لا يُخالِفُ عاقلٌ في فضلِ العلم و جليلِ مَحلِّه ، فهو على رأسِ الفَضائلِ ، و أحقُّها بالتَّقديمِ، وأسبقُها في استيجابِ التَّعظيم ، و هو السّبيلُ إلى خيرِ المنازلِ ، و الدَّليلُ على كلِّ الفضائلِ، وذروةُ المناقبِ و سنامُها ، و لولاه لَما بانَ الإنسانُ من سائرِ الكائناتِ إلاّ بالصّورةِ و الهيئة .
هذا ، و لقد أصبحَ في زَمانِنا مهْجورًا مَزْهودًا فيه ، حيثُ أصغَرَ النّاسُ أمرَه وتَهاونوا فيه ، فأصبحَ يُعاني غُرْبةً و قلَّةً ، نبَّه عليها رسولُ الله صلّى الله عليه و سلّم، حين قالَ في الحديثِ الذي رواه إسماعيلُ بنُ أَبي أُوَيْس عن مالكٍ عن هِشامِ بنِ عُروةَ عن أبيه عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاص :
« إنَّ الله لا يَقْبْضُ العِلْمَ انْتْزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ ، و لكِن يَقْبِضُ العِلْمَ بْقَبْضِ العُلَماءِ ، حَتّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِمًا اتَّخذَ النّاسُ رُؤوسًا جُهّالاً ، فسُئِلوا فَأَفْتَوْا بغَيْرِ عِلْمٍ فضَلّوا و أضَلّوا » [صحيح البخاري: 1/50].
فأكثرُ النّاس في هذا الزّمانِ ناكبون عن سبيلِ العلمِ ، متطيِّرون من اسمِه، متضايقون من أهلِه، والنّاشئُ منهم راغبٌ عن التّعليمِ ، و الشّادي تاركٌ للازديادِ منه، والعُلَماءُ غُرَباءُ في ديارِهم، مغمورون بين ذويهم و عِتْرَتِهم ، و سوقُ الجهلِ و الدّنيا في تنامٍ و ازديادٍ ، وسوقُ العلمِ قد أصابَها الكسادُ ، لقلّة عنايةِ أهلِه بحفظِه ، و البواعثُ إليه قلّت ، و الحوادثُ الصّارِفاتُ عنه عظُمت وجلَّت.
هذا، و إنّ النّكبَةَ التي حلّت في زمانِنا بالعلمِ هي «تَناقُصُ أطرافِه و فُشُوُّ أَدَواتِه»: ذلك أن المدَنيّةَ المعاصرةَ كلّما تقدّمت ازدادت اكتشافًا للوسائلِ و الأدواتِ التّقنيّةِ المتطوِّرةِ التي صُنِعت لنشرِ العلومِ و إذاعةِ المعارِفِ، و سهّلت على الإنسانِ سبُلَ الحياةِ، و يسّرت له اليومَ ما كانَ بالأمسِ عسيرًا . فقد شهدَ هذا العصرُ دفقةً واسعةً في وسائلِ اللّقانةِ [أفضّلُ استعمالَ "اللِّقانةِ" بدلاً من "البيداغوجيا" ، و هو اصطلاحٌ من اقتِراحِ الأستاذِ اللّغويِّ الكبيرِ: أحمد الأخضر غزال ، انطر في هذا الشّأن حوارًا أجرته معه مجلّةُ "الموقف" المغربيّة تحت عنوانِ "أحمد الأخضر غزال و تجربة المغرب الخاصّة في التّعريب". "الموقف" ع:3 ، محرم1408-شتنبر1987] والتّعليم ، لم تترُكْ صغيرةً و لا كبيرةً في ميادينِ البرامجِ و المناهجِ و طُرُقِ التّبليغِ والتّبسيطِ إلاّ ارْتادَتْها؛ فقد تنوّعت هذه الوسائلُ تنوُّعًا لافتًا، حيثُ ضمّت الكتبَ و المجلاّتِ و الحواسيبَ و المُلْصقاتِ و الإعلاناتِ و الألعابَ الهادفةَ والمنبِّهاتِ المثيرةَ للحواسِّ ، ووضَعَت الرّوائزَ و امتحنت المتعلِّمَ و حَمَلَتْه على سرعةِ الاهتِداءِ وحسنِ الجوابِ ...
