بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) تثير التساؤل غالباً حول ما فعله أخوه الحسن(عليه السّلام) مِنْ قبل مع طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان من الصلح والمهادنة والبيعة له مع العلم أنّ كلاً منهما (عليهما السّلام) إمام معصوم من الخطأ والمعصية فإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسين فلماذا لمْ يفعل الحسن (عليه السّلام) مثله ؟ وإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسن (عليه السّلام) ، فلماذا لمْ يفعل الحسين (عليه السّلام) مثل فعله ؟
والجواب : هو أنّ كلا الفعلين والسيرتين حكمة ومصلحة وحقّ وصواب ولكنّ المصلحة والحقّ والحكمة تختلف صورها ومواردها باختلاف الأحوال والظروف والأشخاص .
وأهم تلك الفوارق بين الحالين هو : أنّ فساد الحكم الاُموي وتذمّر الرأي العام منه في عصر الحسن (عليه السّلام) كان بعد لمْ يبلغ من الاشتهار والشدّة إلى المستوى الذي بلغ إليه في عصر الحسين (عليه السّلام) ؛ وعليه فتضحية الحسن (عليه السّلام) بنفسه وأهل بيته حينئذ ما كانت تُفسّر لدى الرأي العام بأنّها ثورة ضد الفساد والظلم أو إنّها تضحية في سبيل الدين والمصلحة العامة كما فُسرت تضحية الحسين (عليه السّلام) بل كانت تضحية الحسن (عليه السّلام) في ذلك الوقت تفسّر غالباً بأنّها صراع على السلطة وتنافس وتزاحم وتنازع حول الملك والخلافة . وكانت النتيجة حينئذ فشل قدسية الثورة وعقم تلك التضحية واستفادة العدو منها أكبر فائدة دعائية لنفسه وضد أهل البيت (عليهم السّلام) .
والنتيجة الأسوأ مِنْ ذلك هو فراغ الجوِّ وخلو الميدان لمعاوية ولآل أبي سفيان فيطلقون أيديهم هدماً وتحطيماً لكلّ ما تبقّى مِنْ اُصول الإسلام وأركانه تحت ستار كثيف من الدجل والتضليل والخداع .
فهل ترى بعد كلّ هذا حكمة ومصلحة للإسلام والمسلمين في تلك التضحية لو قام بها الحسن (عليه السّلام) ؟! أجل إنّ السنوات العشرين التي استولى فيها معاوية على مقاليد الملك والسلطة المطلقة بعد أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبعد صلح الحسن ، هي التي ملأ فيها معاوية وبطانته وأقاربه العالم الإسلامي بالظلم والفساد والدمار والخراب وهتك المقدّسات وانتهاك الحرمات تماماً كما تنبأ به مِنْ قبل رسول الله حيث قال في الحديث المشهور المتواتر عنه (صلّى الله عليه وآله) : رأيت بني اُميّة في المنام ينزون على منبري نزو القردة ويضربون وجوه الناس فيردّونهم القهقرى . فأنزل الله فيهم : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] .
وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال : لكلّ شيء آفة وآفة هذا الدين بنو اُميّة .
وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حديثاً حول بني اُميّة جاء فيه : هلاك اُمّتي على يد هذا الحي مِنْ بني اُميّة .
وقال أيضاً (صلّى الله عليه وآله) : لو لمْ يبقَ مِنْ بني اُميّة إلاّ عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً . رواه صاحب كتاب صلح الحسن / 45 .
وروى البخاري في صحيحه عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أيضاً أنّه قال : هلاك اُمّتي على يد أُغيلمة سفهاء . فسّرها ببني اُميّة .
وذكر ابن حجر عن الحاكم قال : كان أبغض الأحياء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنو اُميّة .
ومن المفيد أنْ نشير هنا إلى ما صرّح به الكتّاب المعاصرين والسابقين ومنهم الاُستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء) مِنْ أنّ بني اُميّة ليسوا مِنْ قريش بل ولا من العرب أصلاً ؛ وذلك لأنّ اُميّة لمْ يكن ابناً صلبيّاً لعبد شمس بل كان غلاماً روميّاً تبنّاه عبد شمس على سنّة التبني في الجاهليّة فعرف به وسمّي اُميّة بن عبد شمس .
ونعود إلى أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تلك الاُسرة المشؤومة فنقرأ منها هذا الحديث المتواتر وهو قوله (صلّى الله عليه وآله) : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ودينه دغلاً وعباده خولاً .
ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث النبويّة وننتقل إلى أقوال الكتاب الناطق والإمام الصادق علي (عليه السّلام) في نهج البلاغة حيث يقول في خطبة له في الملاحم : أَلا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ ؛ فَإِنَّهَا فِتْنَة عَمْيَاءُ مُظْلِمَة عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَأَصَابَ البَلاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْبَلاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا . وَايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوء بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَتَمْنَعُ دَرَّهَا .
لا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِر بِهِمْ ، وَلا يَزَالُ بَلاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاّ كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ . تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً ، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلا عَلَم يُرَى .
والله لا يزالون حتّى لا يدَعون لله محرماً إلاّ استحلّوه ولا عقداً إلاّ حلّوه وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ ودخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم وحتّى يقوم الباكيان ؛ باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه . . . .
وذكر السيّد المقرّم (رضي الله عنه) في (المقتل الكبير) عن كتاب (ضحى الإسلام) لأحمد أمين المصري قوله : الحقّ إنّ الحكم الاُموي لمْ يكن حكماً إسلامياً يساوى فيه بين الناس في الحقوق والواجبات ويكافأ فيه المحسن أيّاً كان ويعاقب فيه المجرم أيّاَ كان وإنّما كان حكماً شعاره التعصّب الممقوت وتسوده النزعة الجاهليّة ومظاهرها لا النزعة الإسلاميّة .
أقول : إنّ تلك الأعوام العشرين التي قبض فيها معاوية على مقاليد الحكم بدون رادع ولا مانع هي التي كشفت الحجاب عن مدى فساد السياسة الاُمويّة الرعناء وأظهرت للناس عمق العداء والحقد الذي يحمله الأمويون ضد الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين جميعاً وفي خلال تلك السنوات تيقّظ الرأي العام الإسلامي إلى عظيم أخطار البدع والانحرافات التي أحدثها الأمويون منذ أنْ تسللوا إلى مراكز السلطة والحكم أفراداً وجماعات ابتداء مِنْ عهد الخليفة الأول أبي بكر
فما بعد وفي أعقاب تلك الفترة المظلمة المشؤومة ـ فترة سلطان معاوية ـ صار الفرد المسلم العادي يشعر في قرارة نفسه وأعماق شعوره نفوراً شديداً وكرها مريراً تجاه الجهاز الاُموي الحاكم خليفة وعمالاً وولاة وبطانة .
فكان الشعب المسلم ينظر إليهم كعصابة لصوص وقطّاع طريق وجلادين لا همّ لهم إلاّ نهب الأموال وسلب الحقوق واغتصاب الأعراض وسفك الدماء والتمادي في المتع الحقيرة وإشباع الشهوات وغير ذلك ممّا لا يسع المقام وصفه حسب ما هو مسطور في كتب التاريخ والتراجم .
وليس أدلّ على نقمة المسلمين وتذمّرهم مِنْ حكامهم الاُمويِّين مِنْ هذه الأبيات لشاعر عاش تلك الفترة القاسية وهو عبد الله بن همام السلولي حيث يقول :
فـإنْ تـأتوا برملَةَ أو بهند نُـبـايـعـها أميرةَ مؤمنينا
إذا ما مات كِسرى قام كِسرى نـعـدُّ ثـلاثـةً مُـتناسقينا
فـيـا لهفا لَوَ انّ لـنا اُنوفاً ولـكـن لا نـعود كما بدينا
إذاً لـضُربتموا حتّى تعودوا بـمكّة تـلعقون بها السَّخينا
خشينا الغيظ حتّى لو شربْنا دمـاءَ بـني اُميّة مـا رُوينا
لـقد ضـاعت رعيّتُكُم وأنتمْ تـصـيدون الأرانب غافيلنا
ففي البيت الأوّل منها يبيّن أنّه قد ضاعت موازين الخلافة الإسلاميّة ومقاييسها بحيث لو جاءتنا رملة أو هند ابنتا معاوية المعروفتان بالمجون والفسوق لوجب علينا نحن المسلمين أنْ نبايعهن بالخلافة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، والإمرة على المؤمنين ؛ لأنّنا إنْ رفضنا قُتلنا .
