدة، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، على حسب الموضع الذي ترد فيه .
فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى في سورة الفاتحة: " الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين". ففي هذا رجوعٌ من الغيبة إلى الخطاب و بما يختص الكلام من الفوائد قوله: " إياك نعبد وإياكَ نستعين " بعد قوله "الحمد لله رب العالمين" فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأنّ الحمد دون العبادة كَما قرّرَ أهلُ البَلاغَة ومنهم ابنُ الأثيرُ في المثَل السّائر. ومن هذا الضرب قوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّاً " وإنما قيل: "لقد جئتم" وهو خطاب بعد قوله "وقالوا" وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكِراً عليهم ومُوبِّخاً لهم.
و الذي يميزُ الالتفاتَ عن غيرِه أنّ الصّيغةَ اللّفظيّةَ المُلتفَتَ منها إلى غيرِها تعود على المرجِع ذاتِه الحمدُ لله رب العالَمين : هذه صيغةُ غَيبة؛ إذ الحمدُ مقصودٌ بِه الله عزّ وجلّ: اهْدِنا الصّراطَ المستقيمَ : طلبُ الهدايَة من الله عزّ وجلّ فالصّيغتانِ مُختلفتانِ : غيبة (الحمد لله) ، ثمّ خطاب (اهدنا)والمقصودُ بالخطابِ واحد.
أمّا المثالُ المُختلَف فيه [اللهمّ إنّي داعٍ فأمّنوا] فقد اتّحَدَت فيه الصّيغَة وهي الخِطاب واختَلَفَ المُخاطَب.
نَعَم يجوزُ اختلافُ المُخاطَب ولكن بشرطِ اختلاف نوع الخِطاب: نحو قولِ العرب: عَلى المُضارب الوَضيعةُ أيّها البائع، واللهم اغفِر لنا أيّتها العصابة. قال سيبويْه في التعليق على العبارتَيْن: أردتَ أن تختصَّ ولا تُبهمَ حين قلتَ: أيتُها العصابةُ وأيها الرجلُ، أرادَ أن يؤكدَ لأنه قد اختصَّ
و أكد ، كما تقول للذي هو مقبلٌ عليكَ بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا فلان، توكيداً. و لا تُدخل "يا" ها هنا لأنك لست تنبّه غيرَك. يعني: اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة.
[الكتاب، ج1، باب ما جرى على النّداءِ وصفاً لَه]
فلا دخلَ للعصابَة و لا للرّجُل في الدّعاءِ (اللهمّ) ، أمّا المثال المَسؤولُ عنه: اللهم إنّي داعٍ فأمّنوا، فهو يدعو الله ويُناديه ثمّ يُخاطبُ المُخاطَبينَ للتأمين ولم يُخاطبْهُم على سبيلِ التوكيدِ والتّخصيص، مثلَما أراد القائلُ بقوله : أيّتُها العصابَة