أجَل ، ما عَرَفَ العالَمُ مرحلَةً كثُرت فيها الوسائلُ لنقلِ المعلوماتِ و المَعارِفِ ، كالمَرحلَةِ التي هو فيها ، الصُّحفُ أكثرُ من الهمِّ على القلبِ ، و الكُتبُ بجميعِ أصنافِها تقفِزُ من العَدَمِ إلى الوجودِ قفزَ الجَنادبِ ، و مَحَطّاتُ الإذاعةِ و الإرسالِ لا تفترُ عن بثِّ الأخبارِ صغيرِها و كبيرِها ، و بثِّ المعارِفِ والعلومِ دِقِّها و جِلِّها ...
ولو تأمَّلْتَ قيمةَ المعارِفِ و العُلومِ التي تتلقّاها الأجيالُ النّاشئةُ اليومَ ، لوجدْتَ أنّها معارفُ ضعيفةٌ مُعَرَّضَةٌ للنّسيانِ والضَّياعِ ، مطبوعةٌ بالعجَلَةِ و السّطحيّةِ ، مَشروطةٌ بالمُنبِّهات التي إذا توافرَت حضرت تلك المعلوماتُ والمعارِفُ وإذا غابت غابت، وإذا قُدِّرَ لك أن تُحاورَ شبابَ اليومِ ، لوجدتَ كثيرًا منهم – في الأغلبِ الأعمِّ – مفتقِرينَ إلى أدبيّاتِ الحوارِ و طرُقِ المناظرةِ و طولِ النَّفَس و منهجِ الإقناع و التّسلسُل المنطقيّ ... وهي أمورٌ كانت منتشرِةً يومَ لم تكن هذه الوسائلُ الهائلةُ مُتَوافرةً ، فلمّا اندفعَ سيلُ المُخترَعاتِ والتّقنيّاتِ التّلقينيّةِ قلَّ العَطاءُ و تراجعتِ القُدُراتُ ، و تخرّجَ على مدرسةِ التّقنيّاتِ الحديثة جيلٌ مُرهَقُ الفكْرِ مُنهَك الحواسِّ ، أتعبَتْه المنبِّهاتُ و بات يلتمِسُ مطلوبَه في الألعابِ المسلِّيَة والأنشطةِ المروِّحة . و لا شكّ أنّ السّببَ في ذلك كلِّه أنّ العلومَ والمعارِفَ أُفْرِغت من مضمونِها وجُرِّدت من مكْنونِها ، فأصبحت أصنافُه و مُصَنَّفاتُه كثيرةً و نُكَته قليلة، وأنواره ساطعة وثماره عزيزة ، و أجْسامه جَمّة و أرواحه نَزْرَة ، و ما ذلك إلاّ لأنّ العلمَ فُصلَ عن مكارمِ الأخلاقِ، فانحسَرَ هذا الفصلُ عن السّفاسفِ والأخلاق ، و أصبحَ المدرِّس مُجرَّد ملقِّنٍ للتّلميذ لا يختلفُ حالُه عن حالِ الآلاتِ المُلقِّنةِ التي تُؤمرُ فتستجيبُ، و أصبحَ التّلميذُ موكولاً إلى نفسِه و هو يتعلّمُ و يتلقّى، و فُصلت هذه المعارفُ عن التّربيةِ و التّوجيه و خُلُق الانضباطِ والاستِماعِ، وأسفَرت هذه المناهجُ المُفرَغة الجوفاءُ عن جيلٍ من المدرِّسين كانوا بالأمسِ تلاميذَ، فأثمَروا ما بُذِر فيهم، وانتَصبوا أمامَ أفواجٍ كثيرةٍ من التّلاميذِ فبثّوا فيهم ما لُقِّنوا أو ما هو دون ذلك، ولكنّهم قلّ زادهُم وضعفَت طرُقُهم، إلاّ القليل منهم، و استمرَّ هذا الخطُّ في دورانٍ مُغلَق. ولا