جارية تهزم علماء الأندلس بأسئلتها العلمية وأخرى تروي عن الإمام مالك.. الإسهام الثقافي للإماء في الحضارة الإسلامية
"في مُلْكي الآن أربعُ رومياتٍ كُنَّ بالأمس جاهلاتٍ، وهنَّ الآن عالمات حكيمات (= طبيبات) منطقيات فلسفيات هندسيات موسيقاويات أسطرلابيات معدِّلات نجوميات نحويات عَروضيات أديبات خطاطيات، تدل على ذلك -لمن جهلهن- الدواوينُ الكبارُ التي ظهرت بخطوطهن"!!
هذه مقولة لأحد تجار الرقيق من علماء القرن الخامس الهجري/الحادي عشر لميلادي في الأندلس؛ وهي تدل على أن حياة الرقيق في عالم الإسلام أشد تعقيدا من أن تُختَصَر في فكرة الخدمة والسخرة أو حياة اللهو والمتعة؟ لقد وصلت الجواري الإماء إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه المرأة العربية أو المسلمة الحُرَّة، وهو أن تحظى بأن تكون أمًّا للحكّام العظام، حتى إنه من أصل 37 رجلا عباسيا تولوا منصب الخلافة ببغداد لا نجد إلا ثلاثة كانت أمهاتهم من "الحرائر"، وهم: السفاح (ت 136هـ/754م) والمهدي (ت 169هـ/786م) والأمين (ت 198هـ/813م).
لكن هذا البُعد السياسي للجواري كان نتاجا لظاهرة معرفية أكبر يمكن تسميتها "ثقافة الرقيق"؛ فمن امتلاك المعرفة تبدأ السلطة ويبدأ التحرر والانعتاق! وعلى عكس الصورة العامة المنمَّطَة في أذهان الأغلبية لحياة الجواري في الحضارة الإسلامية؛ نجد أن الآلاف منهن ساهمن بأدوار إيجابية في حركة المجتمع الإسلامي والحياة الثقافية فيه بشتى فنونها، وإن حلّ الشعر والغناء في صدارة ذلك الإسهام.
والحقيقة أن صعود الرقيق -وفي مقدمته الجواري المثقفات- كان إنجازا مُستَحَقًّا حين شيد أصلا على أسس الثقافة وركائز المعرفة ومعايير العلم والأدب؛ وهو ما نخصص له هذه المقالة التي تبحث في نشأة هذه الظاهرة، وتحدد روافدها البشرية، وتكشف عواملها الثقافية التكوينية، وترصد تجلياتها الأدبية والفنية والمعرفية.
تقليد مستقر
كانت عمليات الفتوح وما كان يترتب عليها من تقاليد السبي -التي شاعت في حروب خلال تلك العصور- السببَ الأكبر والأبرز في انتعاش أسواق النخاسة والرقيق والعبيد من الأمم المهزومة، وكان الاسترقاق نظامًا عالميًا من قبل مجيء الإسلام بقرون طويلة، وقد جُلب آلاف من هؤلاء إلى عواصم الدولة الإسلامية في مكة والمدينة ودمشق وبغداد والفسطاط/القاهرة وغيرها.
ويبدو من المصادر التاريخية المتوافرة أن الدولة كانت تنظم توزيع هؤلاء على المحاربين -كلّ حسب سهمه من الغنائم- بعد إخراج الخُمس؛ فابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يروي -في ‘المنتظم‘- أنه حين افتتح المسلمون مدينة هرقلة بالأناضول سنة 190هـ/805م أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 193هـ/808م) "سبى من أهلها ستة عشر ألفا، فأقدمهم الرافقة (= اليوم الرقة السورية) فتولى بيعهم أبو البختري القاضي (ت 200هـ/815م)".
وإذا كانت الحروب هي المصدر الأهم في السبي وما ينتج عنه من رقيق؛ فإن ثمة طرقًا أخرى -على رأسها التجارة- كانت جالبة لهؤلاء الرقيق من الجواري وغيرهن، وخاصة بعد توقف حركة الفتوح الكبرى. وإذا كان نص ابن الجوزي الآنف يدل على أن القُضاة كانوا -على الأقل في أيام الرشيد- مسؤولين عن عملية بيع السبي، باعتبارهم ممثلين قانونيين للدولة؛ فإن المشترين في الجهة المقابلة كان أغلبهم من فئة "النخّاسين" الذين ظلوا يستوردون الرقيق من شتى البقاع والقوميات.
وقد كان هؤلاء النخاسون يشترون الرقيق من نخاسين مماثلين أو من قراصنة يختطفون البشر أحرارا ويبيعونهم ليكونوا أرقاء! فعلى حد تعبير المؤرخ الأميركي ول ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في ‘تاريخ الحضارة‘؛ فقد "كانت القرصنة وقتئذ مما يدخل في نطاق العادات الشريفة! وكان المسيحيون والمسلمون -على السواء- يشنون الغارات على سواحل البلاد الإسلامية والمسيحية ليقبضوا منها على ‘الكفرة‘ [كلٌّ من منظوره للآخر]، ويبيعونهم في أسواق الرقيق"!!
ثم يتحدث ديورانت عن دور اليهود في تجارة الرقيق هذه باعتبار أنهم "كانوا هم حلقة الاتصال التجاري بين بلاد المسيحية والإسلام، وبين أوروبا وآسيا، وبين الصقالبة (= الشعوب السلافية بشرقي أوروبا) والدول الغربية؛ وكانوا هم القائمين بمعظم تجارة الرقيق، وكان يعينهم على النجاح في التجارة مهارتُهم في تعلم اللغات". وهو في ذلك يؤكد ما قاله الجغرافي المسلم ابن خـُرْداذَبَهْ (ت 280هـ/893م) -في ‘المسالك والممالك‘- من أن التجار اليهود كانوا "يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية..، ويسافرون من المشرق إلى المغرب.. -برا وبحرا- [فـ]ـيجلبون من المغرب الخدم والجواري والغلمان".
تنظيم وإشراف
وقد اشتُهرت حواضر العالم الإسلامي -كغيرها من مدن العالم شرقا وغربا- بوجود أسواق للرقيق أو مراكز لبيعه يملكها هؤلاء النخاسون، فكانت تسمى "دار الرقيق" أو "سوق الرقيق" أو "سوق الجواري"؛ ولعل من أشهرها تلك التي كانت غربي بغداد أيام العباسيين، ثم اتسعت مساحتها حتى أصبحت محلة بذاتها. ويحدثنا عنها ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم البلدان‘- فيقول: "دار الرَّقيقِ: محلّة كانت ببغداد… من الجانب الغربي…، ويُقال لها ‘شارع دار الرقيق‘ أيضا".
كما يخبرنا اليعقوبي (ت بعد 292هـ/1004م) -في كتابه ‘البلدان‘- أن الخليفة المعتصم العباسي (ت 227هـ/842م) حين أنشأ مدينة سامراء عام 221هـ/836م خصّص مواضع منها للأسواق والحوانيت، ومنها "سوق الرقيق في مربعة فيها طرق متشعّبة، فيها.. الحوانيت للرقيق". وحين يتحدث المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- عن "خط (= شارع) المسطاح" بالقاهرة يحدد مكانه بالضبط ثم يقول إنه "فيه اليوم سوق الرقيق".
