بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لأنّ ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124)، كانت الرسالة هبة خاصّة لا تتوفر بالكسب والتهذيب والتزكية وأمثالها، بل إنها ربط خاص بين إنسان كامل وبين خالقه، ولأنّ ﴿لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾ (النجم: 39-41)، كانت شخصيّة السيدة زينب عليها السلام بشكلها وتكاملها في إطار من التفاعل الحيوي الوظيفي، ما بين القوى الفطريّة وبين خصائصها النمائيّة والمعرفيّة، التي شكّلت فيما بعد هويتها الذاتيّة من خلال رحلة تجربتها الوجوديّة التي عانتها.
*النموذج الإنساني الأرقى
إنّ هذه السيدة الجليلة قد اقترن اسمها بواقعة كربلاء، التي أجمع المؤرخون على أنها منعطف بارز في التاريخ الإسلامي عامة، وفي تاريخ الشيعة خاصة.
لقد حضرت السيدة زينب عليها السلام بشخصيّة رياديّة تختزن من الخصوصيّة والفرادة على نحو يصعب معه سبر كنهها وبلوغ أسرارها. كيف لا وهي التي استطاعت أن تُثْبت، وبجدارة، من خلال مواقفها عامة، وخطبها خاصة، النموذج الأرقى الذي تجذّر في ذاكرة الإنسانية بحيث يستحيل معه السقوط أو التخاذل، بل العكس، فهو يُكسب الوعي الإنساني القدرة على فهم المعاناة والألم، فيسلك طريق المحب حنيناً وشوقاً إلى الخلاص ثم العبور من العلم إلى العين، ومن السماع إلى اللقاء.
*ما رأيت إلّا جميلاً
شهدت السيدة زينب عليها السلام أحداثاً وتبعات ثلاثة عهود: عهدة النبوة، وعهد الخلافة ثم قيام الدولة الأمويّة، ما جعل حياتها حافلة بقضايا التاريخ في بنيته النفسيّة والاجتماعية والسياسية والدينيّة.
"ما رأيت إلّا جميلاً"(1) لسان حال السيدة زينب عليها السلام لما أُدخلت مع السبايا إلى مجلس ابن زياد الذي أقبل إليها سائلاً إياها بخبث وحقد: "كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ وأهل بيتك؟" فشمخت بقوة الانتماء وصلابة الإيمان، ونظرت إليه ساخرة منه، وبلحظة جمعت فيها، وبسرعة مدهشة، كلّ ما تبعثر منها، من حطام هنا، وما تفرق من ألم وما تشتت منها هناك، وقفت تتكئ على الجراح، ونطقت بأمل الوعد الصادق من قلب الألم الجارح، أيّ انتصار حققته بعبارة ليس مجموعها أكثر من بضع كلمات، ترى، أيّ الخيوط نَسجْتِها من نول معرفتِك أيتها "العالمة غير المعلّمة، والفهمة غير المفهّمة"!(2).
*الحياة من رحم الموت
لقد دكّت السيدة زينب عليها السلام بكلماتها تلك صرحاً وهميّاً كان يُراد له أن يُبنى بالباطل، وفضحت أكذوبةً عُمل عليها كي يصدقها الناس. لقد أخرجت، وبصدق، الفكر الإنساني قديمه وحديثه من أقبية الهزائم إلى نصر مؤزر، يتجلى فيه الجمال في زمن القهر والظلم والألم. وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الحياة تولد من رحم الموت، ومن داخل الحفر، لقد مشت فوق النزف وأسكنت الوجع إلى حين، فبكته الأمة مجالس عزاء كانت فيها دروس وعبر.
إنّ هذه السيدة العظيمة أعدّت أمة كاملة برجالها ونسائها، أمة طيبة الأعراق. وعليه، فإن امرأة بهذا الزخم، وبهذا العطاء، تجاوزت بشخصها دائرة جنسها، وتخطت بدورها حدود طائفة أو مذهب، لتنفتح على كونيّة العالم المحيط فترفع بيدها. إنها إشراقات نور لم يستطع غبار هنا أو تشويش هناك أن يمنع الأجيال أن تتشرّب أرواحها ضوء تلك الإشراقات.
1.السيد الشيرازي، كلمة السيدة زينب عليها السلام، دار القارئ، ط2، 2000، ص29.