بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
تجلى دور السيدة زينب عليها السلام بعد المأساة في كربلاء في عدد من المواقف البطولية التي كانت تحمل الكثير من التحدي للطاغية ولكل الواقع الذي كان يحيط به، فقد كان عليها أن لا تستسلم للواقع والمحيط الذي سيقت إليه، وأن تظهر وضاعة الطاغية وتكشف زيفه وحجمه الحقيقي وفظاعة الجريمة التي ارتكبها بحق آل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وألا تدع الدم المسفوح في كربلاء يذهب هدراً. وقد تمثلت قمة التحدي لدى زينب عليها السلام في موقفين بارزين أحدهما في قصر الكوفة أمام عبيد اللَّه بن زياد، والثاني في قصر الشام أمام يزيد بن معاوية نفسه.
* في مواجهة ابن زياد
ففي الموقف الأول عبرت زينب عليها السلام عن احتقارها واستهانتها بابن مرجانة، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بما حصل للحسين عليه السلام وأصحابه في كربلاء قائلاً: "الحمد للَّه الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم". فانبرت حفيدة الرسول بكل شجاعة وصلابة قائلة: "الحمد للَّه الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيراً، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا". لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمضى من السلاح وهي في قيد الأسر، وأنزلت بهذه الكلمات الطاغية من عرشه وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنه المفتضح والمنهزم وأن أخاها المنتصر. وهنا لم يجد عبيد اللَّه بن زياد لغة يتكلم بها سوى لغة التشفي بقتل عترة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قائلاً: كيف رأيت صنع اللَّه بأخيك؟! فأجابت بكل يقين: "ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب اللَّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللَّه بينك وبينهم، فتُحاج وتُخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أُمك يا ابن مرجانة".
* في مواجهة يزيد
في الموقف الثاني في الشام في بلاط يزيد بن معاوية وأمامه وثبت السيدة زينب عليها السلام كالأسد فسحقت جبروته وطغيانه بخطبة تعتبر من متممات النهضة الحسينية حيث قالت عليها السلام له بحضور حشد من أركان بلاطه والناس: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أن بنا على اللَّه هواناً وبك عليه كرامة! وأن ذلك لعظيم خطرك عنده! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا.. فمهلاً مهلاً، أنسيت قول اللَّه عزَّ وجلَّ ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾". وهي في هذا المقطع تبين غرور الطاغية وطيشه، فقد حسب أنه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء وسدت آفاق السماء إلا أنه انتصار مؤقت، ومن غروره وجهله أنه ظن أن ما أحرزه من الانتصار كان لكرامته عند اللَّه تعالى وهوان لأهل البيت عليهم السلام ولم يعلم أن اللَّه إنما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً ولهم في الآخرة عذاب مهين. وفي مقطع آخر بينت زينب عليها السلام أن الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلا دمه، ولم يفرِ إلا جلده، فإن تلك النفوس الزكية حية خالدة وقد بلغت قمة الشرف والكرامة، وأنه هو الذي باء بالخزي والخسران. قالت عليها السلام: "فواللَّه ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتردنَّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، وحيث يجمع اللَّه شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون﴾. وحسبك باللَّه حاكماً وبمحمد خصيماً وبجبرائيل ظهيراً وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً". وفي مقطع آخر أظهرت عليها السلام سمو مكانتها وعلو شأنها وكلمت الطاغية بكلام الأمير والسلطان، فاستهانت به، وحقرته، واستصغرت قدره، وترفعت عن محاورته وتعالت عن مخاطبته، ولم تبال بسلطانه ولا بجنده وبالرغم من كل ما ألمَّ بها من مصائب كانت أعظم قوة وأشد بأساً من الطاغية وجبروته. ثم تحدّت يزيد وعرضت إلى أنه مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت عليهم السلام فإنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً لأنهم مع الحق، والحق لا بد من أن ينتصر. قالت عليها السلام: "ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرى. فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فواللَّه لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمرنا ولا ترخص عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة اللَّه على الظالمين".