ومثلما انتمى تجار الرقيق إلى مختلف الأديان كان المشترون له من كافة الطوائف أيضا؛ ولذلك يلاحظ المقريزي أن المسيحيين بمصر خلال عهد الخليفة الفاطمي الظاهر (ت 427هـ/1036م) "اتخذوا العبيد والمماليك والجواري من المسلمين والمسلمات". وفي القرن الخامس نفسه؛ نجد ضمن تجليات ظاهرة تأثُّـر مسيحيي الأندلس بالثقافة العربية اتخاذَهم مجالس الغناء العربي وما كانت تشتمل عليه من حضور للجواري المسلمات المغنيات، وهو ما سيتكرر لاحقا بالمشرق الإسلامي حين يُنشئ الصليبيون إماراتهم على سواحل الشام وفي بعض مدنه الداخلية.
فهذا تاجر الرقيق الأندلسي الطبيب والعالم الموسوعي محمد بن الحسين المَذْحِجي المعروف بابن الكتاني (ت نحو 420هـ/1030م) يحدثنا عن حضوره لأحد هذه المجالس بقصر الملك المسيحي شانجة/سانشو بن غرسية صاحب مملكة نبّارة/نافارا شمالي الأندلس، فكان "في المجلس عدةُ قَيْنات (= مغنيات) مسلمات من اللواتي وهبهنّ له سليمان بن الحكم (= الخليفة الأموي المستعين بالله ت 407هـ/1017م) أيام إمارته بقرطبة"!!
وأثناء حديثه عن زيارته لصقلية سنة 580هـ/1185م بعد قرن من خروجها عن حكم المسلمين؛ يخبرنا الرحالة ابن جُبَيْر الأندلسي (ت 614هـ/1217م) عن ملِكِها النورماندي ويليام الثاني (ت 584هـ/1189م)، فيقول: "وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن، ومن أعجب ما حدثنا به خديمُه.. يحيى بن فتيان الطَّرّاز.. أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة، تعيدها الجواري المذكورات مسلمة، وهن على تكتّم من ملكهن في ذلك كله، ولهنّ في فعل الخير أمور عجيبة"!!
وكما تملَّك الرجالُ هؤلاء الجواريَ فقد كان أيضا للنساء ذوات المكانة الاجتماعية -حتى من غير زوجات الخلفاء والأمراء- نصيب منهن، فكنّ يستخدمن المثقفات منهن في الأعمال الإدارية والترفيهية، ويتخذن غيرهن لمهمات أخرى بينها الحراسة الأمنية؛ ومن أمثلة ذلك ما ذكره الحُصْري القيرواني (ت 453هـ/1062م) -في ‘جمع الجواهر في المُلَح والنوادر‘- من أن "زينة بنت [الوزير] المهلبي (ت بعد 362هـ/973م).. بلغت بها الحال إلى أن اتخذت الجواري الأتراك حُجَّابًا (= حُرّاسا) في زِيِّ الرجال على ما جرى به رسم السلطان، وكان لها كُتّاب (= مديرات أعمال) من النساء مثل سلمى النوبختية وعائشة بنت نصر القسوري".
أعراق متعددة
وقد جُلبت إلى الحواضر الإسلامية الجواري من كافة الأجناس والأعراق؛ فكان منهن التركستانيات والسنديات والهنديات، والروسيات والأرمنيات واللانيات (القوقازيات)، والروميات والصقليات والصقلبيات (السلافيات)، والزنجيات والحبشيات والنوبيات، وغيرهن من الأجناس الأخرى. وكل جنس من هؤلاء كان يتميز عن الآخر بصفات خَلْقية أو خُلُقية، كما تتفاوت جواريهم تبعا لثقافة إحداهن ومهارتها في صنعة الأدب والغناء، وبـ"ما كان معهـ[ـا من] آلة السماع مع الحذق البارع والأداء الصحيح"؛ وفقا لشهادة الرحالة والجغرافي ابن حوقل الموصلي (ت بعد 367هـ/978م) في ‘صورة الأرض‘.
وقد أفاض أبو الحسن ابن بطلان البغدادي (ت 450هـ/1059م) -ضمن ‘رسالة جامعة لفنون نافعة في شَرْي الرقيق‘- في ذكر محاسن كل جنس من أجناس الجواري وفق معايير الجمال في زمانه؛ فوصف مثلا الجواري الروميات بأنهن "بيض شُقر، سباط الشعور، زُرق العيون، عبيد طاعة وموافقة، وخدمة ومُناصحة، ووفاء وأمانة ومحافظة، يصلُحن للخزن، لضبطهن وقلة سماحتهن، لا يخلو أن يكون بأكفهن صنائع دقيقة".
وعن مبلغ ما كان يناله تجّار الجواري المثقفات من مكاسب مالية؛ يفيدنا ابن تَغْرِي بَرْدِي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- بأن "عِنَان جارية الناطفي (= تاجر بغدادي) كانت من مولّدات المدينة المنورة، وكانت جميلة شاعرة فصيحة سريعة الجواب؛ بلغ [الخليفةَ هارونَ] الرشيدَ خبرُها.. فقال مولاها [الناطفي]: ما أبيعها إلا بمئة ألف درهم (= اليوم 125 ألف دولار أميركي تقريبا)، فردّها الرشيد، فتصدّق مولاها الناطفي بثلاثين ألف درهم [سرورا برجوعها إليه]. وبعد موت الناطفي بيعت بمئة ألف درهم وخمسين ألف درهم، وماتت بخراسان" سنة 226هـ/841م.
وكانت الدولة -لاسيما في عصور قوتها- تُخضع تجارة الرقيق لتنظيمها بإشراف هيئة مختصة بأسواقها سُميت أحيانا "ديوان (= إدارة) الموالي والغلمان"، الذي نجد ذكره ضمن الدواوين/الإدارات التي نقلها الخليفة المعتصم إلى عاصمته الجديدة سامراء سنة 221هـ/836م؛ حسبما يورده المؤرخ اليعقوبي (ت بعد 292هـ/905م) في ‘البلدان‘. وقد فرضت السلطات على أسواق الرقيق ضرائب سنوية، ومن تحديدات مقاديرها ما يخبرنا به المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- من أن الضرائب السنوية لـ"سوق الرقيق [بمصر كانت]: خمسمئة دينار".
وحين تغيب الإدارة المختصة بأسواق الرقيق ودُور بيعه فإن الإشراف عليها يكون عادة ضمن صلاحيات جهاز "الحسبة"، فيتولى موظفوه التفتيش على هذه الأسواق والدُّور لضمان التزامها بالآداب والقوانين العامة. وقد حفظت لنا كتب التاريخ أسماء بعض هؤلاء الموظفين مثل إبراهيم بن بطحا البغدادي (ت 332هـ/944م) الذي كان يعمل "محتسب الحضرة وسوق الرقيق"؛ كما ينقل الصابئ (ت 448هـ/1057م) في ‘تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء‘. ويذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘-أبا محمد أحمد بن محمـد بن موسى (ت 324هـ/936م) ضمن "الأكابر"، ويقول إنه كان "معنيا بأمر الأخبار يطلب التواريخ، وولي حسبة سوق الرقيق وسوق مصر".
