الـزبّـال..لولا دا سيلفا
تساءلت، وأنا أتابع الاستعراض الرائع لمراسيم انتهاء دورة لندن للألعاب الاولمبية: لماذا اختار البرازيليون في لحظة تسلمهم راية الدورة الاولمبية القادمة، التي ستقام في بلادهم، زبّالا يحمل مكنسته على كتفه في أول لقطة؟ كنت أتوقع أنهم سيختارون لاعب كرة قدم شهير باعتبار البرازيل أفضل دولة باللعبة. وإن كان مفخرة البرازيل اللاعب بيليه قد ظهر أثناء الاستعراض لكنه جاء بعد ظهور الزبّال أولاً.
نسيت السؤال، أو غاب عن بالي، وما عاد يشغلني من حينها. لكن الصدفة جاءتني بالجواب يوم أمس من حيث لا احتسب. كنت في عيادة طبيب الأسنان انتظر دوري فامتدت يدي لواحدة من المجلات القديمة التي غالبا ما تترك على طاولة في غرفة الانتظار ليتسلى بها المراجع إلى أن يأتي دوره. وفيها وجدت سبب اختيار البرازيليين للزّبال المبتسم والخفيف الظل. اختاروه إكراما لرئيس دولتهم السابق لولا دا سيلفا، الذي أحبوه جدا حتى سموه "ابن البرازيل". كان الرئيس المحبوب يعمل زبّالا قبل توليه الرئاسة.
عدت من العيادة للبيت وبحثت عن دا سيلفا. أذهلني ما قرأته عنه حتى بدا لي وكأنه أسطورة هذا الزمان. قرأت انه بكى أكثر من مرة. منها يوم تذكر فقره، ويوم ماتت أمه ويوم ألح عليه الشعب لتغيير الدستور كي يسمح له بولاية ثالثة. بكى وقال انه لن يقبل أن يسن سنة قد تأتي عليهم ببلاء الدكتاتورية.
بدأ هذا الفقير حياته بالعيش تحت يد أب قاس طرد أمه الأمية مع 8 أطفال كان هو سابعهم في الترتيب. لم يتمكن من إكمال دراسته التي توقفت عند الخامس الابتدائي. ترك الدراسة ليعمل، وهو في تلك السن، صباغ أحذية، ثم بائع مناديل ورقية بالشوارع. انتقل ليصبح بعدها عتّالا ثم بائع خضراوات وصبيا في ورشة للنجارة. وظل يتنقل بين هذه المهنة وتلك حتى اشتغل عاملا ميكانيكيا في محل للخراطة وتصليح السيارات. وأثناء عمله في الخراطة قطع الإصبع الصغير من يده اليسرى وهو في سن الـ 19.
فاز في العام 2002 ليصبح رئيسا للبرازيل التي كانت مفلسة تماما. استطاع هذا القادم من بين أحضان الفقر والعوز، خلال 8 سنوات من حكمه، لا أن يخلصها من الإفلاس، حسب، بل صارت تمتلك فائضا نقديا يقدر بـ 200 مليار دولار. وتوقع المراقبون الاقتصاديون أن البرازيل ستصبح في العام 2016، وقبل بدء الاولمبياد، خامس قوة اقتصادية بالعالم. وهناك توقعات بأنها في العام ذاته، أو قبله، ستصبح عضوا دائما في مجلس الأمن لتمتلك حق الفيتو. قل التضخم في البرازيل بفضله حتى كاد أن يختفي مثلما انخفضت نسبة البطالة كثيرا. ارتفع مستوى الدخل وتطورت الخدمات التربوية والاجتماعية والاقتصادية بشكل لم تشهده البرازيل سابقا. ارتفعت شعبية الرجل بين البرازيليين إلى أكثر من 85%. لم يحبوا رئيسا أو نجما أو رمزا مثلما أحبوه. وحين تظاهروا في الشوارع ليرغموه على تجديد ولايته رفض تعديل الدستور من أجل شخص. خاطب شعبه والدموع تنهمر من عينيه:"سأغادر الرئاسة، لكن لا تظنوا أنكم ستتخلصون مني لأنني سأكون في شوارع هذا البلد للمساعدة في حل مشكلاته".
هذا الذي لا أظن امرأة ولدت رئيسا مثله جعلني أقضي ليلة كاملة في قراءة تفاصيل قصة حياته. قراءة ملأت قلبي حسرة على العراق وحظه العاثر مع حكامه الحاليين والسابقين.
منقول