* في مواجهة الضغوطات
ولا تظهر شجاعة السيدة زينب عليها السلام وصلابتها وقوة مواقفها هذه وتلك إلا إذا لاحظنا الحالة التي كانت عليها عليها السلام عندما أطلقت هذه المواقف، وحالة يزيد وكذلك ابن زياد والأجواء المحيطة بها، حيث نجد في مقارنة سريعة بين الحالتين أن ثمة فارقاً كبيراً من عدة جهات:
1- أن زينب عليها السلام امرأة في مقابل رجل، هو عبيد اللَّه بن زياد في الكوفة ويزيد بن معاوية بالذات في الشام.
2- ويزيد هذا كما صاحبه ابن زياد هو الملك المهيمن، والسلطان القوي، الذي يملك كل وسائل القهر والقمع والتسلط والجبروت وعنده الرجال والسلاح ولديه الجاه العريض وغرور السلطان وعنجهيته وعنفوانه وزهوه، وكل ذلك له أثره في بث الرهبة والرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد والخلاف، فكيف إذا كان الطرف المقابل امرأة لا تملك من وسائل السلطان ولا من أسباب القوة المادية شيئاً.
3- ويزيد يمثل أيضاً أقصى حالات الطغيان والاستكبار فلا يرى أن أحداً قادر على أن يخضعه أو يحتقره ويستصغر قدره، أو أن يملي عليه رأيه وإرادته ويواجهه في عقر داره وفي مركز سلطانه، بل هو يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه وطموحاته. يزيد هذا تتحداه زينب عليها السلام، وتقف بكل شجاعة وقوة وفي عقر داره وبين عبيده ورجاله لتوبخه وتحتقره وتنكر عليه انحرافه وجرائمه ثم تتوعده بالخزي والخسران.
4- إضافة إلى ذلك أن يزيد يجلس في بيته وقصره، ويعيش الأمن والأمان والاستقرار لأنه في بلده وبين أهله وجنده وحاشيته يتربع على العرش كالطاووس، بينما زينب عليها السلام في موقع الخطر لا أمان لها وهي غريبة أسيرة مكبلة بالقيود ومحاطة بالأوغاد والسلاح.
5- ثم هو يعيش زهو النصر بعد أن حقق رغباته في قتل ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقضى على محاولاته في الثورة والنهوض ضد ظلمه وطغيانه، كما أنه يعيش العز الظاهري من موقع انتصاره الآني، بينما زينب عليها السلام تعيش مرارة الهزيمة وحزن الانكسار وفقد الأحبة، وذل الأسر والسبي هي ومن معها من عترة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.
* الدروس الزينبية
كانت هذه بعض لمحات الواقع الذي واجهته زينب عليها السلام التي هي من جنس البشر ومن لحم ودم، ولها مشاعرها وأحاسيسها، وقد واجهت عليها السلام كل هذا الواقع الصعب والمرير بصبر وثبات، ولم تكن تملك إلا نفسها وقوي إرادتها وقويم وعيها وطلاقة لسانها وأصالة رأيها وقوة حجتها، ولم تبال بحشود يزيد ولا بسلطانه وملكه، ولا برجاله وسلاحه، ولا بمكره وخداعه. ولم يؤثر شيء من ذلك كله، في سلب إرادتها أو في ثنيها عن قول كلمة الحق أمام ذلك السلطان الجائر متمردة عليه في صميم محيطه وبيئته. إن مواجهة زينب عليها السلام لضغوطات واقع الانحراف والطغيان، في أشد الأمور حساسية وأهمية وهي لا تملك إلا وعيها وإرادتها وثقتها بربها وشجاعتها وقوة منطقها ثم تحركها في وكر يزيد وابن زياد وفي صميم محيطهما لمواجتهما ومواجهة جرائمهما بكل جرأة وصلابة يدل على أنه لا مجال للاستسلام والخضوع للظالم بحجة ضغوطات الواقع والمحيط أو السلطة وامتلاك وسائل القهر والبغي، كما أنه يدل على أن للمرأة قوة حقيقية وقدرة على أن تواجه بإرادتها ووعيها أعتى القوى الظالمة وأشدها بغياً واستكباراً، وأن يكون لمواقفها هذه انعكاسٌ ايجابيٌ على القضايا الكبرى، فالمواقف البطولية التي وقفتها السيدة زينب عليها السلام في الكوفة، ثم في الشام وبعد ذلك في المدينة جعلت من كربلاء تاريخاً خالداً يتجدد على مدى الزمان والمكان.