رقابة قانونية
وقد ارتبطت -منذ وقت مبكر- بوجود فئة الجواري وظائفُ كان من بينها ما عُرِف بـ"قيِّمة الجواري"، وهي سيدة كانت ترعى شؤونهن الخاصة في أسواق الرقيق وفي البيوت التي تتعدد فيها الجواري. وهو ما نجد ذكْرَه في قصص من بينها حوارٌ جرى بين التابعي عبد الله بن جعفر الهاشمي (ت 80هـ/701م) والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/705م)، ونقله لنا ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م) في ‘العقد الفريد‘؛ ففيه أن ابن جعفر قال: "فدعوتُ ‘قيِّمة الجواري‘ فقلتُ لها: انطلقي الساعة فزيِّـني هذه الجارية".
ونحن نرى في مؤلفات الاحتساب الإسلامية ما ينفي الصورة -الشائهة والمحرَّمة شرعاً- التي رُسمت عن أسواق النخاسة ببيع الجواري عرايا في الأسواق، كما توحي به لوحات بعض المستشرقين وأفلام السينما الحديثة؛ فنجد أن هذه المؤلفات وضعت شروطًا قاسية لمن كان يمتهن النخاسة وبيع وشراء الرقيق.
ومن ذلك ما جاء في ‘نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة‘ لجلال الدين الشيزري (ت 590هـ/1193م)؛ إذ يقول: "في الحِسبة على نخّاسي العبيد.. يكون النخّاسُ ثقةً أمينًا عادلاً، مشهورًا بالعفّة والصيانة؛ لأنه يتسلم جواري الناس وغلمانهم، ورُبمّا اختلَى بهم في منزله، وينبغي ألا يبيع النخاسُ لأحدٍ جارية ولا عبدًا حتى يعرف البائع أو يأتيَ بمن يعرفه، ويكتُب اسمه وصفته في دفتره؛ لئلا يكون المبيع حُرًّا أو مسروقًا. ومن أراد شراء جارية جاز له أن ينظر إلى وجهها وكفّيها، فإن طلبَ استعراضها في منزله والخلوة بها فلا يمكّنه النخّاس من ذلك".
ومع شمول الاحتساب على الرقيق تأليفًا وتطبيقًا؛ كانت الدولة في كثير من الأحيان لا تتوانى عن إفراد قوانين جديدة لتنظيم عمليات البيع والشراء، ومراعاة الآداب العامة في أسواق الرقيق؛ فالمقريزي يذكر -في ‘اتعاظ الحنفا‘- أنه في سنة 399هـ/1011م "مُنع أن يدخل أحد إلى سوق الرقيق [بالقاهرة] إلا أن يكون بائعا أو مشتريا؛ وأُفرِد الجواري من الغلمان وجُعل لكل منهم يوم".
وكغيرها من المعاملات التي تشهد المنازعات والخصومات؛ فقد كان القضاء مسؤولا عن الفصل في قضايا بيع الرقيق وشرائه، ومن قصص ذلك ما يرويه القاضي وكيع البغدادي (ت 306هـ/918م) -في ‘أخبار القُضاة‘- من أن سلام البصري -وهو أحد النخّاسين بالبصرة في نهايات القرن الأول الهجري وبدايات القرن الثاني- قال: "اشتريتُ جاريةً فوجدتها حمقاء، فخاصمتُ فيها إلى إياس بن معاوية (المُزَني ت 121هـ/740م) وهو على قضاء البصرة، فقال: ما علمتُ أنه يُرَدُّ [مبيع الرقيق] مِن حُمق؛ فقلتُ: إنه حُمقٌ أشد من جنون، فدعاها، فقال: أي رجليك أطول؟ فمدّت اليُسرى، فقالت: هذه؛ فقال: أتذكرين ليلةَ وُلدتِ؟ فقالت: نعم. قال: فردَّها [إلى بائعها الأول]، أما هذه فتُرد"!!
تكوين متنوع
على عكس الصورة العامة المنمَّطَة في أذهان الأغلبية لحياة الجواري في الحضارة الإسلامية؛ نجد أن الآلاف منهن ساهمن بأدوار إيجابية في حركة المجتمع الإسلامي والحياة الثقافية العقلية فيه، بل وكان كثير منهن وراء نشأة وتربية رجال عظماء أصبحوا من بناة الدول المركزية في التاريخ الإسلامي، ولذلك يقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1348م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: "كان الناس يقولون: مَلَكَ الأرضَ ابنا [جاريتين] بربريتين..: عبد الرحمن (الداخل الأموي ت 172هـ/788م)، والمنصور (العباسي ت 158هـ/775م)"!!
وطبقا لما يقرره الفقيه الشافعي وعلامة الأدب أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- فإن الجارية كانت تُختار "لنوادرها وحاضر جوابها، وحدَّة مزاجها وسرعة حركتها، بغير طيش ولا إفراط، وهذه شمائل إذا اتفقت في الجواري الصانعات المحسنات خَلبْنَ العقول، وخَلسْن القلوب"!!
وقد كثرت الجواري المثقفات والمغنيات اللاتي لم يخل منهن قصر أو بيت من بيوت عِلية القوم، ومن المؤشرات على هذه الكثرة اللافتة ما أفادنا به التوحيدي -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- حين قدَّم لنا إحصائية جزئية عن عدد المغنيات ببغداد في حدود سنة 360هـ/972م؛ فقال: "وقد أحصينا -ونحن جماعة في الكَرْخ- أربعمئة وستين جارية في الجانبين (= الكرخ والرُّصافة)، ومئة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان البُدور..، هذا سوى مَن كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرَسه"!!
ويبدو من ذلك أن المغنيات البارعات في الضرب على العود وغناء الأشعار بالألحان الرائقة كنّ الأكثر جذبا والأغلى سعرًا بين مختلف الجواري؛ ولذا كنّ هنّ المفضلات لدى الخلفاء والأمراء والمترفين من عِلية المجتمع، وكانت المدينة المنورة والبصرة من أهم مراكز تدريب وتأهيل الجواري على الغناء ونظم الأشعار في مجالس الأنس والطرب وما يتصل بذلك من معارف الأدب ورواية الأخبار.
ولعل من أقدم نماذج الجواري المثقفات بمعارف منوَّعة ما رواه عفيف الدين اليافعي الشافعي (ت 768هـ/1366م) -في ‘مرآة الجنان وعبرة اليقظان‘- من أن عُبيد الله ابن معمر القرشي (ت نحو 60هـ/681م) "اشترى.. جارية فارهة بعشرين ألف دينار (= اليوم 3.3 ملايين دولار أميركي تقريبا)، كانت تسمى ‘الكاملة‘ [لمهارتها] في عمل الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان، والقرآن والشعر والكتابة، وفنون الطبيخ والعطر؛ وكانت عند فتى قد أدَّبها لنفسه"!
