بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
معنى الشر:
الشر وجمعه شرور، وهو - لغة - ضد الخير، ويعني السوء، ومصدره الشرارة، والأشرار ضد الأخيار.
كما يأتي بمعنى الحدة في الطبع، وما لا يترتب عليه صلاح، وما تظهر آثاره السيئة.
وبالنسبة للمعنى الأول: «الحدة في الطبع» فهو ناظر إلى الفاعل وليس إلى الفعل إلا باعتبار ما يمكن أن ينتج عن تلك الحدة من فعل سيء تترتب عليه بعض الشرور والمضار، ولذا لا نراه تعريفا دقيقا للشر.
كذلك الحال في التعريف الثاني: «ما لا يترتب عليه صلاح» لا نراه تعريفا دقيقا، لعدم وجود الملازمة بين عدم ترتب الصلاح وبين الشر، إذ ليس بالضرورة أن يكون كل ما لا يترتب عليه صلاح شرا، فقد لا يترتب عليه لا صلاح ولا فساد.
وأما المعنى الثالث: «ما تظهر آثاره السيئة» فكأنه لا يعتبر كل أثر سيء من الشر، وإنما يشترط ظهور ذلك الأثر وبيانه، في حين أن عدم الظهور لا يعني عدم التأثير أو التأثر، مما يعني عدم صحة ولا أقل من عدم دقة هذا الشرط.
وقد حاولت الدكتورة «قمر مفتاح الرومي» الجمع بين هذه المعاني والتعريفات لتستخلص منها تعريفا لغويا للشر يشملها جميعها، فقالت: «الشر هو ما يظهر سوءً في أمر اتصف بالحدة، ولا يترتب عليه صلاح منشود، كما تظهر آثاره السلبية في مناحي الحياة من حيث أن الإنسان الواعي مستخلف عن خالقه في إعمار الكون لا إفساده».
وأما في الاصطلاح فلعله من الصعوبة بمكان أن نقف على تعريف جامع مانع للشر، وذلك لأن أكثر التعريفات تقتصر على تعريف نوع من أنواعه وتغفل الأنواع الأخرى، ولذا أصبح لدينا أكثر من معنى للشر، وذلك حسب الزاوية التي يتم النظر من خلالها إليه، أو حسب نوعه وطبيعته، مما جعلنا نعرض عن نقل تلك التعريفات، التي يمكنك الوقوف على بعضها في ص300 - 303 من كتاب «التعريف اللغوي والتطور التاريخي للشر».
ولعله يمكننا أن نستخلص مما وقفنا عليه من تعريفات تعريفا جامعا لجميع تلك الأنواع والأقسام، وهو: أن الشر هو الفساد بما ينتج عنه من ضرر، وما يورثه أو يخلّفه من نقص في الكمال.
وأما من الناحية الفلسفية، فيذهب محمد بو هلال إلى أنه «لعل أبرز من صاغ تعريفا فلسفيا للشر في الثقافة العربية ابن سيناء والغزالي، وأبرز من صاغ مثل ذلك في الثقافة المسيحية القديسان: أغسطين وطوما الإكويني...»
وتوسع في نقل وبيان تلك التعريفات بما لا نرى ما يدعونا لنقله الآن، كوننا سنذكره في بعض الأطروحات القادمة المتعلقة بالموضوع، ويمكنك مراجعته في ص12 - 14 من كتابه: «معضلة الشر بين علم الكلام والفلسفة» وللتوسع في معرفة الرأي المسيحي في الشر وكيفية معالجته لهذه الشبهة، راجع كتاب «مشكلة الشر» للأب الراهب «كاراس المحرقي» تقديم لنيافة الأنبا رافائيل.
أقسام الشر:
ربما يمكننا أن نقسّم الشر إلى أربعة أقسام، هي على النحو التالي:
1 - الشر الناتج من الحوادث الطبيعية، كالزلازل والبراكين والأعاصير والحرائق.