تسأل عن آثارِ هذه المناهجِ العلمانيّةِ الفاصِلة في المجتمعِ برُمّتِه، وما تزوِّده به من ظواهرَ تربويّةٍ غريبةٍ ، تطبعُها الأنانيّةُ والسّطحيّةُ و العَجَلَة ، و تفتقِر إلى من يُسيِّرُ أمورَها و يقضي مآرِبَها و يأخذُ بيدِها ، ولكنّها أُعْطِيَت زمامَ تسييرِ الشّؤون العامّةِ ، و حُمِّلت المسؤوليّاتِ الجِسامَ ، فكانت وبالاً على البلادِ و العبادِ . و رأسُ الدّاءِ كلِّه هو « فُشُوٌّ مُريعٌ لأدواتِ العلمِ ، و تَناقُصٌ لأطرافِه » لمّا فُصل عن مرجعيّتِه العَقَديةِ و الخلُقيّة . فليس النّقصُ في وسائلِ نشرِ المعرفةِ ، و لكنّ النّقصَ في طبيعةِ المعرفةِ ذاتِها و ما ينبغي أن ترميَ إليه من إعادةِ تشكيلِ الإنسانِ وفقَ أصولِه الحضاريّةِ الأولى ، ثمّ ما يفرِضه العصرُ من تحدٍّ و مواجهةٍ ، و من حربٍ حضاريّةٍ كونيّةٍ، و "عَوْلَمَةٍ" تمتصُّ خٌصوصيّاتِ الأُمم و ثقافتَها ، و تُلْقي بها في يَمِّ التّمييعِ و التّضييعِ ، فتَصْهرُ عناصر القوّةِ في كلِّ ثقافةٍ ، و تَشُلُّ قُدْرَتَها عن كلِّ تأثيرٍ و غَلَبَةٍ و تَوْجيهٍ، فتَحْرِمُها من إفادةِ الثّقافاتِ الأخرى بتجاربَ إنسانيّةٍ خاصّةٍ يُمْكِنُ أن تُنْتَقى و تصيرَ نافعةً في حياةِ الأُمم والحضاراتِ. فمن المعلومِ أنّ النّظامَ الدّوليّ الجديدَ صيغةٌ تفتقرُ إلى نظامٍ، ونظريّةٌ في التّحضُّرِ تفتقرُ إلى حضارةٍ مؤطِّرةٍ، وجَسدٌ يفتقرُ إلى روحٍ، وصيغةٌ ذاتُ نظامٍ موهومٍ ألقِيَ بِها في دُنْيا النّاسِ لابْتِلاعِ الثَّقافاتِ القوميّةِ و الْتِهامِ كلِّ الثّوابِت، وطوفانٌ جائحٌ يُهدِّدُ بإغراقِ كلَّ شيءٍ، لأنّه عُنْوانٌ على «الزّمَنِ الغربِيِّ الجديدِ» الذي وصَلَ إلى مرحلةٍ يضيقُ عندَها بالاخْتلافِ و التّنوُّع [و هذا ما حذَّرَ منه صامويل هنتنغتون في كتابِه "صدام الحضارات" و فرنسيس فوكوياما في كتابِه "نهاية التّاريخ" : انظر: [الخروج من التّيه، دراسة في سلطةِ النّصّ: 9 و 352] ، سلسلة : عالَم المعرفة، ع:298، رمضان1424/نوفمبر2003، إصدار: المجلس الوطني للثّقافة و الفنون والآداب-الكويت ،.]
هذه هي العقبةُ الكأْداءُ التي ينبغي أن تقتحمَها المعرفةُ في الوقتِ الرّاهنِ، وهذا هو التّحدّي الذي تُواجهُه وهي تلتمسُ طريقَها إلى عُقولِ النّاسِ وقُلوبِهم، مُؤَزَّرَةً بإطارِها الحضاريِّ ومذهبِها العقَدي وتصوُّرِها السّليمِ الذي يربطُ العلمَ بأساسِ الأخلاقِ والإيمان