ومن الجواري ذوات الثقافة الغنائية والشعرية البارعة بالمدينة المنورة عَزَّةُ المَيْلاء (ت نحو 115هـ/733م) التي ذكرها الإمام الشوكاني (ت 1255هـ/1839م) -في ‘نيل الأوطار‘- فقال: "وروى أبو الفرَج الأصبهاني (ت 356هـ/967م) أن [الصحابي الجليل والشاعر] حسّان بن ثابت (ت 54هـ/674م) سمِع من عَزة المَيلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره".
ريادة حجازية
وعن الميلاء هذه يقول الفقيه القاضي والمؤرخ ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1349م) في كتابه ‘مسالك الأبصار‘ الذي ترجم فيه لنحو 200 من الموسيقيين قرابة نصفهم من الجواري المثقفات: "كانت عزة مولاة للأنصار ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنّى الغناء الموقَّع من نساء الحجاز..، وقد أخذ عنها [المغنون].. من المكيين والمدنيين"!
ومن التلميذات النجيبات لعزة الميلاء الجارية "قزعة الحجازية" التي جاء ذكرها عند الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- فقال: "قرأتُ في كتاب أبي الفرَج.. [الأصبهاني] قال: قزعة حجازية قديمة من مُحْسِنات قِـيان (= مغنيات) الحجاز، أخذت عن عزة الميلاء..، وهي إحدى القيان اللواتي غنين جميلة لما شيّعها مغنو أهل الحجاز ومغنياتهم حين حجَّت"!!
وعن جواري البصرة يقول الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في ‘الرسائل‘- ذاكرا اللواتي اشتهرن منهن بالغناء والثقافة العالية في أيامه: "وإنَّما الثمينات المرتفعات والغوالي الخطيرات بصريّاتٌ، مثل عجوز عُمير ومتيَّم وبذْل وعَريب، وشارية جارية إبراهيم بن المهْدي (ت 224هـ/839م)..، وعساليجُ جارية الأحدب، وفضْل جارية العبديّ. وقبل هذا سَلْسل وأشباه سلسل"!
وطبقا لما يخبرنا به أبو الفرج الأصبهاني -الذي يقول عنه الذهبي في ‘ميزان الاعتدال‘ إنه "اتُّهِم [بالكذب في أخباره] والظاهرُ أنه صدوق"- في كتابه ‘الأغاني‘؛ فإن الجارية "متيَّم الهشامية" -التي ذكرها الجاحظ هنا- كانت "مغنية شاعرة اشتراها [أمير أذربيجان] علي بن هشام (ت 217هـ/832م)… مولَّدة (= وُلدت وتربّت ببلاد العرب) من مولّدات البصرة، وبها نشأت وتأدّبت وغنّت…، وكانت من أحسن الناس وجهًا وغناءً وأدبًا"!
وأما "بذْل" فهي مولودة في المدينة المنورة، وكانت من أمهر وأشهر الجواري في الغناء والألحان حتى إنها ألّفت في ذلك كتابًا يبدو أنه من أول ما ألِّف في موضوعه؛ يقول الأصبهاني: "وهي إحدى المُحْسِنات المتقدِّمات، الموصوفات بكثرة الرّواية، يقال: إنها كانت تغنّي ثلاثين ألف صوت (= لحن موسيقي)!! ولها كتاب في الأغاني.. يشتمل على اثنيْ عشر ألف صوت…، وكانت حُلوة الوجه ظريفة، ضاربة [للآلات الموسيقية] متقدّمة [فيها]، وابتاعها [الأمير العباسي] جعفر بن موسى الهادي، فأخذها منه [ابن عمه الخليفة] محمد الأمين (ت 198هـ/813م) وأعطاه مالا جزيلا".
حاضنة معرفية
ولا غرو أن كان سبب ثقافة هؤلاء الجواري يعود في الأصل إلى طبيعة تكوين أربابهن من التجار النخاسين، وما كان عليه بعضهم من درجة عالية في العلم والثقافة والأدب؛ فهذا أبو همام محمد بن محبَّب البصري التابعي الذي ذكره الإمام البخاري (ت 256هـ/870م) -في ‘التاريخ الكبير‘- فقال إنه "صاحبُ الرقيقِ الدلّالُ (= السمسار)..، سمع سفيان عن الأعمش عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة". فإذا كان تاجر الرقيق من أصحاب الحديث فمن الطبيعي أن تنشأ جارية يملكها على ثقافته أو تسمع منها على الأقل ما دامت في ملكيته.
وقد ترجم الإمام المؤرخ الصفدي الشافعي (ت 764هـ/1362م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- لأحد مثقِّـفي الجواري في مكة كان يُعرف بـ"خليلان المغني"؛ فقال إنه "الخليل بن عمرو المكي المعلم المغني المعروف بخليلان..، وكان يؤدِّب الصبيان ويلقِّنهم القرآنَ والخطَّ، ويعلّم الجواريَ الغناءَ، [والجميع] في موضع واحد"!! ويخبرنا التابعي عبد الله بن جعفر -في حواره المذكور سابقا مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان- بأسلوبه في تثقيف الجواري فيقول: "أشتري.. الجارية الحسناء من مالي، فأختار لها من الشعر أجوده ومن الكلام أحسنه، ثم تردده عليّ بصوت حسن"!!
ويبدو أن الشاعر المشهور أبا نواس (ت 198هـ/813م) كان ممن يتعاطى أحيانا بيع الجواري، فلا يُستبعَد أنه كان يُحفّظهن من أشعاره طلبا لزيادة الرغبة فيهن من رواد سوق الجواري؛ فقد جاء في كتاب ‘أخبار أبي نواس‘ لأبي هَفَّان العَبْدي (ت 257هـ/871ٍم) أنه قال: "حدثني يوسف ابن الداية (ت بعد 260هـ/874م وهو والد الوزير الطولوني الشهير أحمد ابن الداية المتوفى 340هـ/951م) قال: كان أبو نواس قاعدا عندنا في سوق الرقيق وهو يعترض الجواري، فاشترى عدة وباع عدة، وكُنَّ حِسان الوجوه آخذاتٍ بالألباب"!!
ومن ذلك أيضا ما سيأتي عن بعض الجواري اللواتي كُنّ في عهدة النخاس البغدادي الشاعر محمود بن حسين الورّاق (ت بعد 220هـ/835م). ومن مؤدبي الجواري أيضا الشاعر ووالي بغداد عُبيد الله ابن طاهر (ت 300هـ/912م) الذي يفيدنا العمري بأنه "توشَّح بالأدب.. واقتنى الجواري وأخذهن بالإحسان وألقى عليهن الأصوات (= الألحان الغنائية)..، ولم يكن يُذكَر بالغناء إلا جواريه"!