وفي البيت الثاني يقول : إنّ الخلافة الإسلاميّة تحوّلت إلى ملك وراثي تماماً كالنظام الملكي عند الأكاسرة ملوك الفرس قبل الإسلام كلّما مات كسرى الأب قام كسرى الابن مقامه . وهنا كذلك مات عثمان كسرى الاُمويِّين الأوّل الذي جعل الدولة الإسلاميّة بما فيها مِنْ خيرات ملكاً خاصاً له ولأسرته الاُمويِّين قام كسرى الثاني مقامه وهو معاوية ثمّ مات فقام كسرى الثالث مقامه وهو يزيد . فالنظام نفس النظام مع الاختلاف في الأسماء والعناوين فقط . . .
وباقي الأبيات ظاهرة المعنى واضحة الدلالة على مدى النقمة التي كان يكنّها المجتمع الإسلامي والكبت الذي كان يشعر به مِنْ رعونة الحكّام واستهتارهم .
فجاءت ثورة الحسين (عليه السّلام) تعبيراً كاملاً عن شعور ذلك الشعب المكبوت وتجسيداً حقيقياً لآمال ورغبات تلك الاُمّة المضطهدة فكانت القلوب معها تؤيدها وتبارك خطاها . . . وأُعطيت صفة الثورة التحررية المثالية بين جميع الثورات في العالم .
أمّا في عصر الحسين (عليه السّلام) وبعد أبيه أمير المؤمنين حيث كان معاوية بعد لمْ يصل إلى الخلافة العامّة والسلطة العامّة ولمْ يظهر أمام الرأي العام على حقيقته الفاسدة وواقعه الخبيث فإنّ الأمر كان يختلف عنه في عصر الحسين (عليه السّلام) ويزيد اختلافاً كبيراً .
ولذا يجزم الخبراء بأنّ صلح الحسن (عليه السّلام) مهّد الطريق لثورة الحسين (عليه السّلام) وهيّأ لها الجو والمناخ الملائم لتبرز إلى الوجود كأقدس ثورة إنسانية في العالم وأظهر مصداق لصراع الحقّ ضد الباطل وأعظم جولة في معركة الخير مع الشرّ في حياة البشرية مِنْ أولها إلى آخرها .
أجل كلّ هذه الصور المثالية التي اكتسبتها ثورة الحسين (عليه السّلام) تعود في جملة ما تعود إليه مِنْ عوامل وأسباب إلى صلح الحسن (عليه السّلام) مع معاوية .
وبعد هذا كلّه يمكننا أنْ نقول : بأنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) كانا واجهتين لرسالة واحدة ؛ واجهة التخطيط والتمهيد التي أبرزها الحسن (عليه السّلام) بصلحه ومسالمته ثمّ واجهة التطبيق والتنفيذ التي أبرزها الحسين (عليه السّلام) بقيامه ونهضته .
وتضحيات الحسن (عليه السّلام) في سبيل أداء سهمه من الرسالة وحصته من المسؤوليّة لمْ تكن قليلة ولا بسيطة بل كانت تضحيات شاقّة وغالية كثيراً . إنّها تضحيات أعصاب وعواطف تضحيات قلب وفكر وروح فصلوات الله وسلامه عليك يا أبا محمد بما صبرت وأحتسبت وأثابك الله أجر الصابرين .
ورحم الله شيخنا الأصفهاني حيث يقول :
زكــت ثـمارُ العلم بالزكيّ أكـرم بـهـذا الـثمرِ الجنيّ
أعـطـاه جـدّه نبيُّ الرحمهْ ســـؤدده وعـلـمه وحلمهْ
يـهـنـيك يا أبا الولاةِ السادهْ وقــادة الـخلق إلى السعادهْ
بـمَنْ تـسامى شرفاً و مجدا أخــاً واُمّــاً وأبـاً وجـدّا
بـشـراك يـا حقيقة المثاني بـواحـدِ الـدهر بغير ثاني
بـالـحسنِ الـمنطق والبيان ومَـنْ حـوى بـدايع المعاني
مِنْ رشحات بحر علمه الخضمْ جـرت يـنابيعُ العلوم والحكمْ
وحـلـمه لـه المقام السامي فـي حلمه ظلّتْ اُولوا الأحلامِ
صـبّـره العظيمُ في الهزاهزْ يـكـاد أنْ يـلحق بالمعاجزْ
مِـنْ حـلمِهِ أصابه من البلا مـا لا تطيقه السماوات العُلا
رضـاه فـيـما كان لله رضا قـضى على حقوقه بما قضى
وسـلـمُهُ فـي موقع التسليمِ مِــنْ رشـحات قلبهِ السليمِ