2 - الشر الناتج من الحيوانات المفترسة والزواحف الضارة، كالأسود والنمور والفهود، والتماسيح والأفاعي والعقارب.
3 - الشر الناتج من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان نتيجة إغواء الشيطان، أو النفس الأمارة بالسوء.
4 - الشر المتمثل فيما يبتلى به الإنسان من أمراض، ويما يصاب به من عاهات.
فكل هذا وما هو على شاكلته هو المراد من الشر، لأنه ينغّص لذيذ عيش الإنسان، ويعكر صفو حياته، ويبدل راحته وسعادته بالتعب والشقاء، ويسبب له الأذى والألم في الجسم أو النفس، ويصيبه بالخسائر الكبيرة والفادحة في الأرواح والأموال والممتلكات.
وهذا التقسيم مهم جدا، لأنه يرسم منهجا واضحا للبحث في الموضوع، كما أنه يمكننا من معالجة كل قسم منه بما يناسب طبيعته، وذلك لأن بعض ما يصلح أن يكون جوابا لهذا القسم قد لا يصلح أن يكون جوابا للقسم الثاني، مع ملاحظة أن بعض الأطروحات شاملة لجميع الأقسام لمناسبتها لها جميعها.
وبتعبير آخر: هناك أطروحات عامة، وشاملة لجميع الأقسام، ولكن في المقابل بعض الأطروحات الأخرى هي مناسبة لقسم دون آخر.
ولعل هذا التفريق بين الشر، وتقسميه إلى عدة أقسام حسب نوعه وطبيعته، هو موجود عند الفلاسفة أكثر مما هو عند المتكلمين، الذين «لا نجد عندهم مثل هذا التمييز والتقسيم، ولا نقف لديهم على وعي صريح باختلاف أنواع الشر بعضها عن بعض من حيث الطبيعة أو المجال، اعتبروا الشر حقيقة واحدة، ولم يفرقوا بين ما كان منه في الطبيعة، وما كان منه في الحياة الاجتماعية»
وربما يمكننا القول أن قوله هذا ليس على الإطلاق، أو قد يكون هذا هو السائد عند قدماء علماء الكلام دون المحدثين منهم، الذين نرى لدى بعضهم مثل هذا التقسيم، كما نلاحظ اعتمادهم الفلسفة إلى جانب علم الكلام في مناقشة هذه الشبهة، ومحاولة تفنيدها.
الشر ابتلاء إلهي:
لقد جعل الله تبارك وتعالى الابتلاء قانوناً من القوانين الطبيعية، وسنة من السنن الكونية، التي تشمل جميع البشر من دون استثناء، فالناس كلهم - مؤمنهم وكافرهم، مسلمهم ومشركهم، صالحهم وطالحهم، الأنبياء ومن دونهم - معرضون في كل وقت وحين لكل أنواع الابتلاء والامتحان.
وهذا ما نشاهده في واقعنا المعاش الملموس، وهو أيضا ما تثبته النصوص الإسلامية الكريمة كتابا وسنة، كقوله تبارك وتعالى: ﴿ِإِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
وهذه الآية الكريمة تؤكد على عدة أمور هي على النحو التالي:
أولا: تؤكد على إن الإنسان مخلوق فلابد له من خالق، وذلك استناداً إلى «قانون العلية» الذي ينص على وجوب إسناد الأثر إلى المؤثر.
ثانيا: تؤكد على أن الخالق للإنسان هو الله تعالى، إذ أنه سبحانه هو الذي أفاض الوجود على كل الموجودات، وهذا ما تثبته الأدلة العقلية والفلسفية والكلامية والنقلية، بتفاصيل كثيرة لا مجال لبيانها وشرحها الآن، خصوصا وأنها خارج الموضوع.
ثالثا: تبين مادة خلق الإنسان، وأنه الله خلقه من ﴿مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ والنطفة - في اللغة - تطلق على الماء القليل، ثم غلب استعمالها في المادة المنوية للذكور من الحيوان.