ومن النخاسين العلماء ابن الكتاني الأندلسي السابق ذكره؛ فقد قال الحافظ المحدِّث الحُمَيدي الأندلسي (ت 488هـ/1095م) -في ‘جذوة المقتبِس‘- إن "له مشاركة قوية في علم الأدب والشعر، وله تقدم في علوم الطب والمنطق، وكلام في الحِكَم، ورسائلُ في كل ذلك وكتبٌ معروفة". وكان ابن الكتاني هذا شيخَ الإمام ابن حزم الظاهري (ت 456هـ/1065م) في علم المنطق؛ وفقا لقاضي القضاة ابن خلكان (ت 681هـ/1283م) في ‘وفيات الأعيان‘.
وقد عُرف ابن الكتاني في الأندلس بالاعتناء البالغ بتثقيف جواريه، حتى شهد له مؤرخها ابنُ بسام الشنتريني (ت 542هـ/1147م) -في ‘الذخيرة‘- بأنه كان "مُنَفِّقاً (= مروِّجا) لسوق قِيانه، يعلمهن الكتاب والإعراب، وغير ذلك من فنون الآداب"! ولذلك لا عجب أن عادت عليه المتاجرة بهؤلاء الجواري العالمات بأرباح طائلة، جعلت بلديَّه القاضي صاعد الأندلسي (ت 462هـ/1071م) يصفه بأنه "كان ذا ثروة وغنى واسع"؛ وفقا لما نقله عنه ابنُ أبي أُصَيْبِعة (ت 668هـ/1270م) في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘.
ولنستمع إلى ابن الكتاني نفسه ليصف لنا تنوع معارف جواريه حتى غدت داره معهدا للفنون والآداب يجمع 13 تخصصا؛ إذ يقول عن ذلك وفقا للشنتريني: "في ملكي الآن أربعُ روميات كُنَّ بالأمس جاهلات، وهن الآن عالمات حكيمات (= طبيبات) منطقيات فلسفيات هندسيات موسيقاويات أسطرلابيات معدِّلات (= مؤقِّـتات) نجوميات نحويات عَروضيات أديبات خطاطيات، تدل على ذلك -لمن جهلهن- الدواوين الكبار التي ظهرت بخطوطهن في معاني القرآن وغريبه وغير ذلك من فنونه، وعلوم العرب من الأنواء والأعاريض والأنحاء، وكتب المنطق والهندسة وسائر أنواع الفلسفة، وهن يتعاطين إعراب (= تشكيل) كل ما ينسخنه ويضبطنه فهماً لمعانيه ولكثرة تكرارهن فيه"!!
تخصص وانتقاء
وقد كانت الجواري تصنَّف لدى بيعهن بحسب تخصصهن ومهاراتهن؛ فمنهن من كانت للخدمة والرعاية، ومنهن من كانت تُرغَب للإنجاب، ومنهن القينات والمغنيات، وأرفعهن شأنا المحظياتُ ممن بلغن درجة فائقة من العلم والجمال، وقد ملكن قلوب الخلفاء والأمراء وكبار التجار والموسرين، واشتُهرن بالذكاء والفصاحة والبيان، فرُويت فيهن الغرائب والنوادر. ومن ذلك ما يرويه الطبري (ت 311هـ/923م) -في تاريخه- أن إحدى هؤلاء الفصيحات نظرت إلى الخليفة "سُلَيْمَان بن عبد الملك له يوما، فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
أنتَ خيرُ المتاع لو كُنتَ تبقى ** غير أن لا بقـــــــاءَ للإنسانِ
ليس فيما علمـــــتُه فيكَ عيبٌ ** كان في الناس غيرَ أنك فانِ"!
بل ثبت أن بعض الخلفاء كان يطلب من كبار العلماء والأدباء تقييم ثقافة الجواري، وانتقاء أفضلهن له بناء على نتيجة هذا التقييم؛ فحافظ المشرق الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) ينقل -في ‘تاريخ بغداد‘- أن إمام الأدب الأصمعي (ت 216هـ/831م) قال "[دخلتُ] على [الخليفة] الرشيد -وهو جالس منفرد- فسلمتُ، فاستدناني وأمرني بالجلوس فجلستُ. وقال لي: يا عبد الملك (= الأصمعي)، وجهتُ إليك بسبب جاريتين أُهديتا إليّ، وقد أخذتا طرفا من الأدب، أحببتُ أن تبور (= تختبر) ما عندهما، وتشير عليَّ فيهما بما هو الصواب عندك…!
فحضرت جاريتان ما رأيتُ مثلهما قط، فقلت لأجلّهما (= أسنّهما): ما اسمكِ؟ قالت: فلانة. قلتُ: ما عندكِ من العلم؟ قالت: ما أمر الله به في كتابه، ثم ما ينظر الناس فيه من الأشعار والآداب والأخبار، فسألتها عن حروف من القرآن فأجابتني كأنها تقرأ الجواب من كتاب، وسألتها عن النحو والعَروض والأخبار فما قصّرتْ، فقلتُ: بارك الله فيكِ، فما قصرتِ في جوابي في كل فن أخذتِ فيه، فإن كنت تقرضين (= تنظمين الشعر) فأنشدينا شيئا، فاندفعت في هذا الشعر:
يا غياثَ البلادِ في كل مَحْلٍ *** ما يريدُ العـــبادُ إلا رضاكا
لا ومَن شرّفَ الإمامَ وأعلى *** ما أطاعَ الإلهَ عبدٌ عصاكا!
ومرَّتْ في الشعر إلى آخره؛ فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ما رأيتُ امرأةً في مَسْكِ (= جِلْد) رجلٍ مثلها! وقالت الأخرى فوجدتهُا دونها، فقلتُ: ما تبلغُ هذه منزلتَها إلا أنها إن وُوظِب عليها لحقتْ [بها]".
وأحيانا يتولى الأميرُ بنفسه -إن كان من أهل العلم والأدب- اختبار الجارية قبل شرائها، خاصة إذا كان النخاس ممن يساوم الأمراء في أثمان الجواري المثقفات الفصيحات؛ فقد نقل السيوطي (ت 911هـ/1506م) -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن "بعض النخّاسين [كان] يقول: عرضتُ على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدبة شطرنجية (= تلعب الشطرنج)، فساومتُه في ثمنها بألفي دينار، فقال المأمون: إن هي أجازت بيتًا أقولُه ببيتٍ من عندها أشتريها بما تقول وزدتُّك، فأنشدَ المأمونُ:
ماذا تقولين في مَن شفَّه أرَقٌ ** مِن جَهد حُبكِ حتى صار حيرانا؟!
فأجَازته:
إذا وجدنا مُحِــبًا قد أضرَّ به ** داءُ الصَّبــــــابة أولينَاهُ إحْسَــــانًا"!!
