ماذا تعرف عن أم صلاح الدين المسيحية؟
ذكرنا في المقال السابق جانبا من صدمة المؤرخين الغربيين من فروسية صلاح الدين، لكن لم يكن هذا موقف الكل، بل لقد سلك بعض الغربيين مسلكا غير نزيه في إثبات فروسية صلاح الدين، فمنهم من سلبه مكانته العسكرية ليعترف له بنبل أخلاقه كما فعل المؤرخ الصهيوني يوشع براور، إذ اعتبره زعيما وقائدا عسكريا متوسط القيمة قبل أن يمدح كونه "رجل دولة موهوبا، كريما مع الصديق والعدو محبا للغير يبعث عن الثقة".
ومنهم من جعله استثناء وحيدا فدخل إلى مدحه عبر باب ذم قومه كما فعل تشارلز روزبولت بقوله: "طبقا لجميع نظريات الوراثة والبيئة كان ينبغي لصلاح الدين الكردي أن يكون قاسيا بلا رحمة، جشعا لا يبالي بغيره، طاغية متعجرف تتحكم فيه نزواته. لقد كان القوم الذين نشأ فيهم غارقين في البداوة، مقاتلين، لصوص، يحتقرون الحضارة…" وبعد أن انتهى من التحقير قال: "كان صلاح الدين فارس كل العصور، مثالي الأخلاق، مثالي السلوك، عظيم السخاء، بالغ الدماثة".
ومنهم من خلط مدحا بذم، كما فعل مؤرخ الحروب الصليبية ستيفن رنسيمان الذي وصفه بالقول: "لم يتجرد من الأخطاء، ففي سبيل الوصول إلى السلطة أظهر من المكر والقسوة ما لا يتلاءم مع ما حصل عليه من شهرة وصيت فيما بعد" ووصفه باضطهاد "المفكرين الأحرار" ولم يقبل أن صلاح الدين كان يعتقد أن المسيحيين مصيرهم جهنم!! ومع ذلك أسبغ عليه هذا المدح: "لم يحمله على القسوة إلا مصلحة قومه ودينه. كان شديد التقوى، وبرغم ما أحس به من الرحمة والعطف نحو أصدقائه المسيحيين، فإنه اعتقد أن أرواحهم مصيرها جهنم. ومع ذلك احترم أساليبهم، واعتبرهم رفاقا، واختلف عن ملوك الصليبيين في أنه لم ينقض عهده متى بذل العهد لأحدهم، مهما اختلف عنه في الدين… كان دمثا سخيا، وباعتباره غازيا وقاضيا اشتهر بالرحمة، وباعتباره سيدا كان متسامحا شديد التعقل والرزانة، ومع أن بعض أمرائه نفروا منه لأنه كردي محدث النعمة، ومع أن الدعاة في غرب أوروبا نعتوه بأنه المسيخ الدجال، فما من أحد من رعاياه لم يكن له الاحترام ويشتد تعلقا به، كما أن إعجاب أعدائه به لم يشذ عنه إلا عدد ضئيل… اشتهر دائما بالميل إلى البساطة، يكره الخشونة والتظاهر… على أنه كان محبا للاطلاع، ويجد متعة في المناقشات العقلية… اشتهر صلاح الدين بالتواضع والهدوء برغم ما بلغه من سلطان".
وبالمجمل، فكما تقول المستشرقة الألمانية المختصة في تاريخ الحروب الصليبية كارولين هيلينبراند، "لم يحدث أن تعلقت مخيلة الأوروبيين بشخص مسلم قدر تعلقها بـ(صلاح الدين). إن تفوقه على معاصريه، من مسلمين ونصارى، أقر به أعداؤه الصليبيون، إبان حياته. وإن صورته، حتى في ظل التعصب الأعمى للعصور الوسطى، قد بقيت نقية، لا بل أُضْفِيَ عليها عناصر رومانسية، في وقت كان فيه موقف أوروبا من الإسلام مزيجاً مؤسفاً من الجهل والعداء".
يفسر ول ديورانت ما أحاط بصلاح الدين من أساطير غربية بقوله: "كان في العادة شفيقا على الضعفاء، رحيما بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سموا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -"الخاطئ" في ظنهم- رجلا يصل في العظمة إلى هذا الحد".
ولذلك تعرض المسيحيون -كما تقول كارين أرمسترونج- لأزمة أمام ذلك المسلم الذي "سلك مسلكا يتوافق مع المبادئ المسيحية بخلاف مسلك محاربيهم الصليبيين لدى فتحهم أورشليم. وهكذا خرجوا بأساطير جعلت من صلاح الدين "مسيحيا شرفيا"، حتى إن بعض تلك الأساطير قالت بأنه كان قد تم تعميد صلاح الدين في السر".
ويختصر مكسيم رودنسون هذه الأساطير في قوله: "أثار العدو الأكبر صلاح الدين إعجابا واسع الانتشار بين الغربيين؛ فقد شن الحرب بإنسانية وفروسية، برغم قلة من بادلوه هذه المواقف… ووصل الأمر إلى حد أنه ظهرت في القرن الرابع عشر قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها "صلاح الدين" وأعيدت فيها صياغة حوادث الأساطير القديمة، وذلك لأن فارسا من هذا الطراز الرفيع يجب بالضرورة أن يصبح منتميا إلى الأسرة المسيحية، وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت".
وتفصيل هذه الرواية توردها المستشرقة كارول هيلينبراند، فتورد أن كتابا مجهول المؤلف يرجع إلى القرن الثالث عشر ومكتوبا بالفرنسية القديمة عنوانه "تاريخ ما وراء البحار وأصل صلاح الدين" يذكر أن صلاح الدين "كان باسلا جدا وحكيما"، وأنه سليل عائلة بونثيو الفرنسية النبيلة، وأن صلاح الدين طلب من سجينه هيو الذي كان يحكم طبرية أن يعلمه "كيف يصبح فارساً مسيحيًا، كما أنه لما أحس بقرب أجله أرسل إلى خليفة بغداد وبطريرك القدس وحكيم اليهود كي يرسل كل منهم إليه ممثلا عن دينه، ثم أمرهم بمناظرة بعضهم ليصل إلى "أي من هذه الديانات هو الأفضل"، ولما انتهت المناظرة لم يقرر أي دين يختار لكنه قسم مملكته إلى ثلاثة أقسام، وأعطى الأفضل للمسيحيين، والثاني للمسلمين، والثالث لليهود.
كذلك ظهرت رواية عن صلاح الدين في مجموعة ديكاميرون -وهي مجموعة أدبية ظهرت في منتصف القرن الرابع عشر- تروي أن صلاح الدين سأل اليهودي الذي كان يستدين منه أحيانا: أي الأديان أفضل اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؟ ولما أجابه إجابة حكيمة أعطاه هدايا نفسية جداً، وأبقاه في مركز مرموق ومشرف، وجعله من المقربين. وفي نفس هذه المجموعة الأدبية تأتي قصة أخرى عن صلاح الدين الذي يجيد اللاتينية ويتنكر في ثياب تاجر قبرصي مسيحي بالغ الرقة والتهذب، ثم ينقذ أصحابه التجار المسيحيين إذا وقعوا أسرى بيد المسلمين ويسبغ عليهم حمايته.
ومن المؤسف أن آثار بعض هذه الأساطير موجودة حتى اليوم في دراسات يُفترض فيها العلمية والتحرر من هذه الخرافات؛ فمن ذلك كتاب فرنسي صدر عام 2005، يذكر مؤلفاه أن "صلاح الدين كان قد درس في مدارس مسيحية"