والأمشاج، جمع مشج أو مشيج، ومعناه «الممتزج المختلط» وتم وصف النطفة بالأمشاج لتنوع أجزائها واختلافها، أو لاختلاط مياه الذكور بمياه الإناث حين يكون اللقاء بينهما.
رابعا: تبين الغاية من خلق الإنسان وإيجاده في الحياة فتقول: ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾ والابتلاء هنا - على رأي بعض المفسرين - هو الامتحان والاختبار.
فتكون النتيجة هي أن الغاية من خلق الإنسان وإيجاده في الحياة هو أن يبتلى ويمتحن ويختبر يكل أنواع الابتلاء والامتحان، وعلى ضوء نجاحه من عدمه في هذا الامتحان يحدد مصيره يوم القيامة.
والمهم الآن أن في القرآن الكريم آيات كثيرة جداً تتحدث عن الابتلاء، وتؤكد أنه سنة عامة تشمل جميع الناس من دون استثناء، كما أنها تعمم البلاء للإنسان في جميع ما يرتبط به وبوجوده، كالحياة والسمع والبصر، أو فيما يرتبط به وهو خارج عن وجوده، كالعشيرة والأزواج والأولاد والأصدقاء والمال، أو فيما يقابل هذه الأشياء، كالموت والمرض والزلازل والرياح، والفياضانات... وعلى الإجمال: فإن القرآن الكريم يثبت أن كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء الكون إنما هو بلاء من الله تعالى، مما يعني أن الابتلاء ليس فقط بالمحن والمصائب كما قد يتصور البعض، بل هو شامل لكل شيء ومنه النعم التي أنعم الله بها على الإنسان في هذه الحياة.
وأيضا في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن هذين النوعين من الابتلاء «المصائب، والنعم» وتؤكد أن الإنسان كما يبتلى بالمصيبة أيضا يبتلى بالنعمة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
يقول العلامة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾: «أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه، وما تريدونه من صحة وغنى ونحوها، امتحاناً، كأنه قيل: نحيي كلاً منكم حياة محدودة مؤجلة، ونمتحنكم فيها بالشر والخير امتحاناً، ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم ولكم، وفيه إشارة إلى علّة تحتّم الموت لكل نفس حية، وهي أن حياة كل نفس حياة امتحانيه ابتلائية.
ومن المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي، ومن الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد، ومن الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة، وبعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجة، وفي كل نفس حية موت محتوم، ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء».
ومن الآيات الواردة في هذه المعنى، قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾.
وقد فسر الطبرسي هذه الآيات فقال: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ أي اختبره وامتحنه بالنعمة، ﴿فَأَكْرَمَهُ﴾ بالمال، ﴿وَنَعَّمَهُ﴾ بما وسّع عليه من أنواع الأفضال، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ فيفرح بذلك ويسر، ويقول: ربي أعطاني هذا لكرامتي عنده ومنزلتي لديه، أي حسب أنه كريم على ربه حيث وسّع الدنيا عليه.
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ﴾ بالفقر والفاقة، ﴿فَقَدَرَ﴾ أي فضيق وقتر عليه رزقه، وجعله على قدر البلغة، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ أي فيظن أن ذلك هو من الله، ويقول: ربي أذلني بالفقر.
ثم قال: ﴿كَلَّا﴾ أي ليس كما ظن، فإني لا أغني المرء لكرامته عليّ، ولا أفقره لمهانته عندي، ولكني أوسّع على من أشاء، وأضيّق على من أشاء، بحسب ما توجبه الحكمة، ويقتضيه الصلاح، ابتلاء بالشكر والصبر».
إذن فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون القانون السائد في هذا الكون هو «الخير والشر» معا، وأن يتفاعل الإنسان مع ذلك كله، ويتأثر به سلبا وإيجابا، ليكون ما بين تعب وراحة، وسعادة وشقاء، وشدة ورخاء، وفقر وغنى، وصحة ومرض... وسيظل هذا النظام هو السائد على هذا الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.