وكان من عادة بعض السلاطين المثقفين تنظيمَ مسابقاتٍ أدبيةً غنائيةً يختبر بها مهارات ومعارف جواريه؛ كما فعل ذات يوم الخليفة الأموي الأندلسي الحَكَم المستنصر (ت 366هـ/977م) المشهور بغزارة العلم وكثرة الكتب؛ فقد روى ابن فضل الله العمري "أن الحَكَم جلس في مجلس له يمتد فيه طلقُ النظر في فسيح الفضاء..، وجمع جواريه واقترح عليهن الأصوات (= الألحان)..، [ثم] أقبل عليهن وقال لهن: أيَّتُكُنَّ تضع لحنا في شعر.. يحسن لديّ موقعه.. حكمتُ لها على صاحباتها وأجبتها إلى ما تمنت، فلم يبق منهن إلا من صنعـ[ـت] لحنا وأبدعـ[ـت] فيه حسنا، وهو لا يُقْبِل عليه ولا يلتفت إليه، حتى اندفعت [الجارية] بهجةُ تغنِّي.. فطرب الحَكَم..، ثم حكم لها على كل مَن تغنَّتْ، وأنجز لها ما تمنّتْ"!!
مواهب وملكات
وتروي لنا كتب التواريخ والأدب أخبارًا كثيرة عن ثقافة هؤلاء الجواري العالية، حتى صار بعضهن عاملات في المكتبات العامة التي كان ينشئها سلاطين الدول الإسلامية؛ ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) -في ‘رسالة الغفران‘- من أن الجاريةَ "‘توفيق السوداء‘.. كانت تخدم بدار العلم ببغداد" أيام حكم البويهيين، وكان من مهمتها مساعدة الوراقين بأن تُخرِج "الكتبَ للنُّسّاخ"، ولعلها كانت أيضا تساهم في نسخ مخطوطات هذه المكتبة، وربما يكون المعري لقيها في هذه المكتبة العظيمة التي كان ارتيادُها من أهم دوافع زيارته لبغداد مطلع القرن الخامس.
ومن هؤلاء الجواري المملوكات طبقة برعت في الشعر وفنونه فعُرفت المنتميات إليها بـ"الإماء الشواعر"، حتى إن الأصبهاني صنّف كتابا بهذا العنوان ضمنه أخبارهن وأشعارهن. وقد رصدت لنا كتب التراجم والأدب قصصا تدل على سرعة بديهة بعضهن وذكائهن مما أعجزن به الخلفاءَ عن الرد عليهن؛ فالإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) يروي -في ‘مرآة الزمان‘- أن جارية تُسمى "عِنانُ.. [كانت] أديبةً شاعرة حاذقة ظريفة، عارفةً بأصوات الغناء، استعرضها الرشيدُ ثم لها عن شرائها، ثم جلس ليلةً.. فغنَّاه بعضُ مَن حضر أبياتَ جرير (ت 110هـ/719م):
إنَّ الذين غَدَوْا بلُـــبِّك غادروا ** وَشَلًا بعينِكَ لا يــزال مَعينا
غيَّضنَ مِن عَبَراتهنَّ وقلْنَ لي ** ماذا لقيتَ من الهوى ولَقِينا!
فطرِب [الرشيد] وقال: أيُّكم يُجيزه بمثله وله عشرةُ آلاف درهم؟ فما أَجازه أحد، وكان على رأسه خادمٌ واقف فدخل على عنانَ فأخبرها، فقالت في الحال:
هيَّجتَ بالقـــول الذي قد قلتَه ** داءً بقلــــــــبي لا يزال دَفينا
قد أَينَعَتْ ثَمرَاتُه وتضاعفَتْ ** وسُقينَ من ماء الهوى فرَوِينا
كذَبَ الذين تقوَّلــوا يا سيِّدي ** إنَّ القلــــوبَ إذا هَوَينَ هَوِينا!
فقال: قد أجازه شخص وأَنشده الأبيات، فقال: وَيحَك لمَن هذا؟ قال: لعِنان، فبعث فاشتراها في الحال بمئة ألفِ درهم"!!
وكانت عَريب المأمونية (ت 277هـ/890م) واحدة من "الإماء الشواعر" المشهورات، وعُرفت بأنها جارية الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) الأثيرة لديه فلذلك نُسبت إليه. وعنها يقول الأصبهاني في ‘الأغاني‘: "كانت عَريب مغنّية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظَّرْف، وحُسن الصورة وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب"!
ويبدو أن هؤلاء الجواري البارعات في الفنون والمعارف قد أخذن بألباب الخلفاء والأمراء؛ فقد ذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أن المعتصم طلب "جارية كانت لمحمود الورّاق -وكان نخّاسا- بسبعة آلاف دينار (= اليوم 1.2 مليون دولار أميركي تقريبا) فامتنع محمود من بيعها، فلمَا مَات محمود اشتُريت للمعتصم مِن ميراثه بسبعمئة دينار".
مشاركة أندلسية
في سنة 206هـ/822م ظهر في سماء الأندلس نجم الموسيقار العراقي زرياب الموصلي (ت 243هـ/858م)، قادما من بلاط الخلافة العباسية ببغداد بآخر ما تفتقت عنه عقولها الفنية في مجال الغناء وآدابه؛ فأحدث في مهجره الأندلسي أثرا عظيما تغير به مجرى تاريخ البلاد الفني، وشجعه على ذلك ما لقيه من حفاوة عظيمة لدى ملوكها الأمويين حتى إنه صار "يركب في أكثر من مئة مملوك، وفي ملكه ثلاثمئة ألف دينار دون الضِّياع (= العقار والأراضي)"؛ كما يقول المقري في ‘نفح الطيب‘.
وفي بيت زرياب -الذي كان أشبه بمدرسة لتكوين الجواري والغلمان في معارف المعازف- تخرجت طبقة أندلسية خالصة من الجواري ذات الثقافة الغنائية والأدبية العميقة؛ فقد ذكر المقري أنه "كان لزرياب جارية اسمها متعة، أدَّبَها وعلّمها أحسن أغانيه حتى شبَّت وكانت رائعة الجمال"، كما كانت منهن "مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل، [فقد] أخذت عن زرياب الغناء وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت"!
على أنه لم يكن في مقدور المدرسة الزريابية وحدها أن تحقق "الاكتفاء الذاتي" للأندلسيين من الجواري المثقفات، أو تنهي عملية جلب التجار لهن من المشرق. ولذلك حفظت لنا تواريخ المغرب والأندلس أسماء كثيرات من هؤلاء الجواري اللاتي بلغن الغاية في الأدب والظرف والفصاحة، واستُقدم كثير منهن من حواضر الشرق الإسلامي وخاصة المدينة المنورة وبغداد.
فقد أورد العلامة المقري (ت 1041هـ/1632م) -في ‘نفح الطيب‘- أسماء طائفة من الجواري المغنيات، جاء بهن من المدينة المنورة رجالٌ بعثهم لهذا الغرض أميرُ الأندلس الأموي عبد الرحمن بن الحكم (ت 238هـ/852م)، فتكوّنت منهن طبقة فنية نسائية خُصص لها جناح في القصر الأميري بقرطبة عُرف بـ”دار المدنيات“!
وكان ممن ذكرهن المقري الجاريةُ "فَضْل المدنية.. [التي] كانت حاذقة بالغناء كاملة الخصال، وكانت لإحدى بنات هارون الرشيد، مَنشؤُها وتعلُّمُها ببغداد ودَرَجت (= رحلت) من هناك إلى المدينة فازدادت ثَمَّ طبقتُها في الغناء، واشتُريت هنالك للأمير عبد الرحمن مع صاحبتها [الجارية] عَلَم وصواحب غيرها إليهن يُنسب ”دار المدنيات“ بالقصر، وكان [الأمير] يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن وأدبهن"!!
وتسمية جناح الجواري المثقفات في قصر قرطبة بـ”دار المدنيات“ تحيل الأذهانَ إلى المكانة الكبيرة للجواري المشرقيات في قلوب الأندلسيين، حتى إنهم إذا برعت فيهم جارية أندلسية محلية قالوا عنها "كأنها من قيان المشرق المتقدمات"؛ كما وصف بذلك الإمامُ المحدّثُ ابنُ الأبّار الأندلسي (ت 658هـ/1260م) -في كتابه ‘التكملة‘ الذي ترجم فيه لـ12 جارية ما بين عالمة وأديبة ومغنية- الجاريةَ "نزهة الوهبية"، فقال إنها "كانت إحدى عجائب القيان بالأندلس حَذْقاً وطَبْعاً وحُسْناً وظَرْفاً، تنشد الأشعار وتورِد الحكايات والأخبار، وتذكُر أيام العرب، وتشارك في حفظ الأمثال والنسب"!!
مشيخة للعلماء
وللحظوة الخاصة لجواري المدينة المنورة المثقفات لدى الأندلسيين كان تجار الرقيق المشارقة يتكبدون السفر بهن إلى الأندلس، فيعرضوهن على علية القوم هناك -حتى ولو كانوا من كبار القضاة وأولي العلم- مستعرضين لهم مهاراتهن ومعارفهن.
فقد جاء في رواية للمحدّث الحميدي عن شيخه الإمام ابن حزم "أن رجلا من أهل المشرق يُعرف بالشيباني دخل الأندلس فسكن قرطبة..، فخرج قاضي الجماعة (= قاضي القضاة) ابن السليم (أبو بكر ت 367هـ//978م) يوما لحاجة فأصابه مطر اضطره إلى أن دخل بدابته في دهليز [دار] الشيباني..، فرحب بالقاضي.. وأدخله إلى منزله.. فقال له: أصلح الله القاضي! عندي جارية مدينية لم يُسمع بأطيب من صوتها، فإن أذنتَ أسمعتْكَ عَشْراً من [آيات] كتاب الله عز وجل وأبياتا، فقال له: افعلْ، فأمر الجارية فقرأتْ ثم أنشدتْ؛ فاستحسن ذلك القاضي وعجب منه"، ثم أهدى للجارية عشرين دينارا وودَّعهما!!
ومن الجواري المثقفات المشرقيات أيضا "قمر البغدادية" جارية إبراهيم بن حَجّاج اللخمي (ت 298هـ/912م) والي إشبيلية في زمن الأمير عبد الله بن محمد الأموي (ت 300هـ/912م)؛ فقد كانت -وفقا لابن الأبّار- "من أهل الفصاحة وَالْبَيَان والمعرفة بصوغ الألحان، لا تُدانَى أدباً وظَرْفا وَرواية وحفظا، مع فهم بارع وجمال، وكانت تقول الشِّعر بفضل أدبها".
ومن بديع شعرها ما رواه المقري -في ‘نفح الطيب‘- من "قولها تتشوق إلى بغداد":
آهاً على بغــدادها وعـــراقها ** وظبائــــــها والسِّحْر في أحــداقها!
ومجالُـها عند الفـرات بأوجه ** تبدو أهلــــتُها على أطــــــــــواقها
متبخــتراتٍ في النعــيم كأنما ** خُلِق الهــوى العذريّ من أخـلاقها
نفسي الفداءُ لها فأيُّ مَحاسنٍ ** في الدهر تُشـرِق مِن سَنا إشراقها!
وإذا كان جلبُ الجواري المثقفات من المشرق هو القاعدة العامة في الأندلس؛ فإنه حصل أحيانا أن بعض هؤلاء الجواري كُنّ أندلسياتِ الولادة لكن تداولتهن أيدي النخاسين حتى أوصلتهن إلى المشرق، حيث تثقفن بمعارفه الأدبية ثم "أعيد تصديرهن" إلى بلادهن الأندلس. ومن النماذج الشهيرة لذلك قصة "الجارية قَلَم" التي قال المقري إنها نالت "الحظوة عند الأمير عبد الرحمن، وكانت أندلسية الأصل رومية من سبي البَشْكُنْس/البَشْكُنْش (= اليوم إقليم الباسك الإسباني)، وحُملت صبيّةً إلى المشرق فتعلمت الغناء بالمدينة، ثم جُلبت إلى الأندلس للأمير عبد الرحمن..، وكانت أديبة ذاكرة حَسَنة الخط، راوية للشعر حافظة للأخبار، عالمة بضروب الآداب"!!
ولئن بلغت بعض هؤلاء الجواري شأوا عظيما في الذكاء والبيان وسرعة البديهة في الرد شعرًا كان أم نثرًا في المشرق، فقد رأينا في المغرب أمثالهن أيضا؛ فقد أورد المقّري أنه كانت لأحد أعيان شاطبة بالأندلس جارية اسمها "هند الشاطبية" اشتهرت بأنها من الماهرات في الشعر والغناء، وقد أُعجِب بمهارتها وشعرها أدباءُ وعلماءُ وقتها مثل أديب شاطبة ومؤرخها أبي عامر محمد بن يحيى بن ينق (ت 547هـ/1152م)، الذي أرسل إليها "يدعوها للحضور عِنْده بعُودِها":
يَا هِنْدُ هَل لَكِ فِي زِيَـــــارَة فتيةٍ ** نبذوا المَحَارِم غير شرب السَّـلْـسَلِ
سمِعُوا البلابلَ قد شَدَتْ فتذكَّرُوا ** نغمـــاتِ عُودِكِ فِي ”الثقيلِ الأولِ“!
فَكتبت إِلَيْهِ على ظَاهر رقعته:
يَا سيداً حَاز الــــــعُلَا عَن سادةٍ ** ”شُمِّ الأنوف مِن الطِّــراز الأوَّلِ“
حسبي من الْإِسْرَاع نَحْوَكَ أنني ** كنتُ الجوابَ مَعَ ”السودِ المُقبل“!
ومنهن من تعلم على يديها بعض علماء الأندلس مثل الجارية "إشراق السويداء" (ت بعد 443هـ/1052م) المعروفة بـ"إشراق العَروضية" لمهارتها في علم العروض الشعرية، وقد برعت في عدة معارف حتى تجاوزت مستوى أستاذها الذي علمها إياها!! ويقول ابن الأبّار إنها كانت "أخذت عن مولاها أبي المطرف (ابن غَلْبون القرطبي ت 443هـ/1052م) العربية واللغة والآداب..، وكانت قد فاقته في كثير مما أخذته عنه وأحسنت في كل ما تناولته، وكان لها علم بالعَروض وأوزان الشعر؛ قال [شيخُ قُـرّاء زمانه بالأندلس] أبو داود سليمان بن نجاح المقرئ (ت 496هـ/1102م): أخذتُ أنا عنها العَروض وقرأتُ عليها [كتابيْ] ‘النوادر‘ لأبي علي (القالي ت 356هـ/967م) و‘الكامل‘ لأبي العباس المبرد (ت 286هـ/899م)، وكانت تحفظ الكتابين ظاهرا تنصُّهما حفظاً وتتكلم عليهما" شرحا وتفسيرا!!
تمكُّن واثق
كما بلغت جاريات أخريات درجة من التمكن في فن معيّن خولتهن الحق في تحدي علماء بلدهن في معرفة دقائق هذا الفن؛ ومن هؤلاء "الجارية العبّادية" التي كانت في قصر أمير إشبيلية المعتضد بن عباد (ت 461هـ/1070م) وكانت متبحرة في فقه اللغة، وقد وصفها ابن الأبار بأنها "كانت أديبة ظريفة كاتبة شاعرة ذاكرة لكثير من اللغة"، ثم ذكر ألفاظا من عويص اللغة "أغربت [بها].. على علماء إشبيلية..، فما كان بإشبيلية -في ذلك الوقت- من عرف منها واحدا"!!
ومنهن من كانت عالمة بالحديث النبوي الشريف ترويه عن كبار العلماء؛ فالمؤرخ ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ/1080م) يقول -في ‘المُقتبَس‘- إنه "لما حجَّ حبيب [الملقب] دحّون (ابن الوليد الأموي ت بعد 200هـ/815م) اجتمع بمكة مع ابن عمه محمد بن يزيد بن سلمة..، فوهب له محمد جارية تسمى عابدة [المدنية]، وكانت سوداء حالكة من رقيق المدينة، وكانت تروي عن مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) وغيره من العلماءِ شيوخِها، فتُسنِد عشرة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقدم بها دحّون إلى الأندلس وهو قد أعجب بعلمها وفهمها"!
بل إن بعض هؤلاء الجواري بلغن غاية المهارة في تعلّم بعض العلوم التجريبية، مثل جارية الخليفة الحكم المستنصر (ت 366هـ/977م) التي اشتُهرت بالذكاء والنباهة؛ فأرسلها الحكمَ إلى "سليمان بن أحمد بن سليمان الأنصَارِي المعرُوف بالرصافي أن يعلمهَا التَّعْدِيل وخدمة الأَسْطُرْلابُ (= آلة فلكية قديمة) وما يجري في مجرى هذا، فقبلت ذَلِك كُله وحذَقته، وأعانتها قريحتها واستكملت علمه فِي ثلاثة أَعْوَام أَو نحوهَا، وأُعجِب الحكَم بها وألزمها خدمَة مَا تعلّمته في دَاره"!!
وبعضهن كُنَّ يُتقن عددا من هذه العلوم مع ثقافتهن الأدبية والغنائية بحيث تغدو الواحدة منهن موسوعة معارف متكاملة؛ مثل جارية أمير منطقة السهلة شرقي الأندلس هُذَيل بن خلف ابن رَزين (ت 436هـ/1044م) الذي يفيدنا الشنتريني -في ‘الذخيرة‘ نقلا عن المؤرخ ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ/1077م)- بأنه كان "أول من بالغ الثمن بالأندلس في شراء القينات، [فقد] اشترى جارية أبي عبد الله المتطبب ابن الكتاني بعد أن أحجمت الملوك عنها لغلاء سوْمها، فأعطاه فيها ثلاثة آلاف دينار (= اليوم نصف مليون دولار أميركي تقريبا) فملكها…، وابتاع إليها كثيرا من [الجواري] المُحْسِنات المشهورات بالتجويد، طلبَهن بكل جهة؛ فكانت ستارتُه (= مجلسه الغنائي) في ذاك أرفعَ ستائر الملوك بالأندلس"!!
ثم يحدثنا ابن حيان عن الثقافة الغنية التي حازتها هذه الجارية بإشراف مالكها العالم الموسوعي الكتاني؛ فيقول إنها "كانت واحدة القيان في وقتها، لا نظير لها في معناها، لم يُرَ أخفُّ منها روحا..، ولا أطيب غناء، ولا أجود كتابة، ولا أملح خطاً، ولا أبرع أدبا، ولا أحضر شاهدا على سائر ما تُحْسنه وتدَّعيه، مع السلامة من اللحن فيما تكتبه وتغنّيه، إلى الشروع في علم صالح من الطب ينبسط به القول في المدخل إلى علم الطبيعة وهيئة تشريح الأعضاء الباطنة، وغير ذلك مما يقصر عنه كثير من منتحِلي الصناعة، إلى حركة بديعة في معالجة صناعة الثـِّقاف (= تقويم الرماح) والمجاولة (= المقاتلة) بالحَجَفة (= تُرْسٌ جِلْدي) واللعب بالسيوف والأسنّة (= الرماح) والخناجر المرهَفة، وغير ذلك من أنواع اللَّعِب المطربة، لم يُسمع لها بنظير"!!
وكان بعضُ الأمراء إذا سمع عن شُهرة جارية -بإقليم من الأقاليم البعيدة- وحَذْقِها لفن من الفنون حرص على جلبها بكل سبيل ممكنة، ومن هؤلاء "قمر البغدادية" المذكورة آنفا. فقد قال ابن عذاري (ت بعد 712هـ/1312م) -في ‘البيان المُغرب‘- إن الوالي الأندلسي إبراهيم بن حجاج اللخمي سمع بمهارتها وثقافتها "فوجَّه بأموال عظيمة إلى المشرق في ابتياع هذه الجارية إلى أن استقرت بدار مملكته إشبيلية، وكانت كالبدر المنير ذات بيان وفصاحة ومعرفة بالألحان والغناء..، وكان لها شِعر يُستحْلَى ويُستحسَن؛ فمِن قولها ترد على من عَذَلَها (= عاتبها):
قالُوا أتتْ "قَمَـــرٌ" في زِيِّ أطمَارِ ** مِنْ بَعدِما هَتَـــــكَتْ قَلباً بِأشفَارِ
تُمسِي علىَ وَحَلٍ تغـدو على سُبُلٍ ** تَشُقُّ أمصارَ أَرْضٍ بعدَ أَمصَارِ
لا حُرَّةٌ هَيَ مِن أحـرار مَوضِعِها ** وَلاَ لَهَا غَيرُ تَرســــــيلٍ وأشعَارِ
لَو يعقلون لَمَا عَـــــابُوا غَريبَتهم ** لله مِن أمَةٍ تُـــــزرِي بأحـــرارِ!
ما لابنِ آدمَ فــــخرٌ غَيرَ هِمَّــــتِهِ ** بَعدَ الدِّيَانةِ والإخلاصِ للبارِي"!!
المصدر : الجزيرة